كتاب الثلاثة الكبار في علم الاقتصاد
آدم سميث .. كارل ماركس .. جون ماينارد كينز . جولة تاريخية في علم الاقتصاد
الثلاثة الكبار في علم الاقتصاد كِتاب شَيِّقٌ منْ إصدارِ المركزِ القوميِّ للتَّرجمةِ من تأليفِ مارك سكويسين، وترجمةِ مجدي عبد الهادي. بدايةً يجبُ أنْ نُشيرَ إلى أنَّ الكاتبَ مُتحيِّزٌ لأفكارِ “آدم سميث” وهو يعلنُها صراحةً في مقدّمةِ الكتابِ، وهذا ما أثَّرَ على بعضِ الآراءِ الواردةِ في الكتابِ أثناءَ عرضِ الأفكارِ الاقتصاديَّةِ للثَّلاثةِ الكبارِ.
آدم سميث يعلنُ ثورةً اقتصاديَّةً :
جاء عام 1776 م عندما اتَّسعَتِ الآمالُ وارتفعَتْ توقعَّاتُ الإنسانِ العاديّ الكادحِ لأوَّلِ مرَّةٍ، إنَّها الفترةُ المَعروفةُ “بالتَّنويرِ“، فلأوَّلِ مرَّةٍ في التَّاريخِ أصبحَ العُمَّالُ يتَطلَّعونَ للحصولِ على حدٍّ أدنى منَ المأكلِ والمَلْبسِ والمأوى، حتَّى الشَّاي الذَّي كانَ في عدادِ الرَّفاهيةِ أصبحَ مشروبًا شعبيًّا. كانَ التَّوقيعُ على “إعلانِ الاستقلالِ الأمريكيِّ” واحدًا منْ عدَّةِ أحداثٍ مُهمَّةٍ في ذلكَ العامٍ، تحتَ تأثيرِ شعاراتِ -جون لوك وتوماس جيفرسون- بأنَّ “الحياةَ والحريَّةَ والسَّعي للسَّعادةِ” هي حقوقٌ لايمكنُ مُصادرَتُها، وهذهِ الشِّعاراتُ هي الإطارُ القانونيّ لأمَّةِ مُناضلةٍ ستصبحُ تدريجيًّا القُوَّةَ الاقتصاديَّةَ الأعظمَ على الأرضِ.
في العامِ نفسِهِ يَصدُرُ كتابٌ بارزٌ وهو: “بحثٌ في طبيعةِ وأسبابِ ثروةِ الأممِ” وكانَ الكاتِبُ هو “آدم سميث”، وهو فيلسوف أخلاقي وعالم اقتصاد اسكتلندي ( ١٧٢٣م-١٧٩٠م )، لقدْ كانَ الكِتابُ طلقةً ذهنيَّةً دَوَت في جميعِ أنحاءِ العالمِ، استلهمَ “سميث” نموذَجَهُ المُسمَّى اليوم “الاقتصاد الكلاسيكي” من نموذَجِ “إسحق نيوتن” الذَّي كانَ سميث مُعجبًا بنموذجِهِ للعلومِ الطَّبيعيَّةِ بوصفهِ نموذجًا كونيًا مُتناغمًا .
كانت عقبَةُ سميث هي إقناعُ الآخرينَ ليقبلوا نموذجَهُ وخصوصًا المُشرِّعِينَ، وكان يسعى لتدميرِ النَّظرةِ التَّقليديَّةِ للاقتصادِ التَّي تَّسمحُ للميركنتيلين بالسَّيطرةِ على المصالحِ التِّجاريَّةِ والسُّلطاتِ السِّياسيَّةِ والذَّين نشروا الاعتقادَ بأنَّ اقتصادَ العالمِ راكدٌ وثروتُهُ ثابتةٌ، ولذلكَ فنموّ أمةٍ لايمكنُ أنْ يَتحقَّقَ سوى على حسابِ أمَّةٍ أخرى، والثَّروةُ عُمومًا تُكتسَبُ على حسابِ الآخرينَ أو باستغلالِ إنسانٍ لإنسانٍ .
فوفقًا للنِّظامِ المَعمولِ بهِ حينَها- النظام الميركنتيلي-، كانتِ الثَّروةُ متألفًة كليًّا منَ النُّقودِ في حدِّ ذاتِها والتَّي كانتْ تعني وقتَها الذَّهبَ والفضَّةَ، وللحصولِ على النُّقودِ كانَ نموُّ الأُممِ يَعتمِدُ على الافتراسِ والنَّهبِ مثلما فعلَتْ أممُُّ مثلُ إسبانيا والبرتغال التَّي أرسلَت مَبعوثِيْها إلى الأراضي البعيدةِ لاكتشافِ الذَّهبِ وكانَ النِّظامُ الميركنتيلي يُشجِّعُ التَّصديرَ ويثبطُ الاستيرادَ ليراكِمَ الثَّروةَ ( الذَّهبَ والفضَّة ) منْ وجهَةِ نَظرِهِ، وهذا مادفَعَ سميث للهجومِ على الحواجزِ التِّجاريَّةِ فيقولُ: “صناعاتٌ كالنَّظَّاراتِ والحوائطِ المُتحرّكةِ والعنبِ الممتازِ كلَّها يمكنُ أنْ تزدهرَ في اسكتلندا، لكنَّ مُحاولةَ إنتاجِ النَّبيذِ في اسكتلندا ستكلِّفُ ثلاثةَ أضعافِ تكلفةِ استيرادِهِ منْ فرنسا، فهل يكونُ منطقيًّا فرضُ قانون يمنعُ استيرادَ كلِّ الخمورِ الأجنبيَّةِ لمجرَّدِ تشجيعِ صناعةِ خمرِ الكلاريت والبورندي في اسكتلندا ؟!”
كانَ آدم سميث يعتقدُ أنَّ ثروةَ الدَّولةِ تتمثَّلُ في رُخصِ المُؤَنِ الحياتيَّةِ، وكذلكَ في كلِّ الضَّروريَّاتِ الأُخرى ووسائلِ الحياةِ المُريحةِ كافةً، ولذلكَ كانَ يُهاجِمُ الميزانَ التِّجاريَّ المُوجبَ والمزيدَ من الذَّهبِ والفضَّةِ ويَستبدلهُمَا بأسلوبِ إدارةٍ متفوِّقٍ في تقسيمِ العملِ، وهذا ما دعا سميث في كتابهِ لشرحِ طريقةِ عَملِ مَصنعِ الدَّبابيسِ حيثُ تخصَّصَ العاملونَ في ثماني عمليَّاتٍ مستقلَّةٍ لتعظيمِ النَّاتجِ من الدبابيسِ، وعلاوةً على ذلكَ فإنَّ توسيعَ السُّوقِ عبرَ التِّجارةِ الدَّوليَّةِ سيعني أيضًا توسيعَ نطاقِ عمليَّاتِ التَّخصُّصِ وتقسيمِ العملِ، وهكذا عبرَ الإنتاجيَّةِ المُتزايدةِ والوفُورَاتِ الإنتاجيَّةِ والعملِ الشَّاقِ سيتزايدُ الإنتاجُ العالميُّ، وهكذا الثَّروةُ لمْ تعدْ ثابتة قطُّ، وتستطيعُ البلدانُ المختلِفَةُ بالتَّالي النُّمو والاغتناءَ دونَ إيذاءٍ أو استغلالِ للآخرين.
إذنْ الحلُّ هو حريَّةُ أنْ يفعلَ المرءُ ما يريدُ معَ تَدَخّلٍ ضئيلٍ منَ الدَّولةِ، تلكَ الحريَّةُ التَّي تشجِّعُ حريَّةَ حركةِ العملِ ورأسِ المالِ والنُّقودِ والسِّلعِ، فتلكَ الحريَّةُ لنْ تَقودَ لحياةٍ ماديَّةٍ أفضلَ فقط؛ بلْ هي حقٌّ من حقوقِ الإنسانِ الأساسيَّةِ، إذْ تتضمَّن الحريّةُ الاقتصاديَّةُ حسبَ سميث أنْ تَشتري السِّلعَ منْ أيِّ مصدرٍ دونَ أيِّة قيودٍ من تعريفاتٍ جمركيَّةٍ أو حصصِ استيرادِ كميَّةٍ، وهي تشمَلُ الحقَّ في العملِ في أيَّ مهنةٍ يريدُها الفرد وفي أيِّ مكانٍ يريدُ، وهذا عكس ما كانَ يحدثُ في القرنِ الثَّامن عشر منْ وجوبِ أنْ يحصلَ العاملونَ على إذنِ الحُكومةِ للحركةِ منْ مدينةٍ لأخرى، وتتضمَّنُ الحريَّةُ الاقتصاديَّةُ أيضًا تحريرَ أجورِ العُمَّالِ وعدمَ فرضِ قيودٍ عليها، فقد عارضَ سميث بقوَّةٍ مجهودات الدَّولةِ لتنظيمِ ورفعِ الأجورِ بشكلٍ مُصطنَعٍ، فكتبَ:
“كُلَّما حاولَ القانونُ تنظيمَ أجورِ العُمَّالِ فإنَّهُ في الواقعِ يَخفضُها بدلًا منْ أنْ يرفعَهَا”.
اليدُ الخفيَّةُ :
بدأ سميث كتابَهُ بمناقشةِ كيفيَّةِ خلقِ الثَّروةِ والرَّفاهيةِ منْ خلالِ نظامِ السُّوقِ الدِّيمقراطيًّةِ الحُرَّةِ، وألقى الضَّوءَ على ثلاثِ خصائصَ لهذا النَّموذجِ الكلاسيكيِّ أو النِّظامِ ذاتِيِّ التَّنظيمِ: “الحريَّة، المنافَسةَ، العدالةَ”، وجادلَ سميث بأنَّ هذهِ العناصرَ الثَّلاثةَ ستقودُ لتناغمٍ طبيعيٍّ ما بينّ مصالِحِ العُمَّالِ ومُلاَّكِ الأراضي والرَّأسماليّينَ، وعلى نطاقٍ أوسعَ فإنَّ المصلحةَ الذَّاتيَّةَ الحُرَّةَ لملايين الأفرادِ سوفَ تَخلقُ مجتمعًا مُستقِرًا ومُزدهِرًا دونَ الحاجةِ لتوجيهٍ مركزيٍّ منَ الدَّولةِ، وغالبًا ما يسمَّى مذهبُهُ- آدم سميث- في المصلحةِ الذَّاتيَّةِ المُستنيرَةِ ب ” اليدِ الخفيَّة “، فيقولُ: ” منْ خلالِ سعيهِ الخاصِ خلفَ مصلحتِهِ الذَّاتيَّةِ البحتةِ، يُقادُ كلُّ شخصٍ بواسطةِ يدٍ خفيَّةٍ لخدمةِ المصلحةِ العامَّة” وقدْ أصبحَ مذهبُ سميث في اليدِ الخفيَّةِ رمزًا شائِعًا لرأسماليَّةِ السُّوقِ الحُرَّةِ.
ماركس يقودٌ ثورةً على الرأسماليَّةِ :
كارل هانريك ماركس فيلسوف ألماني واقتصادي وعالم اجتماع ومؤرخ ( ١٨١٨م-١٨٨٣م) . يصفُ كتاب الثلاثة الكبار في علم الاقتصاد أفكارَ ماركس على النحو التالي:
“إذا كانَ عملُ آدم سميث هو سِفْرُ تكوينِ الاقتصادِ الحديثِ، فإنَّ عَملَ ماركس هو سِفْرُ خروجِهِ، وإذا كان الفيلسوفُ الاسكتلندي الخالقُ العظيمُ “لدَعْهُ يَعملْ دَعْهُ يمرْ”، فإنَّ الثَّوري الألمانيّ هو مُدمّرُها العظيمُ”
ويُقرُّ الماركسيّ جون رومر هذا الوصفَ ويرى أنَّ “الفارقَ الرَّئيسيَّ بينَ سميث وماركس هو أنَّ سميث قالَ: إنَّ سعي الأفرادِ خلفَ مَصالِحِهم الذَّاتيَّةِ سيقودُ للفوضى والأزماتِ وتَحلّلِ النُّظامِ نفسه ِالقائمِ على الملكيَّةِ الخاصَّةِ، وإنْ كانَ سميث تحدَّثَ عن يدٍ خفيَّةٍ تُرشِدُ الأفرادَ ومُمثّليّ المصالحِ الذَّاتيَّةِ للعملِ بطريقةٍ تُحقّقُ الأمثلَ اجتماعيًا على الرَّغمِ من عدمِ انشغالِهُم بالنَّتائجِ العامَّةِ لأفعالِهُمُ، فإنّ الماركسيَّة تَصِفُها بأنَّها القبضةُ الحديديَّةُ للمُنافسةِ التَّي تسحقُ العُمَّالَ وتَجعلُ حالتَهُم أسوأ ممَّا لوعاشوا في ظلِّ نظامٍ آخرَ أكثرَ ملائمةً؛ أي نظامٌ يقومُ على الملكيَّةِ العامَّةِ أوالاجتماعيَّةِ”.
أسسَّ ماركس مدرستَهُ الفكريَّة الخاصَّة بمنهجيَّتِها ولُغتِها المُتخصَّصةِ، وفي سياقٍ خلَقَهُ لمدرستِهِ في عملِهِ الكلاسيكيِّ “رأس المال” عارضَ بنظامِهِ نظامَ “دَعْهُ يَعملْ دعْهُ يمرْ” كما صورَّهُ آدم سميث وجان باتسيت ساي وديفيد ريكاردو وغيرهم، وكانَ ماركس أوَّل منْ أطلقَ على مدرسة “دعْه يعملْ دعْه يمر” اسم “المدرسة الكلاسيكيَّةِ”،وفي سياقِ تطويرِهِ للمدخَلِ الماركسيّ في الاقتصادِ خلقَ ماركس مفردَاتِهِ الخاصَّةَ، وهي: فائِضُ القيمةِ، وإعادةُ الإنتاجِ، والبرجوازيَّةُ والبروليتاريا، والماديَّةُ التَّاريخيّة، والاقتصادُ الفجُّ، والرَّأسماليّةُ الاحتكاريَّة … إلخ، كما أنَّه هو منْ اخترعَ لفظَ الرَّأسماليَّةِ، وبصفةٍ عامَّةٍ لمْ يعد الاقتصادُ بعده كما كانَ قبلَه.
يشيرُ الكاتبُ إلى أنَّه على الرَّغمِ منْ يهوديَّةِ ماركس إلَّا أنَّه عُمِّدَ كمسيحيِّ، ولذلكَ نجدُ أنَّ الإنجيلَ ساعدَ في تشكيلِ تعاليم ماركس عن الاغترابِ والصِّراعِ الطَّبقيّ والإطاحَةِ الثَّوريَّةِ بالمجتمعِ البرجوازيِّ والرَّخاءِ الألفيّ بلا دولةِِ ولاطبقاتِِ، لقد كانَ الكثيرُ من عقائد ماركس غير أصيلٍ؛ بل جاءَ منَ الإنجيلِ، الذَّي لَوَاهُ وغيَّرَهُ ليناسِبَ أغراضَهُ.
وعلى صعيدٍ آخرَ كانَ لاثنينِ منَ الفلاسفةِ الرَّاديكاليِينَ تأثيرٌ عظيمٌ على ماركس أثناءَ فترةِ دراستِهِ الجامعيَّةِ وما بعدها، وهما: هيجل ومعاصرِهُ فيورباخ، وانطلاقاً منْ هيجل طوَّر ماركس القُوَّةَ الدَّافعَةَ لمذهبِهِ “الماديّة الجدليّة” التَّي ترى أنَّ أيّ تقدمٍ إنَّما يتحقَّقُ من خلالِ الصّراعِ، بينما عَقْلَنَ من خلالِ عملِ فيورباخ “جوهر المسيحية” رؤيتَه الأسطوريَّةَ للدّينِ، كذلكَ تأثَّرَ ماركس بفاوست جوته وكانَ هو إنجيلَ ماركس طوالَ حياتِهِ، وكانَ يُحبُّ شكسبير للدَّرجةِ نفسِها، والذَّي استشهدَ بهِ في انتظامٍ.
نشرَ ماركس معَ رفيقِ سلاحِهِ إنجلز “البيان الشّيوعيَ” في ألمانيا في فبراير/شباط 1841م، حيثُ لمْ يكنْ هناك َتوقيتٌ أفضلُ، إذ بحلولِ الصَّيفِ انتشرتِ الثَّوراتُ العُماليَّةُ في جميعِ أنحاءِ أوروبا، في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وفي استراليا، وكانَت خيالاتُ الثّورةِ الفرنسيَّةِ للجيلِ السَّابقِ قد سيطرَت على روحِ العصرِ، ومع ذلك تمَّ قمعُ تلكَ الثَّوراتِ بسرعةٍ، كما قَبَضَ البوليسُ البلجيكيّ على ماركس لانفاقِهِ على تسليحِ العُمّالِ البلجيكيِينَ بالبنادقِ وأُطلِقَ سرَاحُهُ منَ السِّجنِ لينتقلَ إلى كولونيا في ألمانيا، حيثُ حرَّرَ مجلةً أخرى وطبعَ عددَها الأخيَر بالحبرِ الأحمر، لون الثَّورة.
توَّجَ ماركس أعمالَهُ بكتابهِ الكلاسيكيّ “رأس المال” الذَّي نَشرَهُ بالألمانيَّةِ عامَ 1868م، ويقدِّمُ رأسُ المالِ مفهومَ الحتميَّةِ الاقتصاديَّةِ ونظريَّةَ “استغلالٍ جديدةٍ عنْ الرأسماليَّةِ تقومُ على “قوانينَ” علميّةٍ عالميَّةٍ اكتشفَها ماركس، وحاولَ ماركس تقديمَ نموذجٍ بديلٍ للاقتصادِ الكلاسيكيّ لآدم سميث، ويهدفُ هذا النَّموذجُ إلى إثباتِ أنَّ الرَّأسماليَّةَ تُعاني عُيوبًا قاتلًة حيثُ أنَّها تُفيدُ بطبيعتِها الرَّأسماليِينَ وكبارَ رجالِ الأعمالِ وتَستَغلُّ العُمَّالَ حيثُ تخفضُ شأنَ العملِ إلى مُجرّدِ سلعةٍ مُسعَّرةٍ بلا روحٍ، وأنَّها مُعرَّضةٌ باستمرارٍ لأزماتٍ بشكلٍ سيجعلُها تُدَمِّرُ نفسَها حتمًا.
وجدَ ماركس النِّظامَ الرّيكاردي مُناسبًا تمامًا لنموذجِه عنِ الاستغلالِ الرَّأسماليَ، فكانَ ريكاردو مُلهِمَهُ في الاقتصادِ، ريكاردو ركَّزَ في نظامِهِ على الانتاجِ وكيفيَّةِ توزيعِهِ بينَ الطَّبقاتِ الكبيرةِ: مُلَّاك الأراضي والعُمَّالِ والرَّأسماليينَ، وكانَ ريكاردو وخليفَتُه جون ستيوارت ميل قد حاولَا تحليلَ الاقتصادِ من زاويةِ الطَّبقاتِ لا منْ زاويةِ الأفرادِ، ففي نظامِ ريكاردو الطَّبقيّ يلعبُ العملُ دورًا حاسمًا في تحديدِ القيمةِ، وادَّعى ريكاردو ومن بعدِهِ ماركس أنَّ العملَ هو المنتجُ الوحيدُ للقيمةِ، فقيمةُ السُّلعةِ لابدَّ أنْ تكونَ مُساويةً كميَّا لعددِ ساعاتِ العملِ المُوظَّفةِ في صنعها، أمَّا فيما يتعلَّقُ “بفائضِ القيمةِ” وهو مُصطلحٌ ماركسيّ يُقصدُ بهِ الأرباحُ والرَّيعُ، فيقولُ ماركس: “بأنَّهُ يجبُ أنْ يذهبَ للأجورِ”.
وعلى الرَّغمِ من أنَّ ماركس توصَّلَ إلى أنَّ الشُّيوعيَّة حتميَّةٌ، إلَّا أنَّه شَعرَ أنَّ الثَّورةَ ضروريةٌ لتحقيقِها، فكان ماركس داعيًا للإسقَاطِ العنيفِ للحكومةِ وتأسيسِ حكومةٍ اشتراكيَّةٍ ثوريَّةٍ، ودعا ماركس أيضًا إلى “ديكتاتورية بروليتارية” شموليَّة، وفضَّل الإلغاءَ الكاملَ للملكيَّةِ الخاصَّةِ استنادًا لنظريَّتِه القائلةِ: بأنَّ المُلكيَّةَ الخاصةَ كانت سببَ الجُوعِ والصِّراعِ الطَّبقيّ وباعتبارِها شكلًا من أشكالِ العُبوديَّةِ، ودعا ماركس وإنجلز “لإلغاء النقود”، ففي رأيهِما يمكنُ للإنتاجِ والاستهلاكِ أنْ يَستمرَّا ويزدهرا من خلالِ التَّخطيطِ المركزيِّ دونَ تبادلٍ أوعملةٍ، ونادى ماركس وإنجلز بإلغاءِ الأُسرةِ التَّقليديَّةِ في محاولةٍ “لوقفِ استغلالِ الأبوين لأطفالِهُم” و”لدعم المُجتَمعِ النِّسائيّ”، وأشارَ ماركس إلى أنَّ “الدّين أفيونُ الشُّعوبِ” وأنَّ الشُّيوعيَّةَ تُلغِي الحقائقَ الأبديَّةَ، فهي تُلغي الدِّين والأخلاق.
جون ماينارد كينز … الرَّأسماليَّةُ تُواجِهُ تحدِّيَها الأعظمَ :
لقد غدا النِّظامُ الرَّأسماليّ القائِمُ على الحريَّةِ الطَّبيعيَّةِ، الذَّي وضعَ أُسسَهُ آدم سميث ونقَّحَتْهُ الثَّورةُ الحديَّةُ، وصَقلَهُ مارشال وفيشر والنِّمساويون، وأصبَحتِ الفضائلُ الكلاسيكيَّةُ كالتَّدبيرِ والميزانياتِ المُتوازنةِ والضَّرائبِ المُنخفضةِ وقاعدةِ الذَّهبِ وقانون ساي تتعرَّضُ للهجومِ بشكلٍ لمْ يسبقْ لهُ مثيلٌ، وغدا البناءُ الذَّي بناهُ آدم سميث مُهَددًا بالانهيارِ، حيث دفعَ الكسادُ الكبيرُ في ثلاثينياتِ القرنِ العشرين مُعظمَ الأكاديميَّةِ الاقتصاديَّةِ– الأنجلو أمريكية – للتَّشكُّكِ في اقتصاديَّاتِ دَعْهُ يعملْ دعْهُ يمرْ الكلاسيكيَّةِ وفي قدرةِ نظامِ رأسماليَّةِ السوقِ الحرُّة على تصحيحِ نفسِه بنفسِه، وتَمَحورَ الهُجومُ على مستويَينِ، وهما : الطَّبيعة التَّنافُسيَّة للرَّأسماليَّةِ – مستوى جزئي- واستقرارِ الاقتصادِ العامّ -مستوى كُلّي- وأصبحَت الماركسيَّةُ موجةً رائِجةً في الجامعاتِ وبينَ المُثقَفِين.
وفي خِضَمِّ ذلكَ سعى اقتصاديون أكثرُ اعتدالًا لبدائِلَ عنْ الاشتراكيَّةِ الكاملةِ والتَّأميمِ والتَّخطيطِ المركزيّ، ولِحُسنِ الحظِّ كانَ هُناك صوتٌ قويُّ يُنادِي بحلٍّ وسطٍ وطريقةٍ للحفاظِ على الحُريَّةِ الاقتصاديَّةِ بدلًا منْ أن تُسيطِرَ الحكومةُ على مُجمَلِ الاقتصادِ وتُدَمِّرَ أُسسَ الحضارةِ الغربيَّةِ، لقد كانَ جوْن ماينارد كينز زعيمَ مدرسةِ كامبردج الجديدةِ.
ففي كتابِهِ الثَّوري ّ الصَّادرِعام 1936م “النَّظريّةُ العامَّةُ للتَّشغيلِ والفائدةِ والنُّقودِ” تحدَّث كينز – (عالم اقتصاد بريطاني ١٨٨٣م-١٨٦٤م) أنَّ الرَّأسماليَّةَ غيرُ مُستقِرَّةٍ بطبيعتِها وليسَ لديها ميلٌ طبيعيٌّ للاتجاهِ للعمالةِ الكاملةِ، لكنَّه في الوقتِ نفسِه، رفضّ تأميمَ الاقتصادِ ومُحاولاتِ التَّحكُمِ في الأجورِ والأسعارِ والتَّوسُلِ بقواعدِ الاقتصادِ الجزئيِّ للتَّأثيرِ في العَرضِ والطَّلبِ، فكلُّ ما يتَطلَّبُهُ الأمرُ هو أنْ تَأخُذَ الحكومةُ عَجَلَةَ القيادةِ الرَّأسماليَّةِ الضَّالَّةِ والعودة بها إلى طريقِ الازدهارِ، فكيف؟
ليسَ بخفضِ الأسعارِ – المدخل الكلاسيكي – بلْ بزيادةِ العجزِ الفيدراليّ عمدًا وإنفاقِ الأموالِ على الأشغالِ العامَّةِ التَّي تَزيدُ “الطَّلبَ الكُلّي” وتعيدُ الثِّقةَ، ومتى عادَ الاقتصادُ للمسارِ الصَّحيحِ ووصلَ للعمالةِ الكاملةِ، فلنْ يكونَ على الحُكومةِ الاستمرارُ في الإنفاقِ بالعَجزِ وسيعودُ النَّموذجُ الكلاسيكيُّ للعملِ بشكلٍ سليمٍ، وكتبَ كينز نفسُهُ: “لكن فيما وراء هذا ليسَ هناكَ أيُّ دعوة لنظامِ اشتراكيَّةِ دولةٍ تَشملُ مُعظمَ الحياةِ الاقتصاديَّةِ للمُجتَمعِ.” وقد كانَت رسالَتُهُ بسيطًة حقًّا برَغمِ ثوريَّتِها :”للبطالةِ واسعةِ النِّطاقِ سببٌ واحدٌ هو عدمُ كفايةِ الطَّلبِ، وحلُُّ بسيطٌ هو سياسةٌ ماليََةٌ توسُعيَّةٌ”.
لقد غيَّرَ نموذجُ كينز لإدارةِ الطَّلبِ الكُلّيّ الاقتصادَ (وكانَ يُطلقُ عليهِ العِلمَ الكئيبَ) ليصبِحَ ناديًا للمتفائلِينَ -فالإنسان يستطيع أن يصبح سيد مصيره الاقتصادي في النهاية- كما أنَّ دعوَاهُ بأنَّ الحكومةَ تستطيعُ توسيعَ أو تقليصَ الطَّلبِ الكلّيّ حسبما تتطلَّبُ الظُّروفُ، بدَت قادرةً على القضاءِ على الدَّورةِ الكامنةِ في الرَّأسماليَّةِ دون أنْ تُلغي الرَّأسماليَّةُ نفسَها، وباختصارٍ، فقد نُظِرَ لسياساتِ الحلِّ الوسطِ لكينز لا كتهديدٍ للمُنشأةِ الحُرة بل كمُنقِذٍ لها، وفي الحقيقةِ أوقفَتْ الكينزيَّة تقدُّمَ غريمتَها الأساسيَّةَ – الماركسيَّة- بشكلٍ كاملٍ في البُلدانِ المُتقدّمَةِ.
لقد كانَ مذهبًا جديدًا ومُثيرًا، وبدايًة لمجالٍ جديدٍ كاملٍ من البحثِ سُمِّيَ “الاقتصاد الكلّيَ” فَمعَ كينز حدثَ الانقسامُ في علمِ الاقتصادِ بينَ الاقتصادِ الكلّيّ -الذَّي يدرسُ المَجامِيعَ الاقتصاديَّةَ كمستوى الأسعارِ وعرض النُّقودِ والنَّاتج المحلّيّ الإجماليّ-، وبينَ الاقتصادِ الجُزئيِّ الذَّي يَختصُّ بنظريَّةِ المُستَهلِكِ الفردِ وسُلوكِ المُنشأةِ.
كانَ كينز يَملكُ سُمعةً طيّبةً ساحرةً في تجارةِ العُملاتِ والسِّلعِ والأسهُمِ، وقدْ احتوى حسابُهُ الشَّخصيّ وديعةً ضخمةً منَ السِّلعِ والأسهمِ وكانَ مَعرُوفًا باتّخاذِهِ قراراتِ التَّداولِ بينما لا يزالُ في الفِرَاشِ، فالتَّقاريرُ كانت تَرِدُهُ تليفونيًا من سماسرَتِهِ فيقرأُ الصُّحفَ ويتَّخِذُ القرارات وعلى الرّغمِ منْ عَدمِ توقُّع كينز للانهيار فقد سبّبَ ذلك تبخُّر محفظتِه وخسارة ثلاثةَ أرباع ثروتِهِ إلَّا أنَّهُ استمرَّ في الاستثمارِ حتَّى ماتَ ثريًا، ولكنَّ فشلَهُ في توقّعِ الانهيارِ والكَسَادِ الكبيرِ تركَ أثرًا عميقًا في تفكيرِهِ، وعزّزَ هذا رفضَهُ السَّابق لمبدأ “دَعْهُ يعملْ” بوصفهِ مبدأ عامًا مُنظِّمًا للمجتَمعِ وعزَّزَ رفضَهُ للاقتصادِ الكلاسيكيّ التَّقليديّ، وهاجَمَ المُكتَنِزِينَ والمُضَارِبينَ والمَهووسِينَ بالذَّهبِ بينما كانَ يدعُو للإنفاقِ بالعجزِ وللتَّضخُمِ وللتَّخلِّي عن قاعدةِ الذَّهبِ كحلول للرُّكودِ، و لمْ يكن هذا هو الأمرُ الوحيدُ الذَّي هاجَمَهُ كينز في الاقتصادِ الكلاسيكيّ ولكنَّهُ هاجمَ مَفهومَ التَّوازنِ الذَّاتّي في نظامِ السُّوقِ، واعتبرَ نظامَ السُّوقِ مَعيْبًا بطبيعتِهِ وبشكلٍ لا مفرَّ منهُ، فقد كانَ يرى أنَّ الرَّأسماليَّةَ غيرُ مُستَقرَّةٍ، واختلفَ أيضًا مع الكلاسيكيّينَ في التَّصرُّفِ الأمثلِ وقتَ الرُّكودِ، فكانَ حلُّ كينز للرُّكودِ هو زيادةُ الإنفاقِ الحُكوميِّ، فلو تمَّ تَحفيزُ الطَّلبِ بإنفاقٍ إضافيّ فإنَّ المزيدَ من السِّلعِ سيتمُّ إنتاجُها وسيتعافى الاقتصادُ، وهذا عكسُ الحلِّ الكلاسيكيّ للرُّكودِ الذَّي كانّ يقومُ على “شدِّ الأحزمةِ” بخفضِ الأسعارِ والأُجورِ والإنفاقِ غيرِ الضَّروريّ انتظارًا للخُروجِ من الرُّكودِ.
وماذا أخيرًا ؟
في نهايةِ القرنِ العشرين، اجتمعَ مُحررو مجلَّةِ تايم لاختيارِ اقتصاديِّ القرنِ واختاروا جون مينارد كينز الذَّي قدَّمَ أكثرَ من أيّ اقتصاديٍّ آخرَ سندًا نظريًا للدَّورِ الفعَّالِ لدولةِ رَفاهةٍ مُوسَّعةٍ أثناءَ فترةِ ما بعد الكسادِ الكبيرِ، ومعَ ذلكَ فقد تركَ كينز عِلمَ الاقتصادِ في حالةِ عدمِ تَوازنٍ عندما ماتَ، وبعده أخذَ أتباعُهُ الأكاديميَّةَ الاقتصاديَّةَ بعيدًا جدًا عن التَّقليدِ الكلاسيكيّ، وفي ذروةِ عُنفوانِ الكينيزية التَّي دامَت حتَّى أواخرِ السِّتينات، كان الكثيرُ من الاقتصاديّين جدًا خائفين من أنْ يُدمِّرَ المُستَهلِكون المُقتصِدون الاقتصادَ، ومؤمنين بأنَّ السَّياسةَ النَّقديَّة ليست مُهمَّة، كذلك أنَّ الاقتصاداتِ المُخطَّطةَ كاقتصادِ الاتّحاد السُّوفييتي تستطيعُ النُّمو أسرعَ من الاقتصاديَّاتِ الغربيَّةِ، فقد سيطرَت روحُ كينز وحتَّى ماركس على المناخَين السِّياسي والفكريِّ.
ومع ذلك، ومذُ أوائلِ السّتينات بدأت ثورةٌ مُضادَّةٌ طريقًا طويلًا باتّجاهِ إعادةِ التَّأكيدِ على مزايا الأسواقِ الحُرَّةِ والاقتصادِ الكلاسيكيّ وكانت القُوَّةُ الرئيسةُ وراءَ هذهِ الثَّورةِ على الكينيزية مدرسةُ شيكاغو في الاقتصادِ بقيادةِ “ميلتون فريدمان”.