قصة الوهابية من الدعوة إلى الدولة (ج2)
على الرغم من هزيمة الوهابيين في عقر دارهم وتدمير الدرعية على يد إبراهيم باشا، إلا أن دعواتهم لم تندثر، بل سرعان ما تأججت وانتشرت أفكارهم بقوة في ظل عصر كان المسلمون يخوضون فيه حروبًا ضروس ضد الاستعمار اقتضت صعود المذاهب التي تتمسك بالدين والهوية الإسلامية، بإزاء محاولات طمسها ثقافيًا للاستيلاء على عقول أهل البلاد التي استولى عليها عسكريًا. فظهر تراث محمد بن عبد الوهاب ومؤلفاته في الثورة الأندونيسية ضد الاحتلال الهولندي، وفي الهند ضد الاحتلال البريطاني، وكذلك في الشام ومصر التي أسكن محمد على العديد من أبناء الشيخ وبنى لآل سعود منزل بالأزبكية، ولم يمنعهم من الاختلاط بالناس ومدارسة العلوم الشرعية في الأزهر. وتحت رماد الدرعية كانت الجمرات تشتعل.
كانت الهجمة العثمانية/ المصرية الشرسة التي دمرت الدولة الوهابية/ السعودية باعثًا لحراك فكري مضاد وبدأت في أثناء المعارك المحتدمة. فنجد الشيخ سليمان آل الشيخ في كتابه (الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك) يقول: “اعلم رحمك الله أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفًا منهم ومداراةً لهم ومداهنةً لدفع شرهم فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ويحب الإسلام والمسلمين. هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك. فكيف إذا كان في دار منعة، واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم، وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال، ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود الشرك والقباب وأهلها بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله؟ فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر من أشد الناس عداوة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المُكرَه).
فقد ساهمت نيران البنادق وأنصال السيوف في إزكاء نار الفرقة بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين أتباع الدولة العثمانية، الذين أصبحوا لا يشكون في كفرهم وعدائهم للدين، وظهر ذلك في فتوى علمائهم، مثل عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ الذي قال: “ومن لم يعرف كفر الدولة (العثمانية) ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين لم يعرف معنى لا إله إلا الله. فإن اعتقد مع ذلك أن الدولة مسلمون فهو أشد وأعظم. وهذا هو الشك في كُفر من كَفر بالله وأشرك به. ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة.” وربما يكون هذا أول ظهور لفكرة كفر الدولة كمؤسسة سياسية بغض النظر عن عقيدة رجال حكومتها ومواطنيها، وهي فكرة مركزية عند كافة الجماعات الإسلامية المسلحة التي ظهرت في القرن العشرين.
وكان الفراغ السياسي في الحجاز لا يترك بديلًا سوى صعود الوهابية مرة أخرى، فظهر تركي بن عبد الله واستولى على الدرعية ثانية 1820 م ثم الرياض، ولكنه تصادم مع القوات المصرية فقضت على انتفاضته. ولكن أدت قسوة الجنود المصريين إلى الانتفاضات ضد احتلالهم، فاكتفوا بإبقاء الحاميات في المدن الرئيسية خاصةً. وأنّ كلفة احتلال الحجاز كانت أكبر بكثير من عائدته. فعاود تركي للظهور بعد فراره 1823 م، وعاد أيضًا عبد الرحمن بن حسن حفيد ابن عبد الوهاب ليمارس دوره الدعوي. واتسع سلطان تركي حتى أخضع ساحل الخليج العربي كله. ولكن صراع وقع بين حكام البحرين وتركي، ترتب عليه اغتياله 1834 م على يد عميل لمشاري بن عبد الرحمن الذي استولى على السلطة بانقلاب مفاجئ ليشتعل صراع السلطة على عرش الرياض.
وبعد أقل من شهرين استولى فيصل بن تركي على السلطة من مشاري وقتله. ولكن سلطان الدولة كان قد ضعف وخرج من عباءتها العديد من القبائل، وهاجمته القوات المصرية وأسر ونقل سجينًا إلى القاهرة، وأعادت سيطرتها على نجد 1838 م، مما دفع بريطانيا للتقدم عسكريًا والاستيلاء على عدن 1840 م وإقامة قاعدة بحرية عسكرية بها للحيلولة دون تقدم المصريين في عسير واليمن. ولكن الحرب في الشام والتحالف التركي الإنجليزي ضد محمد علي اضطره لسحب قواته عدا حاميات ضئيلة في المدن، مفسحًا المجال لقيام دولة سعودية ثانية.
ثم هرب فيصل بن تركي من مصر. ويعتقد العديد من المؤرخين أن عباس الأول حفيد محمد علي هو من أطلق سراحه ومهد له الطريق لإعادة بناء دولته لقناعته بالعقيدة الوهابية. وسرعان ما حقق فيصل نجاحات كبرى وأيدته القبائل وفي 1843 م سقطت الرياض وبعثت الدولة السعودية الثانية التي اختلفت طبيعة علاقتها بالعثمانيين والإنجليز وسائر جيرانها عن سابقتها. فقد أثبتت الوثائق أن فيصل كان يدفع جزيةً مقدراها 10 الآلاف ريال للباب العالي سنويًا. حيث كانت الدولة السعودية تابعةً للخلافة العثمانية بترتيب مصري مع تركي بن عبد الله، ثم ولده فيصل بن تركي، ثم عبد الله بن فيصل، دون أن يعلم شيوخ الوهابية عن ذلك شيئًا!
وظلت الدولة السعودية تواجه البحرين من ضمن مناوئيها حتى عام 1859 م حيث تدخل البريطانيين وطلبوا من فيصل عدم التعرض للبحرين. وفي 1861 م تحولت البحرين لمحمية بريطانية كما الإمارات ضمن الخطة البريطانية لتقسيم الخليج العربي بين شيوخ القبائل وتكوين دويلات مستقلة بها.
وكانت الدولة السعودية الثانية قد فقدت الكثير من طابعها الديني. وكان فيصل يجنح إلى السلم مع المصريين والعثمانيين والإنجليز بينما يعزز من سلطات الدولة في نجد، ولا يترك لمشايخ القبائل الفرصة للاستئثار بقدر منها في محاولة لإقامة دولة على أساس السلطة المركزية بعيدًا عن التحالفات القبلية.
وعند وفاة فيصل بن تركي 1865 م بدأ الصراع بين أبنائه على السلطة. وانحاز الإنجليز لسعود، بينما تولى السلطة فعليًا عبد الله، وتصدى لهجوم شنه أخيه سعود على الرياض محاولًا الاستيلاء عليها ورده خائبًا ليهرب للكويت.
وفي ديسمبر 1870 م عقد سعود تحالفًا مع قبائل عجمان واستولى على الأحساء، ثم هزم أخيه محمد وأسره في معركة الجودة قبل أن يتحرك صوب الرياض حيث اقتحمها ونهبها رجالة من الأعراب قبل أن يعلن والي بغداد مدحت باشا أن عبد الله بن فيصل كان قائمًا (قام) للدولة العثمانية. وأن استيلاء سعود على الرياض وغيرها من أراضي نجد عدوان عليها، وسرعان ما أرسل قواته التي استولت على الإقليم الشرقي بسهولة وطرد عبد الله بن تركي شقيق الأمير فيصل سعود من الرياض. وظهر عبد الله بن فيصل في الأراضي التي استعادها الأتراك محاولًا جمع قواته من جديد. وعندما عاد للرياض كانت تواجه مجاعة قاتلة، ولكن هذا لم يمنع الأخوين من مواصلة الحرب للسيطرة على عرشها!
وقد انحاز شيوخ الوهابية إلى سعود ضد عبد الله، وصدرت الفتاوى بتجريم عبد الله لأنه استعان بالدولة العثمانية. وحكم بعض شيوخ الوهابية بردته وأوجبوا السمع والطاعة لأخيه سعود دون أن يعلموا بتحالفه مع إنجلترا. وعندما استفتى عبد الله بعض العلماء الوهابية في الاستعانة بالأتراك، فأفتوه بجواز ذلك من باب “جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام”.
فرد عليه بعض علماء الوهابية ومنهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذي قال في رسالة له: “وأما مسألة الاستنصار فإنه مسألة خلافية، والصحيح الذي عليه المحققون منع ذلك مطلقًا، ثم أن القائل به شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم. وشرط أيضًا أن لا يكون للمشرك صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية، واشترط مع ذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا.”
فحتى عندما وقع الخلاف الداخلي بين الوهابيين وتحاربوا، كان كلا الطرفين يقول بكفر الدولة العثمانية!
وظل الصراع حتى وفاة سعود 1875 م. وعاد عبد الله لحكم الرياض إلى حين ولكن بعد أن أضحت مجرد إمارة صغيرة ضعيفة. وفي 1887 م استولى عليها أبناء سعود بن فيصل، ولكن حاكم حائل محمد بن الرشيد سارع بطردهم واستولى هو على الرياض لتنتهي دولة السعوديين الثانية.
ولكن العنقاء عادت للظهور ما بين الرماد وقامت الدولة السعودية الثالثة كما سنعرض في المقال التالي.