في محراب العم نجيب
قراءات سريعة لبعض روايات نجيب محفوظ
الروائي البارع هو من ينقل الواقع إلى بياض الأوراق بعد إضافة رؤيته الخاصة عليه!
الروائي السوري حنا مينه (9 مارس 1924م – 21 أغسطس 2018م) أدخلنا عالم البحار مع رواياته (الشراع والعاصفة) و(حكايات بحار) و(الياطر: أي المرساة) وغيرها؛ فامتلأت الروايات بمد البحر وجزره والعواصف وتنهدات البحارة وصراعاتهم من اليابسة في الميناء وحتى أعماق البحر!
ومثله أدخلنا الروائي المصري نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911م- 30 أغسطس 2006م) حارات مصر الضيقة – والتي اتسعت تحت وقع قلمه الرشيق- عبر أزقة خان الخليلي وزقاق المدق وبين القصرين وغيرها.
فامتلأت الروايات بشظف العيش وتعبه وكدّه لكل المهن من بيّاع الفول والعربجي وكافة المهن المحتقرة وحتى أعلى وظيفة في مجتمع مصر بطول القرن العشرين كله، منذ ثورة 1919م وحتى الانفتاح الاقتصادي عام 1975م، بل حتى رحيل نجيب محفوظ نفسه!
نجيب محفوظ – الذي يبدع دائمًا في كل رواية له؛ حيث يجرب في كل رواية صياغة جديدة لثيمته الخالدة (الحارة المصرية)، تلك الحارة التي دخلها كاتبًا بعد المرحلة التاريخية التي مر بها في رواياته الثلاث الأولى (عبث الأقدار- 1939م) و(رادوبيس- 1943م) و(كفاح طيبة- 1944م)؛ الثلاثية التي حاول فيها أن يكتب تاريخ مصر القديم بشكل روائي متأثرًا بالروائي الاسكتلندي والتر سكوت (15 أغسطس 1771م – 21 سبتمبر 1832م) الذي تناول التاريخ الإنجليزي في رواياته، فلم يكن التفات نجيب محفوظ غريبًا إذا علمنا أن أول عمل نُشر له لم يكن روائيًا بل كتابًا مترجمًا في التاريخ هو “مصر القديمة” لجيمس بيكي عام 1932م.
لكن نجيب محفوظ حط رحاله مع الحارة المصرية التي ولد فيها وعاش حتى رحيله في 2006م؛ يقول:
“منذ مولدي في حي الحسين، وتحديدًا في يوم الإثنين 11 ديسمبر عام 1911 وهذا المكان يسكن في وجداني. عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جدًا، أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائمًا بالحنين إليه لدرجة الألم. والحقيقة أن ألم الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي”.
وما زقاق المدق والسكرية وخان الخليلي وقصر الشوق وبين القصرين إلا أسماء الحواري المتلاصقة الطويلة الضيقة في حي الحسين. ومن هذه الأسماء كانت ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين- 1956م) و(قصر الشوق- 1957م) و(السكرية- 1957م) أو ما تسمى (بثلاثية القاهرة) التي كتبها في منتصف الخمسينات، لكن قبل ذلك سبقت مرحلة من الكتابة حول الحارة شملت مسميات الحارات أو مسميات عامة مثل (القاهرة الجديدة -1945م) و(خان الخليلي- 1946م) و(زقاق المدق- 1947م) و(السراب- 1948م) وغيرها.
ورغم أنه أوغل بعد ذلك في الرمز كما يبدو في رواياته (الطريق- 1964) و(الشحاذ- 1965م) والرواية الأشهر والمثيرة للجدل (أولاد حارتنا- 1968م)، إلا أنه كان يعود للتاريخ كما في رواية (العائش في الحقيقة- 1985م) عن اخناتون ودين التوحيد في مصر، وكذلك للأماكن كما في (ميرامار- 1967م) و(الكرنك- 1974م) و(قشتمر- 1988م) – التي تمثل آخر رواية أصدرها.
وهنا أسجل قراءات سريعة لبعض روايات نجيب محفوظ:
رواية السراب
في رواية (السراب- 1948م) يكاد يكون العنوان هو المعبّر عن كل موقف لبطل الرواية (كامل رؤبة لاظ)، والذي تربى في كنف أمه، فنشأ خجولًا للغاية حتى من زوجته (رباب)!
لتنتهي الرواية بمفارقة لم تكن على البال، رغم أن كل خيوط الرواية تتجه نحو حدوث مفارقة، لكن لم أتصور تلك المفارقة التي عرضها نجيب محفوظ.
الرواية تجسيد لمصر قبل ثورة يوليو 1952م وحيرة المجتمع، رغم أن الرواية انغلقت على بطلها الضائع وسط سراب ما الذي يريده، ليلتقطه الحب لما وقعت عيناه على (رباب)، ثم يتنازعه شعوران بين حبه لأمه وعدم حب مفارقتها، وشعور الانعزال عن المجتمع مع زوجته (رباب)، لينتهي هذا النزاع بالزواج وإقامة أمه معه، ليبدأ صراع الحماة مع كنتها كالمعتاد!
وتدور الحياة وكامل في خجله الغريب ونزواته، لتنتهي الرواية بموت زوجته بحادث غريب، ومن ثم موت أمه، ولا يحضر كامل جنازتيهما!
لكنه بعد رحيلهما يكتنفه السراب من جديد.
نجيب محفوظ ورحلة ابن فطومة
رواية (رحلة ابن فطومة- 1983م) تجعلك تتساءل ماذا يريد نجيب محفوظ أن يقول فيها؟
العنوان يذكرك بابن بطوطة الرحالة الشهير، لكن الرحلة هنا ضرب من الفانتازيا معتمدة على التقسيم الفقهي -سابقًا- في تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الكفر وخلافه، إلا أن تقسيمات نجيب محفوظ جاءت بديار ذات أسماء من خياله؛ فهناك: (دار المشرق) حيث الإباحية المطلقة التي يعبد أهلها القمر باعتباره إلهًا، ثم (دار الحيرة) حيث الملك المستبد الذي هو إله شعبه، ثم (دار الحلبة) حيث حرية الأديان متاحة للجميع، وهناك (دار الأمان) حيث يزعمون العدالة الشاملة والكل يعمل وآلهتهم الأرض؛ باعتبارها -بزعمهم- خالقة الإنسان ومدخر احتياجاتهم، ثم (دار الغروب) حيث الغيبوبة ولا حاكم هناك، ما ثَمَّ إلا الشيخ مدرب الحائرين، وأخيرًا (دار الجبل) الحلم الذي من أجله خرج ابن فطومة ( قنديل محمد العنابي) من داره -دار الإسلام- للبحث عن الحقيقة.
في الرواية يسجل الرحالة ما جرى له من أحداث في كل دار ابتداء من (الوطن- دار الإسلام)، وتنتهي الرواية -أو بالأصح المخطوطة- بوصوله لدار الجبل!
نقد نجيب محفوظ في الرواية كل الممارسات الخاطئة لدين الإسلام من خلال هذه الدور الوهمية، كما نقد الحاكمين المستبدين والتيارات المتلفعة باسم الدين والاشتراكية والحرية غيرها.
رواية يوم مقتل الزعيم
في رواية (يوم مقتل الزعيم- 1985م) يكون مقتل الرئيس السادات خلفية لها، رغم أن حادثة المنصة لم تذكر إلا في آخر صفحات الرواية؛ إن هذه الرواية تعرض عصر ما قبل الانفتاح -الذي سماه نجيب محفوظ (ق.ا)- وحتى عصر الانفتاح عام 1975م.
يذكرنا هذا الترميز (ق.ا) بما جاء في رواية البريطاني أولدس هكسلي (عالم جديد جريء)، حيث تجري أحداثها فيما سماه هكسلي 632 ب.ف، أي بعد فورد في إشارة إلى “هنري فورد” مؤسس شركة فورد لصناعة السيارات، أحد رموز المجتمع الصناعي.
يعرض نجيب محفوظ هذه التغييرات التي لحقت بالمجتمع من خلال أسرتين مصريتين مفترضتين هما أسرة (محتشمي زايد) وأسرة (سليمان مبارك)، وكيف يؤثر الانفتاح الاقتصادي الذي ازدهر في عصر السادات عليهما!
وقد تعرض لموضوع تأثير الانفتاح الاقتصادي على المجتمع المصري قبل ذلك في روايته (الباقي من الزمن ساعة- 1982م).
رواية حديث الصباح والمساء
رواية (حديث الصباح والمساء- 1987م) رواية رائعة وأراها امتدادًا لرواية “ميرامار- 1967م”، ورواية “المرايا- 1972م”، أبطالها هم أشخاص يدورون على امتداد الحارة المصرية التي تعشعش في ذهن محفوظ من “الجمالية” إلى العباسية وحي الوطاويط والخرنفش وغيرها، جدولهم محفوظ على هيئة أسماء بترتيب أبجديّ!
لكن روعة العمل أنه يناقش النفس البشرية بعرض نماذج حية تتحرك أمام المتلقي دون رتوش، بل أشخاص عاديون من عامة القوم، يحس المتلقي أنه يقابلهم كل يوم أو نماذج منهم.
خرجت من هذه الرواية بهذا الاقتباس:
“أصحاب المصالح لا يحبون الثورات”.
رواية قشتمر
رواية (قشتمر- 1988م) ميزتها أن الروائي يتواجد كراوٍ ضمن القصة؛ فقد قال نجيب محفوظ يومًا: “أنا موجود بقوة في رواية قشتمر”!
إنها رواية أجيال منذ 1910م – وهي قريبة من سنة ميلاد نجيب محفوظ المولود في 11 ديسمبر 1911م- وحتى عمر السبعين لأبطال الرواية الخمسة، وما نجيب محفوظ إلا أحدهم!
تقلبات أحداث مصر السياسية والاجتماعية كاملة تعكس ظلالها على أبطال الرواية بطول عمر نجيب محفوظ، وكأن الرجل يودّع قرّاءه في هذه الرواية؛ فالراوية هي آخر عمل روائي قدمه محفوظ، فلم يقدم بعدها إلا حوالي أربع مجاميع قصصية هي (الفجر الكاذب- 1988م) و(القرار الأخير- 1996م) و(صدى النسيان – 1999م) و(فتوة العطوف-2001م) ومن ثم أصدر سيرته الذاتية- 1995م و(أحلام فترة النقاهة- 2004م)!
أصداء السيرة الذاتية
كتاب (أصداء السيرة الذاتية- 1995م) هو سيرة ذاتية كُتبت بطريقة جديدة؛ عبارة عن مقاطع قصيرة للغاية ومكثفة ورمزية بغير تعقيد أو تذاكٍ؛ وكأنها (منشورات) فيسبوك أو تويتر!
نجد نجيب محفوظ يسمي نفسه “عبد ربه التائه”، ونفس الشيء صنعه في كتابه “أحلام فترة النقاهة” بأجزائه الثلاثة التي تمثل آخر كتبه المنشورة.
الخلود لك يا محفوظ
قد يعجيك أيضًا: اكتشاف روايات جديدة لنجيب محفوظ