في البحث عن معنى

قرأتُ قبل فترة مقالًا يحمل عنوانًا لافتًا يقول: “مثقّف يُصاب بالاكتئاب لعدم وجود ما يدعوه للحزن”. كان المقال يتناول حالة غريبة لذلك المثقّف الذي وجد نفسه غارقًا في الرتابة بعد أن خذلته الحياة ولم توفّر له مأساة تُغذّي حزنه المعتاد وتُلهم أفكاره. لا عشيقة تخونه، ولا حرب تُمزّقه، ولا حتى مُحقّق يُعذّبه. يشكو أنّ التعاسة لم تعد تكتم أنفاسه أو تُلقي بثقلها على صدره، ولم يعد يجد ما يُحزنه سوى فاتورة كهرباء متأخرة أو مُطالبة صاحب المنزل بالإيجار. يبدو أن القدر قد قرّر أن يتآمر عليه بمنحه حياة هادئة، فكانت النتيجة شعورًا بالاكتئاب وَصفَهُ بـلعنة النعمة.
قد يبدو العنوان مستفزًا أو حتى ساخرًا عند قراءته أول الأمر، لكن ما لفتني حقًا لم يكن سبب حالة الاكتئاب بحد ذاتها، بقدر ما أغاظني وصف صاحب المقال بالمثقّف، الذي لم يجد في كل ما يحدث في العالم من مآسٍ وحروب ما يُحرّك بداخله ما حرّكته رتابة وفاء حبيبته. إلا أنني قررت التغاضي عن رأيي تّجاه هذا النوع من المثقّفين، المتقطعة أوصال تفاعلهم مع محيطهم الاجتماعي، والذين غاب العديد منهم عن الساحة مؤخرًا.
مع ذلك، كان لابدّ لي من الإقرار بفضل حالته النفسية التي دفعني لتأمُّل ما تعكسه كلماته من دلالة حول معنى “المعنى” في الحياة.
تذهب بنا معاناة صديقنا المثقّف إلى طرح هام لفيكتور فرانكل في كتابه “صرخة من أجل المعنى”. يرى فرانكل أنً الإنسان في جوهره كائن يبحث عن المعنى، وأن غياب هذا المعنى يُفسّر العديد من عِلل عصرنا. هذا البحث الذي يبدو أحيانًا بلا جدوى هو ما يجعل الحياة معقّدة ولكنه أيضًا يمنحها عمقها. لم يكن فرانكل وحده من تحدّث عن هذه الفكرة. ألبير كامو، على سبيل المثال، يرى أن السؤال الجوهري الوحيد الذي يواجهنا هو ما إذا كانت الحياة تستحق أن تُعاش. وحسب سيغموند فرويد فإن الإجابة على هذا السؤال كانت في رسالة كتبها إلى الأميرة “بونابرت”، حيث قال: “في اللحظة التي يسأل فيها المرء عن معنى الحياة أو قيمتها، يكون المرء مريضًا.” إلا أن فرانكل خالف فرويد في هذا الرأي تحديدًا، مؤكدًا أن طرح هذا السؤال ليس علامة على المرض، بل هو دليل على إنسانيتنا، وأن القلق بشأن معنى الحياة هو صفة مميزة للبشر. فهو يُبرز اختلافنا عن بقية المخلوقات، إذ لم يسبق، وفق معرفتنا، أن اهتم أي كائن آخر بالسؤال عن معنى وجوده.
هذا البحث المستمر عن المعنى، رغم تعقيده وغموضه، هو ما يؤدي بالإنسان لأن يتّخذ مسارات تجعل منه كائنًا يشعر بوجوده.
كما أنه وبالعودة إلى حياة المثقّف الذي استوحى من رتابة أيامه شكوى عبّرت عن افتقاره للمعنى. فإنّ الحياة، في رفاهيتها تماما كما في شظفها، تظل دائمًا بحاجة إلى ما يمنحها ما يُبرّر استمرارها. إلا أن الإنسان الذي يحاول خداع نفسه بإشباع رغبات آنية تملأ فراغه الداخلي سرعان ما يدرك أنها تزيد من خوائه بدلًا من أن تخففه. هي حاجة جوهرية لا يمكن اختزالها أو تعويضها بأي احتياجات أخرى، وما الاكتئاب والعدوانية والإدمان سوى أعراض لهذا الفراغ الوجودي، التي يُشكّل ما أطلق عليه فرانكل “الثالوث العصابي الجماعي”.
لعلّ مظاهر أخرى لهذا الفراغ تتمثّل بالملل تعكس ما وصفه ألبيرتو مورافيا، الكاتب الإيطالي، كموضوع رئيس لروايته “السأم” بأنها الحالة المتقطعة من فقدان الصلة بالحياة.
ويظهر هذا الفراغ بوضوح في المجتمعات الغنيّة وداخل دول الرفاهية، تلك التي لطالما اعتقدت أنّ تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية سيحلّ مشكلات الناس ويجعل منهم سعداء. إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك، إذ أنّ تحقيق هذا الحلم لم يمنح الأفراد السعادة المنتظرة.
الحقيقة هي أنه مع انحسار الصـراع من أجل البقاء، ظهر السؤال: البقاء من أجل ماذا؟ فاليوم، تزايد عدد الناس الذين تتوفّر لديهم وسائل العيش، فمجتمع اليوم يُرضي ويُلبّي كل الاحتياجات تقريبا، ومع ذلك، فإن الحاجة إلى المعنى لم تتم تلبيتها بعد في وسط كل الترف الذي تعيشه بعض المجتمعات.
ولا ينعكس هذا الترف في السلع المادية فقط ولكنه ينعكس أيضًا في أوقات الفراغ، فالإنسان لا يعيش بالرفاهية وحدها كما أنّ التكنولوجيا حرمتنا من الحاجة إلى استخدام مهاراتنا التي تتعلّق بالبقاء على قيد الحياة. وبالتالي، فقد طَوّرنا نظامًا للرفاهية يضمن بقاء المرء على قيد الحياة دون أن يبذل أي جهد بالأصالة عن نفسه. تطوّرت علل عصرنا إلى تموّه الشخصية ونزع السمات الإنسانية التي أدّت تلقائيّا إلى الشعور بالفراغ الوجودي، والذي لا يقتصر على الدول الرأسمالية إنّما يمكن ملاحظته أيضا في الدول الشيوعيّة، ويظهر بصورة ملحوظة في العالم الثالث.
على الرغم من أنّ الدعوة إلى تحقيق المعنى باتت متّهمة بأنها فعل رفاهية لا تتحقّق في ظلّ البؤس والقمع، إلّا أنّ هذا المفهوم ليس بتلك البساطة والسطحيّة، كما أنه لا ينحصر بشيء إيجابي وبرّاق، بل يتجاوزه لتبرير الموت والحياة.
إعلان
هناك من يُضحّون بحياتهم ويموتون في سبيل تحقيق المعنى الذي يسعون إليه، وهذا يفتح الباب للتساؤل حول دوافع الانتحار: هل هو نتيجة افتقار إدراك معنى الحياة؟ أم هو تمرّد ورفض لحياة يكون المعنى فيها مُدرَكًا لكنه بعيد المنال أو صعب التحقيق؟
وماذا عن المرضى الذين يعيشون بآلام مزمنة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتهم، فهل يشغلهم البحث عن معنى وسط معاناتهم، أم أنهم منشغلون فقط بنيل لحظات قصيرة من الراحة بين هجمة ألم وأخرى؟ لعلّ العثور على ما يبرر معاناتهم يكون أشبه بتناول مُسكّن يُخفف من وطأة العذاب، فيمنحهم القوة للاستمرار والمقاومة خلال صراعهم الطويل مع المرض.
تحدّث ديفيد لوبروتون كثيرًا في كتابه “تجربة الألم” عن القدرة على تحمّل الألم لدى البعض من خلال فهم التجربة وخلق المبرّر المنطقي لها، فبعض الآلام تعتبر إيجابية أو محفّزة لأنها ارتبطت بقيمة تجعل من تجربتهم أمرًا محتملا بل ومباركا في بعض الأحيان، كالذي وفّرته الأديان، ليكون ملاذا كلّما واجهت الإنسان أزمات عصيّة على فهمه.
إلّا أنها كلها آليات دفاع نفسية يستخدمها إنسان واقع تحت تجربة أليمة، أو آليات تلجأ إليها جماعة من الناس تواجه تجربة وحشيّة تُهدد بقاءها.
لكن، ماذا عن أولئك الذين يكونون شهودًا على معاناة غيرهم من بعيد؟ كيف يمكنهم تبرير انتهاك الشعور الإنساني بداخلهم.
فسّر فرانكل أزمة الإنسان الحالية، بأنّ الدوافع والغرائز، على عكس ما يحدث في الحيوانات الأخرى، لا تُخبر الإنسان بما يجب عليه فعله، كما أنه على عكس ما كان يحدث مع الإنسان في العصور السابقة، لم تعد القيم والتقاليد تخبره بما يجب عليه فعله. والآن، في ظلّ غياب هذه التوجيهات، لا يعرف أحيانا ما يريد أن يفعله.
والنتيجة! إما أن يفعل ما يفعله الآخرون – وهو الامتثال، أو يفعل ما يريد منه الآخرون أن يفعله – وهو الشمولية.
هذه الحالة تتفاقم في الأزمات الكبرى، حيث يواجه الإنسان معضلة إيجاد معنى وسط الفوضى. هذا ما يتجلّى بوضوح في المشهد العالمي اليوم، حيث تقف البشرية عاجزة أمام الإبادة والدمار كما يحدث الآن في غزة. هذه المشاعر الباهتة للعالم، أو لنقل انعدام القدرة على التأثير، لا تعكس فقط التخاذل أو الجبروت السياسي ولا حتى غياب الإرادة، وإنما تكشف عن هزال وجودي عميق. فما الذي يعنيه أن نكون شهودًا على أبشع الإبادات في العصر الحديث دون أن نحرّك ساكنًا؟ وماذا يعني أن يقف العالم متفرجًا على مأساة لا يستطيع التدخل فيها، ويقف عاجزًا أمام كل إنسان تنتهي حياته وحياة أطفاله بسهولة انتهاء فنجان قهوة شُرِب على عجَل، مما أدى إلى حالة من البلادة العاطفية أو التهرب من مواجهة الواقع. هذا العجز الجماعي أفقد كثيرين شعورهم بقيمة حياتهم الخاصة، إذ تصادم مع الصورة التي يحملها الإنسان عن نفسه بوصفه كائن قادر على الفعل.
يبدو الأمر مُربكًا، فعلى أهمية المعنى وبحث الإنسان منذ الأزل عنه ليبرّر به الحياة، إلّا أنه واحدٌ من الأسئلة التي لم تستطع البشرية ولا الدين ولا الفلسفة أن تجيب إلّا نظريّا عليها.
كيف يمكن للإنسان أن يتطلّع إلى المستقبل بينما يفتقر إلى الشعور بالقيمة؟ كيف يمكن للعالم أن يتعامل مع مزيج من اللامبالاة والذنب الجماعي؟ في ظلّ هذه الظروف، يصبح البحث عن المعنى أكثر إلحاحًا، ليس فقط على المستوى الفردي، بل أيضًا على المستوى الجمعي، فالحاجة إلى إعادة تعريف القيم والواجبات ليست ترفًا أخلاقيًا، بل شرطا إنسانيّا لدوام وجودنا كمجتمعات قادرة على التماسك والتضامن بشكل جماعي لتستطيع الاستمرار بشكل فردي.
إلى أين نتّجه؟ تبدو المؤشرات وكأنها فارغة من الوعد، مُثقلة بعبء عالم فشل في التفاعل مع معاناة الآخر. عالم مُتشابك بشكل غير مسبوق ولكنه مُنقسم بشكل مروّع، ويبدو أنّ التحدّي الأكبر أمام البشريّة هو استعادة هذا المعنى، ليس فقط لتبرير الحياة، بل أيضًا لإعطائها قيمة تجعلها تستحق الاستمرار.
مراجع:
_ الانسان يبحث عن المعنى، فيكتور فرانكل، ترجمة طبعا منصور، دار القلم 1982
_ تجربة الألم، ديفيد لوبروتون، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال، 2010
إعلان