فيلم The Guns of Navarone: من يتحمَّل مَسْئُوليَّة الحَرْب؟

على مسرح الأساطير والميثولوجي في جُزُر اليونان، تخرج مجموعة في مغامرة ملعونة، تُعيد إلى الأذهان رحلة “أوديسيوس” بعد حَرْب طروادة، حين عاقبته الآلهة بعد أن تعدَّى حدوده معهم، لكن في قصتنا لا يوجد أنصاف آلهة ولا أبطال، بل أشخاص عاديُّون من عالمٍ مختلف، لكنهم أيضًا وقعوا تحت غضب الآلهة، لأن البشر رفضوا نعمة السلام، واختاروا الحَرْب لأنفسهم، فهم أول من يُعاني منها، لذلك أخذ فيلم The Guns Of Navarone على عاتقه تنبيه الجمهور بخطورة الحَرْب، ونبذ الخراب والدمار، في إطار مُغامرة شَّيِّقة وقصة مُتقَنة.

“لكنني أتساءل فعلًا: من يتحمَّل مسئوليَّة الأعمال القَذِرة للحَرْب، من المُذنِب الذي يُصدِر الأوامر أو الذي يُنفِّذها؟”

بميزانية ستة مليونٍ كأحد أغلى الأفلام على الإطلاق بتلك الفترة، وكان من أعلى الأفلام أرباحًا في عام 1961، وتمَّ تعيين ما يزيد عن ألف جنديٍ من اليونان، للقيام بدور المُحتَّل النازي، واثنتا عشرة مُدمِّرةً حربيَّة للمُشارَكة في الفيلم. ظهر الفيلم لأول مرة للنور، في 27 من أبريل عام 1961، بحضور المَلِكَة إليزابيث الثانية والأمير فيليب، ولاقى إشادات كثيرة، وترشَّح لسبع جوائز أوسكار، فاز منها بأفضل مؤثِّرات بصريَّة.

مهمة مستحيلة

يقوم فيلم The Guns Of Navarone خلال الحَرْب العالمية الثانية، في ظروفٍ صعبة، على جُيُوش الحُلَفاء، حيث ما يزيد عن ألفي جنديٍ إنجليزي محُاصَرون على جَزيرة قُرب اليونان، ومُهَدَّدون بالموت جوعًا أو الوقوع في الأسر، إلا في حالة وصول المُساعدة بحدّ أقصى أسبوع.

الأمر المستحيل حيث تستخدم ألمانيا مدفعين ضخمين لقصف أي سُفُن تُحَاوِل عُبور البحر، وتمنع أي تقدُّم لأسطول الحُلفَاء، وتضغط على تركيا المُحايِدة لدخول الحرب إلى جانب النازيين، ولا يمكن ضرب المدفعين من الجو، لأن كهفا يحمي موقعهما تحت إحدى القِلاع القديمة، ويصبح الحل الأخير، تَسَلُّل مجموعة فِدائّية خلف خُطُوط العَدوّ، وتنفيذ مهمة انتحاريَّة لتدمير المدفعين.

تتكوَّن المجموعة من جنودٍ وضُبَّاط من بريطانيا واليونان، تحت قيادة ضَابِط بريطاني، وتَضُم متُسَلِّق جِبَال أُسْطوريّ ونقيب في الجَيْش، وخبير مُتفجِّرات، وعقيد من المُقاومة اليونانية، وقنَّاص يوناني، مع جُندي بلا رحمة معروف بسَفَّاح برشلونة، لكن مهمتهم تتعقَّد بالتدريج من الداخل، مع مُواجهة النازيين في كل مكان، يبدأ الصِراع داخلهم.

إعلان

يَضُم الفيلم مجموعة من كبار المُمثِّلين من إنجلترا وأمريكا: جريجوري بيك، سير أنتوني كويل، سير ستانلي بيكر، أنتوني كوين، ودايفيد نيفين، بعضهم شارك بالفعل في الحرب العالمية الثانية، وكانوا من أبطالها.

فيلم The Guns Of Navarone والخيارات الثلاثة

تبدأ المُهِمَّة ويحصل كلٌ منهم على دَّوره، لكن المُهِمَّة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ، ومع جَوٍّ مَشْحون بالتَوَتُّر والقلق، تدخل المجموعة في سلسلة من الخلافات والانقسامات الداخلية، لاختلاف مبادئ وأهداف كل منهم، لتكون رسالة فيلم The Guns Of Navarone الأهم هي نبذ الحرب، وتأثيرها السلبي على نُفوس الناس، والآثار الكارثيَّة لها على المشاركين فيها.

الصِراع بين الشخصيَّات بشكلٍ أساسي بين قائد المجموعة البديل أو مًتسَلِّق الجِبال، والذي يُعَد الشرير بالنسبة للآخرين، فهو مُستَعِد لإتمام المُهِمَّة بغَضّ النَّظر عن أي شيء، وبين خبير المُتفجِّرات، الجُندي المِثالي الذي رفض التَّرقية لضابِط، حتى لا يتحمَّل مسئوليَّة القتل وإصدار الأوامر، ثُمَّ هناك الضَابِط اليوناني الذي قُتلت عائلته على يد الألمان، لكنه يُحمِّل صديقه قائد المجموعة المسئوليَّة، لأن القائد تحلَّى بالانسانية سابقًا وسمح وقتها لدورية ألمانية بالعبور لنقل مُصابيهم، وانتهى بهم الحال بمُهاجمة القرية، وسَفَّاح برشلونة الذي تَعِبَ من القتل، ولن يَقتُل بعد الآن.

أول الخِلافات الأخلاقية في الفيلم، عندما يُصَاب أحد أفراد المجموعة ويُعيق التقدُّم، ويُهدّد بفشل المُهِمَّة بأكملها، فتختلف الآراء تجاهه، “لدينا خِيارين، إما أن يُصاحبنا في المُهِمَّة، لكنه سيموت بدون رعاية طبيَّة، أو نتركه للنازيين الذين سيأخذونه بالطبع لمستشفى، لكن قد يُخبرهم كل شيء عن المُهِمَّة، لديهم عقارات مُخَصَّصة تفعل ذلك”.

تَقِف المجموعة في وجه القائد، ويصِرّون على تركه للعدو، حتى يُصَعِّب الأمور عليهم خيارٌ ثالث، “طلقة واحدة الآن، أفضل له ولنا كذلك”، الخيارات الحقيقية هي إما تهديد تقدُّم المُهِمَّة أو تهديد المُهِمَّة بأكملها أو التخلُّص منه فورًا، وتجنُّب تلك الاحتمالات، لكن في مثل تلك المواقف، كيف يتصرَّف رجال يواجهون الموت كل دقيقة، وفي مُهِمَّةٍ غالبًا لن يعودوا منها؟ أي خيار حقيقي يَملكونه حينها؟ في حين أن الهدف الأساسي للمُهِمَّة؛ إنقاذ ما يزيد عن ألفين شخصٍ على الأقل. هل يجوز التَّفْريط في حياة واحدة في سبيل ذلك؟ من يتحمَّل مسئولية اتخاذ القرار؟ لو كان المُصَاب أهم أفراد المجموعة ولا تَتم المُهِمَّة بدونه، هل يكون الاختيار أسهل؟

إيمانًا منه بصعوبة الموقف، والأهَميَّة القصوى للمُهِمَّة، يُحاوِل الضابط المُصَاب الانتحار والانتهاء من الأمر، ولا يَعدِل عن الأمر حتى أوهمه القائد بأنه تمَّ إلغاء المُهِمَّة، ولا يوجد ضَّرَرٌ من التأخُّر.

الوجه الآخر للخيانة

تتقدَّم المجموعة في الأراضي اليونانيَّة، حتى يتعرَّضوا للخيانة ويتم القبض عليهم، وبعد التحقيق معهم، يُقْدِم أحد الضُبَّاط النَّازيّين علي تعذيب مُصابهم، من أجل المعلومات، فيعَترض الضَابِط المَسْئُول لكنه مُلْزَم بالأوامر، ويُخبرهم بعدها: “نحن لا نَخُوض الحَرْب ضد المُصَابين، لسنا جميعًا هكذا“، ليَضع بذلك علامة استفهام على الصُّورَة العامة للنَّازيين كوُحُوش ضَّارِية، لا ينتمون للإنْسانيَّة ولا يَملِكون أي قواعد أخلاقيَّة، لكن لو اعتمدت آلاف الأرْوَاح على معلومة يملكها أحدهم، والحَلّ الوحيد للحصول عليها؛ تَعريضُه للتَعْذِيب. هل يجوز وقتها التَخَلِّي عن الشرف والأخلاق؟ ومن يكون حَكَمًا على تلك المواقف؟ هل النَّازيّون وُحُوشٌ، أم الحَرْب جعلتهم كذلك؟ ما قيمة شخص واحد في مقابل جَيْش بأكمله؟

عند اكتشاف الخائن، تدخل المجموعة في جِدَالٍ أخلاقيّ آخر، تكون إحدى مُقاتلات المُقَاومَة والتي وقعت في الأسر، وأجبروها على العمل معهم، “لا أستطيع تَحمُّل الألم، تم الإمساك بي وكنت وحيدة، لم يُساعدني أحد، كنت وحدي في أيديهم، هدَّدوا بوضعي في بيوت البِغَاء الخاصة بهم، تَوَعَّدوني بالتعذيب، لقد رأيت ما فعلوه بالآخرين، اعذروني لا أستطيع تَحمُّل الألم”.

هل كانت على حق؟ هل الخوف من التَعْذِيب مُبرِّر للخيانة؟ في نفس موقفها عندما تكون وحيدًا ذَّليلًا وتشعر بتخلي الجميع عنك، ماذا سيكون خيارك؟ من السَّهْل أن تكون شُجَاعًا بين أصدقائك، لكن مُحَاطًا بالأعداء من كل اتجاه، مُصَابًا بالإحباط والخوف، أما عن سبب عدم اعترافها لهم، فلأن المُهِمَّة مَحْكُومٌ عليها بالفشل من البداية، لا فرصة للنجاح أبدًا، وغالبًا لن يخرجوا من تلك القرية أَحْيَاء، ذلك إِرْث الحَرْب الذي خلفته في كل مكان ابتُلي بذلك الطَّاعُون، تُقلب الأهل على بعضهم، وتُوقِع العَدَاوة، وتُفرِّق بين الناس منذ قديم الأزل.

وبعد معرفة الخائن، يكون أمام المجموعة خيار أخلاقي آخر، وتعود مُعضِلة الخيارات الثلاثة، إما تركها والرحيل، وتُخبِر الألمان بكل ما تعرفه، أو اصطحابها إلى أقرب مجموعة مُقاومَة لمعاقبتها، مما سَيُعقِّد مهمتهم أكثر، أو قتلها. هل يتم قتلها أم تركها؟ هل تستحق العِقاب أو هل يفيد العِقاب من الأساس؟ وفي حين أن لا أحدًا منهم قد قَتَل امرأة من قبل، من يتحمَّل مسئوليَّة قتلها أو يأخذ على عاتقه تنفيذ الإعدام بحقها؟

نجم صاحب رسالة

فاجأ النجم الكبير “ستانلي بيكر” الأوْسَاط الفَنّيَّة في العالم، ووافق على دَور صغير في فيلم The Guns of Navarone (1961)، لأنه آمن برسالة الفيلم، وأنه كان ضد الحرب وانتقدها، بالأخص خلال العصر الذهبي للأفلام الحربيَّة الكلاسيكية، التي احتفلت بالقتل والدمار والخراب، وأظهرت جنود وضُبَّاط الحُلفاء بثوب الأبطال المَغَاوِير، بغَضّ النَّظر عن مُعَانَاتهم وتجاهُل ما مروا به من صِعاب نَّفسيَّة واجتماعيَّة خلال الحَرْب، بل وشجَّعت تلك الأفلام على حُب القِتَال واستفزاز مشاعر الشباب للانضمام للجيش.

عرض عليه المؤلِّف ‘كارل فورمان‘ سيناريو عن فيلم ضد الحَرْب، قائم على رواية ناجحة للكاتب Alistair MacLean، وفي تلك الفترة كان المؤلِّف نفسه على القوائم السوداء للحكومة الأمريكية في هذا الوقت، التي طاردت كل من اُشتبهوا في انضمامهم للشيوعيَّة، أو حتى مجرد أن عارضوا الحكومة، مما اضطره للهجرة إلى بريطانيا، فقَبِل ستانلي بيكر دور الجُندي “براون” بأجرٍ قليل.

على الرَّغم من أنه في ذلك الوقت كان يُعَد أهم وأشهر مُمثِّل إنجليزي بالاشتراك مع السير ديرك بوجاردي، وكانت أسْهُمه عالية في كل مكان، وكان أجره يُقارِب 120 ألف دولارٍ، في وقت كان منزلًا بأكمله يُكلِّف ثلاث آلافٍ فقط، وكان من أوائل الذين عُرِض عليهم دَور جيمس بوند لأول مرة، بسبب شُهرته الكبيرة، لكنه رفض لأنه لا يريد أن يكون مرتبطًا بسلسلة من الأفلام.

أيضًا في الخمسينيات كان بايكر يرفض أفلام هوليوود من أجل مساعدة السينما الإنجليزية، حيث كان يريد من أرباح أفلامه أن تفيد موطنه، رغم أن حُلْم أي مُمثِّل في العالَم في ذلك الوقت الذهاب إلى هوليوود، والتي تحتوي على المال والشُهْرة وكل شيء، وتجربة العصر الذهبي للسينما، مع أكبر وأهم المُمثليِّن على الإطلاق، بينما بريطانيا كانت فقيرة وتُعاني من أزماتٍ مستمرة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

أُعجِب به المُخرِجون الأمريكيون عندما وصل أخيرًا إلى هوليوود، وكانوا يَصِفون تعاملهم معه، أنك لا تحتاج توقيعه على أي عُقُود، فقد كانت كلمته كافية ويلتزم بها، لكن للأسف ضاعت ذِكراه وتم نسيانه أو تجاهله، مع بداية مَوجة السينما الجديدة في السبعينيات، وظهور نجوم جُدُد سيطروا على اهتمامات الصِّحافة والجمهور، ولم يعد يَذكره إلا القليل حتى في بريطانيا، ومن سوء حظه في نهاية حياته، منحته المَلِكة إليزابيث لقب سير في 1976، لكنه تُوُفِّي بنفس العام قبل أن يتسلَّم اللَّقب رسميًا من المَلِكة، لذلك حتى لا يَصح قانونًا الإشارة إليه ب ‘السير ستانلي بايكر’، لكي لا يحصل على أقل تقدير مُستحق، تاركًا التاريخ يحكُم على مسيرته العظيمة.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا