فيلم Sound of Metal: ضوضاء الصمت المزعجة
خرج فيلم Sound of Metal للعالم في ديسمبر 2020، بعد تأجيلات بسبب الوباء العالمي، ومبني على فكرة فيلم وثائقي لأحداث حقيقية، باستخدام مواقف خيالية للتأكيد على الفكرة، أو ما يسمى docufiction، عن عازف موسيقي يبدأ في فقدان السمع، ومحاولته للتأقلم والتعايش مع الواقع الجديد، لكن المشروع توقف وقتها، حتى عاد في صورته الحالية، كفيلم دراما سينمائي، وترشح ل 6 جوائز أوسكار، فاز ب 2 منهم.
يستعرض الفيلم الجوانب النفسية والعاطفية لفقدان السمع، أكثر من فقدان السمع نفسه، والأزمة الحقيقة في تقبل الإنسان ذلك، فجأة لا يمكنه سماع شيء، عندما يخاطبك أحد بصوت منخفض، أو بطريقة غير مفهومة، غالبًا تصاب بالضيق والغضب، كذلك عندما تزعجك الطيور في الصباح وتفسد نومك، تخيل لو لم تعد تسمع إطلاقًا، تخيل لو اختفى صوت نزول المياه أثناء الاستحمام، اختفى غناء الطيور صباحًا، أصبح الخلاط صامتًا عند صنع العصير، انعزلت عمن حولك وهم يتحدثون، لم تعد أصوات الحياة البديهية تعمل، أصبح الكون صامتًا فجأة!
كأن العالم قد توقف من حولك، ولا يبدو أن أحدًا يلاحظه غيرك، حينها يجد الشك والخوف طريقهم إليك، والبارانويا أداة دفاعك الرئيسية، ويصبح العجز أمر واقع واليأس مأوى مناسب، حتى تدخل في مراحل التعامل مع الحزن والمصيبة، كما نجح فيلم Sound of Metal في تصويرها.
المرحلة الأولى: الإنكار
شاب يعتبر ناجح في حياته بشكل عام، يستيقظ مبكرًا قبل الجميع، ويمارس رياضة الصباح ويتناول عصيرًا صحيًا، يعيش في منزل متنقل يناسب احتياجاته، تغلب على الإدمان منذ 4 سنوات، يعمل في وظيفة الأحلام، كعضو فرقة موسيقية من عازفي موسيقى ‘الميتال’ الصاخبة، ومنها شريكة حياته وشريكة كفاحه، التي ابتسم الحظ في وجهها، ووجد صوتها الملائكي فرصة للظهور، مع ألبوم جديد، حتى ينام ويستيقظ، فيجد أن هناك خطب ما بأذنيه.
تختفي الأصوات من حوله بسرعة، يحاول تجاهل الأمر والتعامل مع الأمر بهدوء، متسلحًا بالإنكار، حتى يذهب للطبيب ويعلم أن سمعه يضيع للأبد، لكن قوة الإنكار أعظم من الواقع، فيتجاهل نصيحة الطبيب ويعود لحفلاته الصاخبة، كأن شيئًا لم يحدث، حتى ينتهي الأمر بسلام وحده، كأي ألم بسيط في القدم أو الكتف، يختفي بعد فترة وجيزة ولا يترك أثر، حتى يصطدم بالحقيقة ويذهب سمعه تمامًا، وتظلم الدنيا في وجهه، ويدخل المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية: الغضب
عندما تواجه الإنسان ظروف صعبة لا يستطيع تقبلها بسهولة، دائمًا ما يجد خلاصه في الغضب، خاصة بعد الإنكار وضغط المشاعر ومنعها من الخروج، ولأنه يظن نفسه سيد العالم وكل شيء تحت سيطرته، بعد أن يبدأ في الظهور ما يهدد سيطرته وسطوته على نفسه، فتخرج مشاعره فجأة ويظهر عليه الغضب، ويقوم بتوجيهه ضد كل من حوله، خصوصًا القريبين منه.
يجد أحد أصدقائه مكانًا متخصصًا في التعامل مع فقدان السمع، وبالفعل يوافق على زيارة المكان بمساعدة صديقته، لكن لصدمته يتطلب المكان الانعزال التام عن العالم، ويجد أن الهدف من المصحة كما أوضح المشرف، شفاء العقل لا السمع، لأنه لا سبيل لإصلاح ما حدث بالفعل، والخيار العملي يكون في تقبل الأمر، والتعامل معه كما هو، عوضًا عن محاولة تغييره، لكنه ما زال أسيرًا للغضب، فيغادر المكان متذمرًا ويرفض مواجهة عالمه الجديد.
خطوته القادمة تتضمن التنفيس عن هذا الغضب، وإطلاق العنان لمشاعره، فتستيقظ صديقته في يوم من الأيام، وتجده في نوبة غضب يقوم بتكسير كل شيء، ويعجز عن السيطرة على نفسه، ثم يحول غضبه إليها، ويتهمها بالتخلي عنه، ومحاولة التخلص منه، حتى تجبره على مواجهة الأمر وتغادر من أجل مستقبلها، بدون التخلي عنه، بل تساعده وتشجعه على طلب المساعدة والعودة لمعسكر المصحة، فيضطر في النهاية إلى الذهاب إلى هناك.
المرحلة الثالثة: اليأس والاكتئاب
بعد أن استقر في المصحة، تم إسناد مهمة خاصة به، كما هي العادة هناك، وظيفته الوحيدة طوال فترة إقامته ‘تعلم كيف يكون أصم’، يركز طاقته وغضبه تجاه هذا الهدف المباشر.
لم يضيع مزيدًا من الوقت في تلك المرحلة، لأنه بطبعه متسرع ولا يتكاسل في مهامه، وخلال تلك الفترة يتعلم لغة الإشارة، ويتعرف على من لهم نفس حالته، ويحضر حفلات خاصة بهم، ومع الوقت غضبه يختفي بالتدريج، في انتظار المرحلة القادمة.
المرحلة الرابعة: المساومة
لكنه داخليًا لا يتقبل ما حدث، ويبدأ في الإحساس أنه في المكان الخاطئ، وأنه لا ينتمي لهذا المجتمع، ويفتقد عالمه القديم، مما يدفعه إلى المساومة بأي شكل، ليتمكن من الشعور بالتحكم في حياته وتصرفاته.
يقوم بإصلاح سقف إحدى الغرف، كاختيار قام به بنفسه لم يغصبه أحد عليه، فينتقده المشرف ويطلب منه التركيز فقط على مهمته في تعلم كيف يكون أصم، ومن أجل شغل نفسه يقول له:
“طالما تستيقظ مبكرًا، في الخامسة صباحًا سيكون هناك قهوة في انتظارك، وسأوفر لك غرفة خاصة، ولا يوجد أي شيء تفعله أو تصلحه في تلك الغرفة، كل ما عليك فعله، فقط الجلوس، وإذا لم تتمكن من الجلوس بثبات، سيكون هناك ورقة وقلم، لا يهم ماذا ستكتب، فقط اكتب حتى تشعر أنك تستطيع الجلوس مجددًا”.
تصليح السقف مثل تركيب رقاقات للسمع من جديد، محاولات لإثبات السيطرة، أو أنه ما زال موجودًا ومتحكمًا في حياته، مساومة مع القدر لا أكثر، لن تنفعه في شيء، وعندما يقوم بالفعل بتركيب الرقاقات، ويثبت لنفسه انه سيد قراره، يفقد كل شيء بالتدريج، أوله يتم طرده من المصحة، لأن العلاج قد فشل معه في الأساس، على لسان المشرف:
“يتشارك الجميع هنا في الاعتقاد بأن الصمم ليس إعاقة، لا عطل لإصلاحه، ذلك المعتقد مهم جدًا هنا، كل هؤلاء الأطفال… جميعنا، نحتاج إلى تذكر ذلك كل يوم”.
المرحلة الخامسة: التأقلم والقبول
لا يتحقق القبول أخيرًا إلا في نهاية فيلم ضوضاء الصمت المزعجة، لكن رحلة القبول تبدأ من كفاحه لاستعادة عالمه المفضل، ومساومته مع القدر، فيضع الرقاقات ويعود جزء من سمعه، ويتصور أن كل شيء عاد إلى مكانه الصحيح، ويمكنه العودة إلى حياته الطبيعية، لذلك وافق على بيع المنزل المتنقل بسعر رخيص، على شرط إعادة شرائه بسعر مقارب بعد فترة قصيرة. لكن ما لم يدركه أن ذلك العالم قد انتهى بالنسبة إليه، فقدان السمع فتح له عالم سحري جديد، هو سيده ولا أحد يشاركه فيه، وكشف له صفات وأشياء لم يكن يعلمها عن نفسه.
خطوته الأخيرة في المساومة، كانت في السفر إلى فرنسا واستعادة صديقته وحب حياته، لتكون الجزء الأخير لاكتمال عالمه القديم، لكنه يجد ما خشيه قد حدثه بالفعل، العالم لم ينتظره واستمر في الدوران، وتحرك أسرع مما كان يظنه، وفقد صديقته ومعها آخر حلم في عودة عالمه السابق.
لذلك يجد أن لا خيار آخر أمامه غير التقبل والتأقلم، ويتخلى أخيرًا عن محاولاته المستميتة في السيطرة على الموقف وتغييره، ويجلس في الشارع مستمعًا إلى ضوضاء الشارع للمرة الأخيرة، يتخلى عن الرقاقات ويعود لعالمه السحري، حيث لا أحد يهدد استقراره.
الممثل المناسب في الدور المناسب
“لست في مكانة ‘النجم’ حيث أكون قادرًا على الاختيار وانتقاء الأدوار، لكني مهتم بقصص مرموقة مع مخرجين رائعين، هذا مبدأي في الحياة”.
في عالم لا يستكمل معظم الممثلون تعليمهم، أو لا يولونه الاهتمام الكافي، درس “ريز أحمد” في جامعة أكسفورد العريقة، وحصل على درجة علمية في الفلسفة والعلوم السياسية والاقتصاد، ولاحقًا التحق بمدرسة لندن للدراما، ليصبح ممثلًا.
لكنه أيضًا مغني للراب صاحب شهرةٍ وسمعة في بريطانيا، حيث اهتم بالموسيقى منذ سنوات المراهقة، وشارك في مسابقات للراب على الراديو، وفاز بجائزة BBC لأفضل موسيقي شاب في 2007، لكن اغنيته الساخرة الأولى صدرت في 2006 تحت عنوان ‘Post 9/11 Blues’، التي سببت مشاكل وخلافات وتم منعها مؤقتًا في بريطانيا، لكن الممثل والمؤلف الإنجليزي ‘كريستوفر موريس’ أعجب بها، واختار ريز لبطولة فيلمه Four Lions (2010)، الذي وضعه على الساحة بشكل واسع، وكان البداية الفعلية لمسيرته السينمائية.
بدأت مسيرة ريز أحمد بفيلم The Road to Guantanamo (2006)، ثم دوره الأهم في Four Lions، وبعدها بدأت أسهمه في الارتفاع، وشارك في أفلام مميزة مثل Nightcrawler (2014) و Jason Bourne (2016)، حتى أفضل أدواره على الإطلاق، ونقطة التوهج في مسلسل The Night Of (2016)، وترشح عنه لجائزة جولدن جلوب وفاز بالايمي، مع استمرار مسيرته في المسرح والغناء، وظهر في Rogue One: A Star Wars Story (2016)، وفي 2008 شارك في اثنين من أهم أفلام العام The Sister’s Brothers و Venom، حتى ترشحه للأوسكار المستحقة هذا العام، ووصوله إلى النجومية العالمية.
أما عن دوره المميز في فيلم Sound of Metal، فقد كان نتاجًا لعمل شاقٍ ومجهود عظيم، فقد قضى 6 أشهر قبل الفيلم في تعلم الدق على الطبول، من أجل شخصيته في الفيلم، وتعلم لغة الإشارة خصيصًا، وخلال أحد مشاهد فقدان السمع، وضع حاصرات أو سدادات للسمع في أذنيه، حيث اختفت الأصوات من حوله، وأصبح أصمًّا فعلًا، ليستحق كل الثناء والتقدير على دوره الرائع، في انتظار إبداعات قادمة لا محالة.
لكنه لم يكن وحيدًا، فالجميلة “أوليفيا كوك” كانت الشريك المثالي في البطولة، بالرغم من أنها لم تكن الخيار الأساسي، فقد استبدلت ‘داكوتا جونسون’ في اللحظات الأخيرة، وقامت بأداء الأغاني الخاصة بشخصيتها في الفيلم، كذلك ‘بول راتسي’ الذي قام بدور مشرف المصحة، وهو أحد رواد منظمات الصم والبكم في أمريكا، بالرغم من أنه ليس منهم، فقد كان والداه سبب انغماسه في ذلك المجال، وترشح للأوسكار عن فيلم Sound of Metal.
وأخيرا المؤلف والمخرج ‘ديريك ماردر’ في بدايته الإخراجية، والذي قدم ثباتًا مميزًا في أولى تجاربه، وأحسن تقديم فيلمه، وترشح كذلك للأوسكار عن سيناريو الفيلم.