طواحين فيلم “ريش”: كيف غاب الفن وحضرت السياسة؟
في الرواية الإسبانيَّة الأشهر “دون كيخوته” يحارب بطل القصة طواحين الهواء -وهي في ظنّه أرواحٌ شرّيرةٌ تنوي مهاجمته، وطوال أحداث الرواية يقع البطل أسير الوهم تجاه أحداثٍ طبيعيَّةٍ على أنّها أعداءٌ لرحلته البطوليّة الشاقّة.
تلك الرمزيّة الشهيرة عن محاربة طواحين الهواء لا تتشابه فقط مع عبثيّة الأحداث في فيلم «ريش» الذي حاز على جائزة أسبوع النقّاد في مهرجان كان السينمائيّ، لكنّها تعبّر أيضًا -وبشكلٍ أكبر- عن أغلب ردود الأفعال حول الفيلم بعد عرضه في مهرجان الجونة وتحوّله لنقاشٍ سياسيٍّ حادٍّ عن المجهودات الأخيرة للدولة المصرية بخصوص الفقر والعشوائيَّات، بل تصاعد الأمر لدرجة اتهاماتٍ بالإساءة إلى سمعة مصر في المحافل الدولية!
فهل يستحقّ فيلم ريش كل هذا الخلاف السياسيِّ الحادِّ الذي استدعى أطرافًا من اليمين واليسار، وأشعل جدالًا حول الدفاع أو الهجوم على الدولة؟
في المقال التالي عرضٌ للعناصر الفنيّة والفلسفيّة التي اعتمدها المخرج في فيلم ريش، والتي غابت عن أغلب الجدل حول الفيلم، يليه محاولةٌ لتحليل سبب حدّة ردود الأفعال عنه.
ما وراء فيلم ريش.. السينما الآثمة
فيلم ريش ليس فيلمًا روائيًّا تقليديًّا، لا على مستوى أسلوب سرد القصّة أو تقنيّات الإخراج، ورغم صعوبة تصنيف تلك النوعيّة من الأفلام إلا أنّ أسلوب إخراج فيلم ريش يعود لفلسفةٍ فنيّةٍ سيطرت على عددٍ من المخرجين منذ نهاية الخمسينات وتطوّرت لأشكالٍ عديدة مع مرور الوقت وهو الإتجاه المشهور “بسينما المؤلّف”.
وباختصار؛ يرى هذا الاتجاه أنّ الفيلم يعتمد بشكلٍ كاملٍ على قدرة المخرج على التجريب بدون أيّ قيودٍ من المنتج أو الاستديو، فلا تهتم تلك السينما بأسلوب الحكي التقليديّ بل بالأفكار والفلسفة التي يريد المخرج أن يقدّمها في شكلٍ بصريٍّ جماليٍّ على الشاشة.
ولم يكتفِ مخرج الفيلم “عمر الزهيري” بفكرة التخلّي عن الحكاية التقليديّة، بل اعتمد في بناء صورة الفيلم على ما يُعرف في السينما العالميّة “بجماليّات الفقر أو الجوع” وهو منهجٌ سينمائيٌّ يعود للمخرج البرازيليّ “جلاوبر روشا” وأساسه هو الكشف عن البؤس والحرمان من أساسيّات الحياة عند الطبقات المهمّشة أو المنسيّة.
كلّ العناصر السابقة -وعلى الرغم من غرابتها بالنسبة للمشاهد مقارنةً بالأفلام التقليديّة- لا تتعارض مع منطق الإثارة الفنيّة؛ فقد تكون القصة السينمائيّة مفكّكةً وتُبرز جوانب مُهمّشةً من الواقع وتبقى رغم ذلك مثيرةً نتيجةً للسيناريو والحوار أو تقنيّات المونتاج.
ومع ذلك فقد تخلّى المخرج عن باقي العوامل الجاذبة للجمهور، فالفيلم يكاد يكون خاليًا من الحوار وينتهج أسلوب “المشاهد الطويلة – البطيئة” الذي اشتهر به المخرج المجريّ “بيلا تار”، وهو أسلوبٌ فيه تحدٍّ للجمهور نفسه مهما كانت ميوله؛ خاصةً أن مخرج “ريش” قد غذّى الفيلم بمشاهد تثير الاشمئزاز للوهلة الأولى.
عالم فيلم ريش.. واقعٌ لا تُحتمَل خفّته
قصة فيلم ريش تقوم على مفارقةٍ أساسيّة: زوجٌ يتحوّل على يد ساحرٍ استعراضيٍّ في عيد ميلاد أحد أبنائه -دون قصدٍ من الساحر- إلى دجاجة؛ تاركًا المشهد كلّه لزوجته الصامتة.
حكايةٌ تبدو ساخرةً لمن لم يشاهد الجانب البصريّ للفيلم، وتذكّرنا بالقصة الأشهر للروائي الألماني كافكا “المسخ” التي تبدأ بالبطل الذي تحوّل إلى حشرة. لكن الفارق أنّ قصة كافكا تدور داخل ذهن البطل بعد أن صار حشرة، لكن فيلم ريش يسخط الزوج في شكل دجاجة ليفسح المشهد أمام الزوجة.
يبدأ الفيلم بعرضٍ بطيءٍ ليوميات أسرةٍ تعيش حالةً من الفقر الشديد؛ زوجٌ متقشّفٌ تجاه أساسيات الحياة (المأكل والملبس والمكان) وفي نفس الوقت يجلب نافورةً لمنزله المتداعي أمام المصنع الذي يعمل فيه!
تلتزم الزوجة بالصمت التام والطاعة، لا تتكلّم ولا تناقش؛ فقط تستجيب لأوامر الزوج، فهل الزوج هو رمزٌ للسلطة السياسيّة؟
من الوارد تأويل الزوج تحت أيّ سلطة؛ لأن الفيلم يقدّمه بشكلٍ مجرّدٍ كامل، لكنّه في النهاية رمزٌ مفتوحٌ للتأويل: السلطة الأبوية، السلطة السياسية، السلطة الدينية. كلّها معانٍ يمكن للمشاهد أن يسقطها عليه، والمخرج قد بذل جهدًا كبيرًا ليجعله رمزًا عامًّا وليس محدّدًا فقط في الجانب السياسي.
على الرغم من الأساس المأساويّ للقصة إلا أن أغلب المشاهد تدور في إطار الكوميديا السوداء؛ احتفالاتٌ ورقصاتٌ ترافق الحدث الأساسيّ دائمًا بشكلٍ يستفزّ المنطق في عقل المشاهد، وفي الخلفية يبرز المكان سواءً كان المنزل أو المصنع بسوداويّةٍ شديدةٍ تُكسِب الصورة طابع الكابوس الخانق.
في المشهد الرئيسيّ في الفيلم يفشل الساحر تمامًا في استعادة الزوج مرّةً أخرى، وتبقى الزوجة حائرةً أمام دجاجة، ولا تعرف أصلًا كيف ستواجه الحياة فهي لا تعرف غير الطاعة.
المثير للسخرية أنّها تتعامل مع الدجاجة على أنّها زوجها المختفي وكأنّ روحه تسكن بداخلها؛ فتهتمّ بطعامها وتترك لها مكان الراحة الوحيد في المنزل (سرير النوم) لتأكل وتلهو فيه مسبّبةً حالةً من الفوضى والقذارة في المكان، ثمّ تنجرف في محاولاتٍ لا عقلانيّةٍ لاستعادة زوجها عن طريق السحر أو البحث عن الساحر الهارب الذي سخطه إلى دجاجة!
وفي رحلة البحث تتحرّك حيواناتٌ كثيرة (أرنب، قرد، ثور) داخل الحدث، والغريب أنّ ردود أفعالها إنسانيّةٌ بشكلٍ يثير الخوف والضحك معًا، وكأنّ الواقع هو أشبه بسيركٍ أختلطت فيه أجساد الحيوانات بأرواح البشر، وتحوّل البشر لكائناتٍ عديمة الروح كدُمى المسرح.
الزوجة هنا شبيهة دون كيخوته الذي يقع أسير الوهم تجاه طواحين الرياح، وبعد محاولاتٍ عديدةٍ فاشلةٍ لاستعادة الزوج تُضطَرّ إلى مواجهة العالم: البحث عن عمل، التعرّض للمضايقات، السرقة، الجوع.
كلّ ذلك في النهاية يؤدّي إلى احتلالها مكانًا في عالم الرجال، وهي نفس اللحظة التي تحدث فيها صدفة عودة الزوج مرّةً أخرى عن طريق قسم الشرطة.
عاد الزوج جسدًا مُنهَكًا بلا روح، مصابًا ومشوّهًا حتّى أنك تشكّ كثيرًا أنّه زوجها أصلاً، وكأنّ روحه سكنت داخل الدجاجة فعلاً!
وبعد محاولاتٍ كثيرةٍ لعلاجه وشفائه تخرج الزوجة عن صمتها وتطلب منه الكلام أو الحركة مع صفعات شديدة على الوجه، وفي المشهد الختاميّ تقرّر خنقه وذبح الدجاجة تاركةً ابتسامةً جانبيّةً بسيطةً وهي تشاهد عارضات رقصٍ على الشاشة.
من وجهة نظري القضيّة الأساسيّة الواضحة في الفيلم هي تحرّر المرأة من السلطة وما عدا ذلك من تأويلات. نعم؛ يمكن أن تكون المرأة رمزًا لشعبٍ مقهور، لكنّها في النهاية زوجةٌ واجهت الحياة مضطرّة، وفي رحلة المواجهة -رغم قسوتها – اكتشفت ذاتها؛ أنّها حرّة، ولم تعد بحاجةٍ لظلّ رجلٍ حرم أبناءها من أبسط متطلّبات الحياة.
أمّا عن المشهد الافتتاحيّ -عاملٌ يحرق نفسه أمام المصنع- الذي أثار الكثير من التساؤلات؛ فلا يمكن فهمه إلّا في إطار المشهد الختاميّ. ذلك الواقع الكابوسيّ محكومٌ عليه بطريقين: أمّا التحرّر من سلطة الأب اللا-عقلانية، وأمّا الانتحار في صمتٍ إذا استمرّ ذلك الواقع العبثيّ دون تمرّد.
ريش والنخبة.. غياب الفنّ وطغيان السياسة
أثناء عرض الفيلم في مهرجان الجونة انسحب عددٌ من الممثّلين من قاعة العرض، وعلّق أحدهم أنّ الفيلم يسيء لسمعة مصر. وفعل الانسحاب في حد ذاته مشروع؛ فالبعض لا يحبّ المشاهد العنيفة أو السينما البطيئة، في النهاية الفنّ أمرٌ اختياريٌّ معتمدٌ على الذوق الفرديّ، لكن التصريح الذي رافق الفعل أقحم الفيلم في ميدان السياسة، ومنذ تلك اللحظة غاب الجانب الفنيّ وحضر الخلاف السياسيّ.
تحوّل فيلم ريش إلى ساحة نزاعٍ سياسيٍّ لا يعود إلى الفيلم في حدّ ذاته، بل هي حالةٌ تكشف عن خللٍ كبيرٍ في معنى الموقف السياسيّ في مصر من كلّ الأطراف، والدفاع عن الفيلم أمرٌ لا معنى له لأنّ السينما المصرية -سواءً قبل ثورة يناير أو بعدها- شهدت العديد من الأعمال الفنيّة أكثر وضوحًا في نقد أوضاعٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ في الواقع المصريّ ورغم ذلك مرت مرور الكرام؛ فلماذا أشعل فيلم ريش تحديدًا كل تلك الخلافات؟
إذا توقفنا قليلًا عند معنى الموقف السياسيّ بشكلٍ عامٍّ يمكن أن نفهم سرّ تلك الحالة؛ فالسياسة -كمجالٍ إنسانيّ- مفتوحةٌ على كلّ المجالات الإنسانيّة الأخرى سواءً كانت دينيّةً أو فنيّةً أو حتّى علمية، بمعنى أنّ فكرةً دينيّةً أو محتوًى فنيٍّ يمكن أن يتحولا بسهولةٍ لموقفٍ سياسيٍّ إذا اقترن -كما وضح الفيلسوف الألماني الشهير كارل شميت- بثنائية الصداقة أو العداوة.
بالنسبة لفلسفة كارل شميت السياسية؛ فالمجال السياسي هو المجال الذي يحدّز دائرة الأصدقاء ودائرة الأعداء بالنسبة لأيّ نظامٍ قوميٍّ في بلد ما، وعلى هذا الأساس عندما تقسم فكرة دينية ما -مثلاً- الجماعة الإنسانية لفريقين: صديق وعدو؛ فقد تحوّلت إلى سياسةٍ وغاب المجال الدينيّ، وعلى نفس الأساس عندما يُفسَّرُ عملٌ فنيٌّ بناءً على منطق العداوة يتحوّل إلى ساحة نزاعٍ سياسيٍّ ويفرغ من معناه الفنيّ.
وتصريح الفنان في مهرجان الجونة بأن الفيلم فيه إساءةٌ لسمعة مصر هو تصريحٌ يضمر معنى العداوة السياسية؛ فالفيلم أصبح نتيجةً لهذا التصريح فعلًا سياسيًّا هدفه تشويه دولة، وبالتالي يصبح تكريم الفيلم من مهرجانٍ دوليٍّ تعبيرًا عن عداوةٍ تجاه الدولة المصريّة وليس تقييمًا للقيمة الفنيّة للعمل.
عندما حوّل التصريحُ الفيلمَ لموقفٍ سياسيٍّ بحت؛ استدعى ذلك الأطراف المتنازعة في مصر؛ فأصحاب المواقف اليساريّة المعارضة للنظام دافعت عن الفيلم لا من جهة القيمة الفنيّة للعمل لكن لأنّه يحمل رسالةً سياسيّةً مناهضةً للنظام الحاكم ويحفّز على فعلٍ ثوريّ. من جهةٍ أخرى انتفضت نخبة اليمين لتشويه الفيلم على أساس أنّ غرضه خبيثٌ ويغازل القوى المعارضة للسياسة المصريّة في الخارج.
بتلك الآلية يتحول كلّ شيءٍ لنقطة صراعٍ سياسيٍّ اعتمادًا على منطق الصداقة والعداوة، ويُقيَّم كلّ شيءٍ وفقًا لميول وأهواء الشخص تجاه النظام الحاكم؛ فيغيب التقييم الفنيّ والإجرائيّ للوقائع.
مثالٌ آخر يحدث يوميًّا في الواقع المصريّ ويوضّح المسألة أكثر: عندما تتّخذ الدولة إجراءً إداريًا لتطوير أحياء شعبيّةٍ أو بناء طرق؛ لا يفهم المعارض للنظام الحاكم في مصر الأمر إلّا في سياق المنطق السياسيّ القائم على العداوة، وينتقد إجراءً إداريًّا بحتًا لا علاقة له بالإيديولوجيّة السياسيّة للحاكم أو النظام السياسيّ؛ فما هو إداريٌّ أو إجرائيٌّ مجالٌ آخر له أدواتٌ أخرى في التقييم من داخل التخصّص نفسه، ولا يعبر عن منطقٍ سليمٍ لمعارضة نظام حكمٍ سياسيّ.
النخب السياسيَّة في مصر -سواءً كانت يساريّةً أو يمينيّة- توظّف كلّ حدثٍ سواءً كان دينيًّا أو فنيًّا أو حتّى إداريًّا على أنّه مناسبةٌ لتأييد أو معارضة الدولة، وهم في تلك الحالة أقرب لأوهام دون كيخوته من واقع فيلم ريش الخياليّ نفسه.