السلطة والعواطف (مترجم)

بقلم: خوسه أنتونيو مارينا

السلطة ظاهرة فتانة، جذابة وبغيضة في الآن نفسه، ورغم أنها تُمَارس بطرائق كثيرة، إلا أن الآليات التي تستخدمها قليلة ومتكررة. هناك سلطة تُمَارَسُ من الخارج: بواسطة القوة أستطيع إجبار شخص على فعل شيء ما أو منعه من فعله، إنه نمط أخرق ومحدود للغاية. أكثر إثارة للاهتمام تلك التي تُمَارَس من الداخل، بجعل الأشخاص ينفذون مشيئة القوي، بدون إدراك منهم، في بعض الأحيان، أنهم يفعلون ذلك، معتقدين أنهم يتصرفون وفقًا لإرادتهم الخاصة. في حالات كهذه لا تُلغَى الحرية إلغاء تامًّا، كما يحدث في حالة استخدام القوة. بل يتم تفعيل الخوف، والانصياع، والإغواء، والطاعة، والعدوى العاطفية. من أراد أن يمارس هذه السلطة فإنه يحتاج إلى حيازة واحدة من هذه الأدوات الأربع، أو كلها:

1- القدرة على منح المكافأة.

2- القدرة على إيقاع العقوبة.

3- القدرة على تغيير الاعتقادات.

4- القدرة على تغيير العواطف.

إعلان

وهاتان الأخيرتان هما اللتان يستخدمهما السياسيون. سواء في الحملات الانتخابية أو في التلقين التعليمي، تجري محاولة التلاعب باعتقادات وعواطف المواطنين. التقنيات الجديدة توفر وسائل هائلة للقيام بذلك.

السلطة المباشرة، المفروضة بالقوة، لا تنشغل بما يفكر به الضحايا. لم يهتم الجلادون النازيون إلا قليلًا بما كانت عليه آراء اليهود. لكن حتى الأنظمة الأكثر طغيانًا تعلم أنه لا يمكن الاحتفاظ بالسلطة بواسطة القوة وحسب، ثمة حاجة على نحو ما للدعم الشعبي، وللقبول من طرف الخاضعين. مثالها الأعلى هو الحصول على خضوع إرادي، وهو ما تستَخدم من أجله الخطابيات الكبرى. قال نابليون: “لا يمكن حكم شعب إلا بأن يُقَدَّمَ له المستقبل. فالزعيم هو بائع آمال”. الأمل هو خليط غريب من الاعتقاد والعاطفة، يتجلى في ظواهر سياسية كالنزعة الاستقلالية. بنية عقلية قوية ترتكز على الهوية، والاعتقاد بجوهر أمة، والفخر بتاريخ ليس بالضرورة أن يكون حقيقيًا، والأمل بمستقبل مجيد، كل ذلك يذكي عواطف انتماء قديمة للغاية، وعدوى عاطفية، والكثير من المعنى.

في محاولة تغيير الاعتقادات -والعواطف التي تصحبها- يشرع الباحثون عن السلطة في حملات تلقينية، بعضها شديدة القسوة كتلك التي نُفِذَّتْ في الثورة الثقافية الصينية، أو في ظل حكومة بول بوت في كمبوديا. يقدم المؤرخ كلاوس فيشر Klaus Fischer في كتابه Nazi Germany. A New History وصفًا لنظام التلقين التعليمي في النظام النازي. حوَّل بالدور فون شيراخ Baldur von Schirach منظمات الشبيبة الهتلرية إلى آلة ضخمة للسيطرة العقلية. أجبر قانون صدر عام 1936 كل الأطفال الألمان من الذكور والإناث (بين 10 و18 عامًا) على الانتماء إلى الشبيبة الهتلرية بغية تربيتهم بدنيًا وأخلاقيًا وثقافيًا وتشجيع خدمتهم للدولة. تعلق الأمر بإنتاج شبان “واعين بعِرْقهم، فخورين بوطنهم، وموالين للفوهرر”. كان الشعار “هتلر يأمر، ونحن نطيع”. شُجِّعَتْ العنصرية والعدوانية. وتمثلت الوسيلة في إقصاء التفكير النقدي، وتشجيع التماهي مع الزعيم، والشعور بالاتحاد مدفوعين بكراهية العدو: أولئك الذين أذلوا ألمانيا وأجبروها على توقيع معاهدة فرساي، واليهود، والبلشفيين، والمثليين، والغجر، إلخ.

يسبق المذابحَ العرقيةَ الكبرى زرعُ الكراهية. ففي عمليات القتل الجماعي في راوندا (1994) لا تخفى مشاركة وسائل إعلام شيطنت قبائل التوتسي شيطنة منهجية، محرضة على الخوف والكره. الشعار الذي تكرر مرارًا :”لن نسمح لكم بقتلنا، نحن سوف نقتلكم”. والمذابح في يوغوسلافيا القديمة كانت مدفوعة من دعاة الحقد، الذين ألبسوه لباس حب الوطن. عندما يتحدث أمين معلوف عن “الهويات القاتلة” أو عندما يدرس امارتيا سن Amartya Sen العلاقات بين “الهوية والعنف”، فإنهما يحيلان إلى استخدام مشاعر الكره والعداوة تجاه “الآخر”، كوسيلة لتأكيد الهوية القومية، أو الدينية، أو الجماعاتية. وحال تأسيس تلك الهوية “القائمة على رد الفعل” يغدو من السهولة بمكان استعمالها سياسيًا.

نعلم الآن أن مزيج الاعتقادات والعواطف يكمن في لا وعي كل واحد منا ومن تلك المنطقة يوجه هذا اللاوعي تفضيلاتنا وجزءًا مهمًا من قراراتنا. بما فيها قرار التصويت. أسارع إلى القول بأن الأمر لا يتعلق بـ “اللاوعي الفرويدي”، وإنما بـ “اللاوعي المعرفي” الذي درسه علماء الأعصاب. وحيث إن أحدًا ليس بمنأى من هذه التأثيرات الخفية، يبدو لي مهمًا الكشف عن آلياتها في محاولةٍ للدفاع عن حريتنا. الديموقراطيات لم تحمنا من أساليب التلقين. على العكس من ذلك، إن الرأي العام والاعتقادات والتفضيلات الفردية تُتَناوَلُ علنياً كأساس للسلطة، وتجبر السياسيين على الكفاح في سبيل السيطرة عليها. بيَّن ادوارد برنيز Edward Bernays، الشخصية المهمة في صناعة العلاقات العامة، أن “فكرة العملية الديموقراطية بحد ذاتها” هي “حرية الإقناع والإيحاء”، وهي ما يسميه “هندسة التوافق/الموافقة”. كتب في عام 1928: “إن التلاعب الواعي والذكي بالعادات والآراء المنظَّمة للجموع هو عنصر مهم في المجتمع الديموقراطي. إنها الأقليات الذكية تلك التي تحتاج إلى اللجوء المستمر والمنهجي لاستعمال البروباغندا”. بعد الحرب العالمية الأولى، عَرَّفت وزارة المعلومات البريطانية، سِرِّيًا، عملها بأنه “توجيه أفكار الجزء الأكبر من العالم”. (مقتبس من وثائق سرية من قِبَل R.R.A.Marlin,  في Propaganda and the Ethics of Persuasion” International Journal of Moral and Social Studies, Spring 1989).

بعد ذلك بخمسة عشر عامًا بيَّن العالم البارز هارولد لاسويل  Harold Lasswell، في موسوعة العلوم الاجتماعية، أنه عندما تفتقر النخب إلى الشرط المتمثل بالقوة من أجل الإجبار على الطاعة، فإن على المديرين الاجتماعيين اللجوء إلى “تقنية سيطرة جديدة كليًا، في جزء كبير منها عن طريق البروباغندا”. “إن نظام تلقين يعمل على نحو صحيح لديه مهام عدة، وبعضها يكون دقيقًا للغاية. واحد من أهدافها هو الجموع الغبية والجاهلة. التي ينبغي أن تظل هكذا، محيدةً، بالتبسيطات الفائقة والقوية من الناحية العاطفية، مهمشةً ومعزولةً. من الناحية المثالية، الجميع ينبغي أن يكونوا وحيدين أمام شاشة التلفزيون يشاهدون الرياضة، أوالمسلسلات، أو الكوميديا، محرومين من البنى التنظيمية التي تسمح للأفراد الذين يفتقرون إلى الموارد باكتشاف ما يفكرون فيه ويعتقدونه بالتفاعل مع الآخرين، وبصياغة شواغلهم وبرامجهم الخاصة، والعمل على جعلها حقيقة. هكذا، في وقت لاحق، يمكن السماح لهم، بل وحتى تشجيعهم، على التصديق على قرارات أولئك الذين هم أفضل منهم، في انتخابات منتظمة. يشكِّل العامَّة الهدف المناسب لوسائط الإعلام ولنظام التعليم العام الموجه للطاعة وللتأهيل المتعلق بالمهارات الضرورية، بما فيها الخاصة بتكرار المثل الوطنية في المناسبات الملائمة”.

في الوقت الراهن، تساعد التكنولوجيا في صياغة الآراء. ومن هنا خطورة فضيحة كامبردج اناليتيك Cambridge Analytic. إن بريان فوغ B.J.Fogg شخصية مؤثرة في تقنيات التلقين الجديدة، وهو مؤسس لـ”Persuasive Tech lab” في جامعة ستانفورد، وقد اخترع الـ “Captology”، العلم الخاص بالإقناع عبر الحواسيب. إن عنوان كتابه الأكثر شهرة كاشف:Persuasive Technology: Using Computers to Change What We Think and Do تقنية الإقناع: استخدام الحواسيب لتغيير ما نفكر فيه وما نفعله. كذلك هو حال كتاب الخبير الآخر، نير ايال Nir Eyal: Hooked: How to Build Habit-Forming Products مدمنون: كيف نصنع منتجات مُشكِّلة للعادات. يقول هذا الأخير: “في عام 2008، وانطلاقاً من تجربتي في إنشاء شركة كانت تضع الدعايات في الألعاب الاجتماعية على الانترنت، بدأتُ بالتفكير حول التلاعب وبالتساؤل عما إذا كان من الممكن ابتكارُ خطة تسمح لي بتصميم العادات. بعد انقضاء سنوات في جمع المعلومات الأكاديمية وبالاستفادة من عملي كمستشار، أوجدتُ النموذج هوك Hook model، الذي يسمح للشركات بتشكيل العادات عند زبائنها، الشيء الذي يُعَدُّ في أيامنا هذه ميزة تنافسية مهمة”. دين ايكلس Dean Eckles، من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT ، الموظف السابق في فيسبوك، يدرس كيف تؤثر التقنيات التفاعلية الجديدة على السلوك الإنساني، موسِّعةً وموجِّهة للتأثير الاجتماعي، وقد ابتكر أدوات إحصائية لقياسه. أما عالما السياسة يائير غيتزا واندرو غلمان Yair Ghitza & Andrew Gelman فقد حللا أنماط التصويت عند الأمريكيين واكتشفا أن التجربة المعاشة بين عمري 14 و24 عاماً تترك أثراً مهماً في السلوك السياسي في ما تبقى من العمر.

بدأ الاعتراف بالحاجة إلى تقدير وتعليم “حسن التقدير السياسي”، من أجل الإبحار في بحور الواقع المضطربة. وقد خلص دانييل يانكلوفيتش Daniel Yankelovich، بعد سنوات من البحث في “الرأي العام”، إلى أن كونك على اطلاع جيد، في نظام ديموقراطي، ليس كافيًا، وإنما هناك حاجة للعناية بحسن التقدير السياسي. وخصص لموضوعه هذا كتابين هما Toward Wiser Public Judgment  و Coming to Public Judgment. على المواطنين الالتزام بـ”تعليم عام”، وبالتفكير في المعلومات وليس مجرد معرفتها. أخشى أننا نعيش عصر كسل معرفي وأن ذلك الجهد قد يبدو زائدًا عن الحاجة بالنسبة لكثير من مواطنينا. في وقت يجري فيه تمجيد الرأي الشخصي والإشادة به، أو، ببساطة، يجري البحث فيه عن “Like”، من أجل ماذا سيكون علي أن أهتم بما إذا كنت محقاً أو لا؟ “أطالب بأن تُحتَرَم آرائي، ولا حاجة لإثبات أنها جديرة بالاحترام”. كلنا نعلم أن الترياق الوحيد للتلقين هو تعزيز التفكير النقدي، لكن يبدو أنه بات منخفض القيمة حاليًا جرَّاء مجموعة من القُوى. أظهرت ما بعد الحداثة عدم ثقة في العقل وتمجيدًا للعاطفة. بعض علماء النفس غير المدركين تمامًا لما يجري حولهم يدافعون عن البصيرة الأكبر للعاطفة -يخلطون بينها وبين الحدس- من أجل معرفة ظواهر معقدة. يدافعون عن أنه في حال تدخل متغيرات كثيرة فإن العقل، وهو خطي، لا يمكنه السيطرة عليها ويمكن للعاطفة فقط القيام بذلك وهي التي تعمل بشكل مواز. هذا مزيج مشوش من الحقائق والأخطاء، يتم استغلاله من أجل تسويغ، لا سبب له، لمواقف سياسية تستند إلى العاطفة، كالحركات القومية، أو الأصوليات الدينية. الحق أن هناك تعبًا من التفكير النقدي. وزيادة في سرعة التصديق الساذجة. في كتاب حديث  The Coddling of the American Mind يصف جوناثان هايت وغريغ لوكيانوف Jonathan Haidt & Greg Lukianof غياب المناقشات والتفكير النقدي في الجامعات الأمريكية.

لا أعلم ما إذا كنا سننجح في أن يسدي النقاش والمحاججة أي نفع للسياسة، لكنني، على الأقل، سأفعل ما بوسعي.

*خوسه أنتونيو مارينا: فيلسوف وكاتب وأستاذ جامعي من إسبانيا.
المصدر: El poder y las emociones

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ندى حمدي

ترجمة: زيـاد الأتاسي

اترك تعليقا