فن اللامبالاة بين “الحياة كما تريد أم اللاحياة على الإطلاق”
الآن سَنتعلمُ فنَّ اللامبالاة للكاتبِ الأمريكيّ مارك مانسون. الكِتابُ الأكثرُ والأشهرُ مبيعًا في العالمِ والمصنفُ ضمن كُتبِ تطويرِ الذات. في البداية أُنوهُ أنَّهُ للوَهلةِ اعتقدتُ أنَّني سأقرأُ كتابًا عاديًا ركيكًا في التنميةِ البشريّةِ؛ فالعنوانُ يَحملُ اسمًا أقل من العادي، والمُفارقةُ أنَّه يَحثُ على اللامبالاةِ، وهذا في حد ذاتهِ غيرُ مُبشرٍ أنَّه ذو نفعٍ على الإطلاق، وخاصةً باستباقِ اللامبالاةِ بكلمةِ “فَنّ”، أيُّ فنٍّ في اللامبالاةِ إذًا؟
هذا تحديدًا ما أثارَ فُضولي ودَفعني لِقراءته، وما إنْ قرأتُ أولى صفحاتهِ حتّى أدركتُ أنَّه ليسَ كِتابًا عاديًا على الإطلاقِ بَلْ كتابًا يؤصِّلُ لفكرٍ حقيقيٍّ ذي مفاهيمَ عميقةٍ عن الذات، عن رؤيتنا لها، ولمَن حولنا وعن الوجودِ بما فيه، عن معانٍ كثيرةٍ ماديّةٍ وروحيّةٍ ووجوديّةٍ.
استهلَ الكاتبُ أولَ فُصولهِ بفصلِ “لا تُحاول”. جملةُ الشاعرِ تشارلز بوكوفسكي الشهيرةُ التي رغمَ نجاحهِ الكبيرِ وشهرتهِ الواسعةِ وتحقيقِ أعمالهِ لملايين المبيعاتِ إلّا أنَّها كُتبت على قبره، مما أثارَ تساؤلَ الجميع: كيفَ؟ ولمَ؟ من هو الشاعرُ والروائيُّ الشهيرُ الناجحُ عالميًا؟ وبالفعل بدأ الكاتب في الكلامِ عن قصة بوكوفسكي هذا الذي ما عرفهُ أحدٌ قبلَ سن الخمسين إلّا مُدمنًا للكُحوليات ومُقامرًا شرهًا وزيرَ نساءٍ ومُتهرِب من ديونه، يكتبُ على مدارِ عقودٍ ولا ناشرَ يقبلهُ. إنسانٌ فاشلٌ عديمُ القيمةِ والنفعِ بالمعنى الحرفيّ والضمنيّ للكلمة، حتّى قابلهُ ناشرٌ صغيرٌ وقررَ أنْ يغامرَ بكتابته في سن الخمسين فنجحَ وأصبحَ هو من هو، بوكوفسكي.
انتَهت القصةُ وبدأ مارك يأخذُنا في التحليلِ العميقِ فيما حدثَ مع بوكوفسكي. نجاحُ تشارلز أتى من إحساسهِ بالراحةِ التامةِ في تقبُّلِ نفسِه كما تبدو عليها قبلَ أنْ ينجحَ وبعدما نجح؛ فحتّى عندما أصبحَ الشاعرَ والكاتبَ الكبيرَ وجدناهُ كما هوَ، فلم يحاول أنْ يبدو شخصًا أفضل. كتبَ عنْ فشلِهِ وعنْ علاقاتهِ بالنساءِ وعن فسادهِ وسوئه. كانَ صادِقًا فأبهرَ الملايينَ. ببساطةٍ كان هو لا أكثرَ ولا أقلَ.
ومن هنا يأخُذُنا مارك في أولِ فقرةٍ أنَّنا مصابون بأزمةٍ حقيقيّةٍ ضاربةٍ لثقافتنا الذاتيّةِ في مَقتَل، وهي تركيزُنا المفرطُ في السعي وراءَ المثاليّةِ. الأدهى أنَّنا لا نحاولُ للمحاولةِ ذاتِها بلْ نحاولُ للمزايدةِ على بعضِنا البَعض وليسَ لرغبتنا الحقيقيّةِ في الوصول. وفي الواقعِ أنَّ هذا هو أسوءُ شيءٍ على الإطلاق يمكن أن تُصدره لذاتك، حيثُ إنك به تعمِّقُ إحساسك الداخليّ بأنَّكَ مُفتقرٌ لما تحاولُ أن تسعى للوصول إليه. طيلةَ الوقتِ نضعُ أنفسَنا في مقارناتٍ غيرِ سليمةٍ مع الآخرين، هذا أكثرُ حظًا مني وهذا أكثرُ ثراءً مني وهذا أجمل وهذا أكثر نجاحًا، وهذا أكثرُ شهرةً.. الخ. ما هذه التعاسة التي لا أعرفُ هل انسَقْنا إليها أم هي من انساقت إلينا؟
ففي عصرِ الانفتاحِ سقَطنا في أسوأ عيوبِ العولمةِ، وهو التأصيلُ لفكرةِ المقارنةِ الدائمةِ بيننا وبينَ الآخرين من خلالِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ. عندما أُتيحت لنا فرصُ الاطّلاع على حياةِ بعضنا البعض، أخذنا بالمظاهرِ فقط، وكأننا سقَطنا جميعًا في عالمٍ كبيرٍ غيرِ حقيقيٍّ، لا يفعلُ بنا سوى نشرِ الإعلانات عنّا (هناك من لديه الوظيفة الأحسن، وهناك صاحب السيارة الأفضل، والعقار الأكبر.. إلخ)، فنجدُ المرأةَ لا تغادرُ المرآة لطلاءِ وجهها بالمساحيقِ وأظافِرِها والهوسِ بجسدِها: شدُ وحرقُ دهون وسمنةٌ ونحافةٌ وبوتوكس وفيللر.. وإلخ من هذه الدائرةِ التي لا تنتهي طالما أصحابُنا أكثرُ جمالًا منّا، والرجلُ الذي يُحقِّرُ من ذاته لأنه لا يملكُ سيارةً مثل فُلان، ولا مُمتلكاتٍ فخمة مثل علان، ولا يتردد على نوادٍ ومطاعمَ يترددُ عليها أقرانه. فخٌ لم يتفاداهُ سوى العارفونَ بأنَّ القيمةَ الحقيقيّة للذات لا تنبعُ من التفوقِ على الأقران في مثل تلكَ الأشياء ولا من التفوقِ على الأقران من الأساس بلْ من القدرةِ على تقبُّل ذاتِك كما هي؛ فتلك هي أعظم هبةٍ يمكن أنْ تمنحها لنفسِك.
فمن النقصِ الشَّديدِ اللهثُ وراءَ القشورِ والزيفِ السطحيِّ بلْ والمبالغةُ في تعميقِ شعوركَ بأنَّ هذا هو مفهومُ الكمالِ، هذا أمرٌ خطير، فانتبه أنتَ تضرُ بسلامِكَ النفسيّ والروحيّ والعقليّ. فالمفتاحُ الحقيقيّ في تقليلِ الاهتمامِ بكلِّ ما هو غيرُ حقيقيٍّ والاكتراثُ فقط بجوهرِ وحقيقةِ وروحِ الأشياء، لذلك فعلينا الاستيعابُ أنَّ أزمتنا يجب ألّا تكون أزمةً ماديّةً بلْ أزمةً وجودية، أزمةً روحيّةً حقيقيّةً في اكتشاف الشيء الذي نمنحهُ اهتمامنا وفي المقابلِ عدم المبالاةِ بالأشياء التي لا يضرُنا تركُها.
فكرةٌ أُخرى يحاولُ تعميقَها الكتابُ وهي عبارةٌ قالها الفيلسوفُ آلان وات: “إنَّ الرغبةَ في مزيدٍ من التجارب الإيجابيّة تجربةٌ سلبيةٌ في حد ذاتها. والمفارقةُ أنَّ قبولَ المرءِ تجاربهُ السلبيّةَ تجربةٌ إيجابية في حد ذاتها”. هذا ما عرَّفَهُ باسم “القانون التراجعي”. “فكلما سعيت إلى أن يكون إحساسك أفضل كلما تناقص رضاك، فملاحقتك لشيء تعزز حقيقة افتقارك له”.
يضربُ الكتابُ عشرات الأمثلةِ في هذا الصدد، ويستعينُ بمقولةِ الأديبِ ألبير كامو:
“لن تكون سعيدًا إذا كنتَ من الباحثين عمّا تتكون السعادة، ولن تعيش سعيدَ حياتِكَ أبدًا إذا كنت من الباحثين عن معنى الحياة”. وهذا بالضبط ما قاله بوكوفسكي “لا تحاول”.
ويستكملُ بعبقريَّةٍ: “الألمُ خيطٌ من خيوطِ نسيج الحياة نفسه، وليس اقتلاعه أمرًا مستحيلًا فحسب، بل مدمرًا للنسيج نفسه، فتؤدي محاولات اقتلاعه إلى تفكيكِ كل ما هو مرتبطٌ به، وليست محاولة تفادي الألم إلّا مبالاةٌ بالألم أكثر مما يجب، وعلى النقيضِ من هذا إذا كنت قادرًا على شيءٍ من اللامبالاة اتِّجاه الألم فإنك تصير شخصًا لا يُقهر”. ففنُّ اللامبالاةِ الذكيّ هو تعلمُ خوضِ الصراعِ الحقيقيّ مع ذاتك في كيفيةِ اختيارِ ما يهمُك لتصُبَّ تركيزك عليه، وما لا يهمك فتصرف ذهنك عنه. ويُلخِّص الفصلُ الأولُ ما يجب عليك فعلهُ في ثلاثة نقاط أولها: عدمُ الاهتمام الزائد لا يعني عدم الاكتراث مطلقًا بلْ يعني أن تهتم على نحو يريحك أنتَ. ثانيها: حتى لا تهمك الصعاب لابُدَّ لك أولًا من الاهتمام بشيء أكثرَ أهمية منها. أي أنَّ الهدفَ الأكبر الأسمى لحياتك سيهون من صعوبات الوصول إليه. ثالثها: سواء أدركتَ هذا أم لم تدركهُ فأنتَ الذي تختاُر دائمًا ما تمنحه اهتمامك. فماذا ستختار؟