فنُّ العيش: الفلسفة في زمن الكورونا
يبدو أنَّه كُلما حلّ واقعُ الأزمات الطّارئة على الحياة البشرية، كان له الجدارة المعيارية على أن يُشكِّل نواة الكشف والمحاسبة للنموذج والنمط السائد المُدَبّر والمنسّق للجسد الاجتماعي، فوضع الاستثناء يُثبت القاعدة، مِن حيثُ أنّه يَكشف لنا زيف المقولات التي تحسمُ أنسب شكلٍ للتنظيم البشري الذي نعيش وفقه. كونه أفضل النماذج الممكنة، أو بالأحرى يجلي الغشاوة عما يقبع داخل الخطاب والممارسة السياسية والإجتماعية والأخلاقية للعديد من الدول التي رفعت شعارَ بلاد العالم الأول «الرّفاه». في تلك الأثناء وما يعقبها، تَطرح لنا عادةً، إعادة التساؤلات والرؤى النقدية للعديد من المفاهيم في مناحٍ مختلفة؛ سياسيًا واجتماعيًا ووجوديًا.
وباء الهَيكل
تصبح حالة الاستثناء مقياسًا لمدى قابلية وقدرة التنظيم البشري على الحفاظ على تماسك الإنسان. تحل جائحة فايروس (كوفيد-19) ليس فقط لتُعلن عن وباءٍ مرضيّ يصيب مناعة أجسادنا، بل لتشير إلى أبعد من ذلك؛ حيث الوباء الأشدّ فتكًا ومرضًا في منظومتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العالمية، والذي يموت جراءها يوميًا آلاف البشر جوعًا وفقرًا في الظروف غير الاستثنائية؛ مثال آحاد بسيط بالرغم من توافر الحلول، كذلك تدمَّر البيئة والمناخ بدون مراعاة العواقب الوخيمة والتي تُنذر بإنقراض الجنس البشري. بيد أن الكوارث والأوبئة ليست بالأمر الجديد والمفاجئ لمسيرتنا، لكن المفارقة في طبيعة عمل التنظيم البشري في حيز ما خطاه الإنسان في صرح التقدم. وهكذا يصرح «نعوم تشومسكي» عن كورونا قائلًا: «ليس فقط بسبب فايروس كورونا؛ بل لأن الفايروس يحضرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها البشرية، فالعالم مَعيبٌ وغير قويّ بما فيه الكفاية للتخلّص من الخصائص العميقة المُخلّة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي كله، واستبداله بنظامٍ عالمي إنساني؛ كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء».
يبدو أن الحالة الحرجة وما بعدها، تمدنا برصدٍ يهدف إلى تشخيصٍ أكثر وفرةًَ بالعوامل المرضية والمُزمنة في بنيتنا البشرية التي تستمر في العمل خلال الأزمات في استغلال شتى الحالات، إنها تنال الخطوات الهادئة في ظل الصدمة، كما أسمتها نعومي كلاين «رأسماليّة الكوارث»، ونرى مجددًا شواهد على نفس النهج، كما أشار إليه «ديفيد هارفي» عن تخفيض الاحتياطي الفدرالي للفائدة لمواجهة الفايروس، وأن هذه الحركة هدفت إلى التخفيف من التأثير على السوق، وليس بهدف مواجهة الفايروس.
-
المَعرفة والذّات
ما سوف أتناوله بالحديث هنا، ليس ما يُأكّده الفايروس من وباءِ السياسات الرِّبحية والنيوليبراليّة في جوانب الرّعاية الاجتماعية والصحيّة، بل الحوار على جوانب نموذجِ «قيمة المعرفة» في الدّور المُؤسسي تعليميًّا وتربويًا في نشأة الفرد والإحالة إلى أهمية دور الفلسفة كنهجٍ تربوي.
إذ أنَّ ما يطغى على منهجيّة التربية والتعليم هو الجانبُ التخصصي، فالتعليم يقوم على نمط الاستثمار في الإنسان لأجل السّوق، تُشكل الذات طبقًا لدورها في المجتمع مع تقسيم العمل والهرميّة الاجتماعية، فتتصور الذات نفسها من خلال أُطُر الرغبات والأمنيات المُحددة سلفًا، بما يتناسب مع المنظومة الاجتماعية، وهناك مقاربة من تلك الزاوية، عن مفهوم «الأجهزة الأيديولوجية»؛ (كـ الأُسرة والمُؤسسة؛ التعليمية والدينيّة والطبيّة…) للفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير؛ الذي يُحدد أنّ: نمطَ الذّات هو نفس النمط الذي تتسم به الأيديولوجيا أيًّا كان تعريفها. وبناءً على فكرة ألتوسير، فإن ذواتنا تتشكل طبقًا للأيديولوجيا، فنكون ذواتًا أيديولوجيّة. واستعمل ميشال فوكو حقلَ دراسة السلطة والمعرفة على خطّ ألتوسير مع اختلاف المنهجيّة ومفهوم السُلطة بينهما، لكن كانت نتيجة التّصور لكليهما، أن الذات حقل تتلاعب به الأيديولوجيا/تقنيات السُلطة.
ففي مراحل تعليمية غير متكافئةٍ اجتماعيًا في ظل المجتمعات الرّأسمالية، يتكون وعيُ الذّات المعرفي عبر طريقة التشييد والتلقين، إذ تعتمد منهجية المعرفة في إرساء الغاية الهرميّة من التعليم أكثر ما تسعى إلى تعليم فكرة أن تصبح الذات حُرة، تملكُ القدرة على تكوين وامتلاك قيمةٍِ معرفيّة خاصة بدون تأطير وتفتيت لدور الذّات، كما كان يدعو شعار الأنوار «استعملْ عقلك أنت» وقيم العقل والحرية. فالمنظومات التعليمية تجعل؛ «علاقة الإنسان بذاته مُمزقة».
لقد حمل عصر التنوير موقفًا صريحًا من قيمة المعرفة للذات، لكن ما آلت إليه مكانة الذات في التنظيم الاجتماعي هو استعمالٌ للمعرفة عبر الذوات، ومدى اتصال السلطة والمعرفة؛ أخرج لنا تياراتٍ نقدية لعصر الحداثة والتنوير كمفكري مدرسة فرانكفورت «التيّار النقدي»، الذي برز في ظل أزمات اقتصادية كعصر الكساد العالمي والحروب العالمية؛ ليعبّر عن وجهةٍ نقدية ضد البنية الرأسمالية والمجتمعات الاستهلاكية والقيم التنويريّة، وكيف أدّت العقلانية إلى ما أسموه العقل الأداتي، وأحدثت تلك الدراسات في النظريات الاجتماعية والفلسفيّة أهميةً بالغة في تبيان موقع الذات، ومدى إغراقها في التشيؤ والاغتراب. نجد حديث «ثيودور أدورنو» عن هشاشة الأنا المعاصرة من جرّاء استراتيجيات التلاعُب بها؛ «فَقَد الأفراد القوة النفسيّة التي تمكنهم من تقرير مصيرهم العمليّ». إذن ما نربطه بالإطار النقدي ذاك، أنّ ما يتوافق مع أهداف المؤسسات التعليمية يتّصلُ بسوق تقسيمِ العمل، تُحصّل فيه المعرفة في الجوانب التطبيقيّة التخصصيّة، وليس هناك أهمية، أن تمتلك الذات الإنسانية القُدرة في تشكيل منهجها ومعرفتها بما يتناسب مع تفاعل الذات في الحياة والواقع والتجربة.
-
إحياءُ فنون الفلسفة
ولمّا كان الإنسان ليس آلةَ عمل، مجرّدةً عن الحياة الاجتماعية والأخلاقيّة التي تتفاعل مع صور الوجود، بيد أن تهاوي قيمة المعرفة وعلاقتها بالذّات أمام الأزمات الاستثنائية بشكلٍ ملحوظ عن الأوقات العادية، وذلك الكشف لغياب قيمة المعرفة في حياة الفرد، هو ما يدفعنا إلى فهم هذا الصيت الذائع للعقل الّلاعلمي، وذلك لعيوبٍ هيكليّة في التنظيمِ الاجتماعي الذي يعتمد على تسليع كل شيء، في إطار السوق الرّبحي.
(1)
وما يتبادرُ إلى الذهن، عن ضآلة موقع الفرد في علاقته مع ذاته ومع فاعليته لما حوله!، يطرحُ تساؤلًا فيما يجعل الذات في موضع الفاعل، ما نحتاجه؟
لجأ بعضُ مفكري فرانكفورت «هربرت ماركوزة وثيودور درونو» إلى الفن كمقاومة للواقع؛ «تحرر وانعتاق الإنسان المعاصر»، وقد انتقد درونو الحقلَ الفني المؤسسي، واعتبره مفرّغًا من مضمونه ومجرّدًا لاستهلاك المُتعة والتسلية التي تتلاعب وتنمّط البشر طبقًا لما تحدده المُؤسسات الاقتصادية.
بينما سعى فلاسفة البنيويّة «ألتوسير وفوكو» في الاعتماد على الفلسفة كمقاومة، حيث أسهم ألتوسير في توضيح المخرج من سيطرة الأجهزة الأيديولوجيّة، عبر نقد التصوُّرات الأيديولوجية وتحويلها إلى تصورات علمية، مما يمكّننا من كشفِ واقع هيمنة الذات الأيديولوجية، وأما فوكو بعدما كان أعلن «موت الإنسان» عن أي فاعلية في التاريخ في كتابة الكلمات والأشياء، رجع في كتاباته الأخيرة إلى إعادة فتح منفذٍ لمقاومة عملية تشكيل السُلطة للذات وما أطلق عليها «التذييت»، عبر اعجابه بالمدارس الإغريقية والرومانية القديمة، ونمط وفنّ العيش الفلسفي وما أسماه «رعاية الذات» وهو مبدأ عناية المرءِ بذاته عبر القدرة على المُصارحة ونقد التصوّرات والأفعال الذّاتية وكشف تقنيات تشكيل الذات، أي أن تعّي الذات موقعها وتشكّلها، وتجِد السبيل حتى تقاوم عملية الإخضاع والتذييت، فتكون ممارسة الذات لنفسها بشكل إرادي لكي تعمل على تحسين الذات.
من خلال نموذجين ألتوسير وفوكو والذين استمدوا وجهتهم من أن الفلسفة قادرةٌ على إحياء الذات وصلتها بقيمة المعرفة، الأول أخذ وجهة الفلسفة على مستوى المفاهيم والخطاب، والثاني نظر إليها من خاصيتها كفن للوجود. نعين انحصار دور الفلسفة في حياتنا، طبقًا لموقعها في النشأة التعليمية والتربوية، حيث نجد أنّ مادة الفلسفة تأخذُ منحى مواد التاريخ، وحتى مع الترقي في السلّم التخصصي أكاديميًا، يبدو أنها تفتقر للأهمية المطلوبة، فعلى مستوى اهتمام الفلاسفة بالمفاهيم والخطاب والمنهج، يكون دور التفلسف ضيقًا في حيز صفوةِ قليلة مًنشغلةٍ نظريًا، أما دور الفلسفة في تربية العقل وصقل الذات البشرية مُهمّشًا، وذلك مفسّرٌ -كما ألمحنا- عن طبيعة اسقاط النمط الاجتماعي لقيمة المعرفة.
(2)
وحول صلاحية الفلسفة في حياتنا، من مقولات موت الفلسفة، وتجاوز عصرها، فلا تخلو تلك الوجهة من قصور، إذ أنَّ النزوع الفلسفيّ لا يمكن أن يسجن مضمونه الأصيل في إطار تعبيرٍ أو فلسفةٍ ما، أو نسق معين.
ويعبر عن تلك النقطة؛ «آلان باديو» عن جوهر الفلسفة القادرِ على تكرار الولادة دائمًا، أي أن «الفلسفة بإعتبارها عودةٌ أبدية للشيء نفسه»، ويستعير باديو استنتاج هيغل أن: «الفلسفة هي طيرُ الحكمة وطير الحكمة هو البومة. لكن البومة تطيرُ فقط عند أفولِ النهار. والفلسفة هي النظام الذي يأتي من بداية الليل بعد نهار من المَعرفة والتجارب»، هنا يربط باديو التفلسف بالسّياق المعرفي، حيث أنّ شروطَ الفلسفة أن تبدأ من حيث انتهى العلم؛ «الفلسفة تحاولُ دائمًا اللحاق بالمستجداتِ غير الفلسفيّة»، وبتعبير ألتوسير: «الفلسفة ليس لها تاريخٌ على الإطلاق، إن الفلسفة هي دائمًا نفس الشيء». إذًن، كانت أهمية العقل الفلسفي في طرح الأسئلة في الطبيعة (الكوزمولوجي)، والدور الذي حثَّ الإنسان على تطوير مناهج علمية خارج نطاق خواص التفلسُف. وإذا كانت الفلسفة أمُّ العلوم فهي لا تقف عند ذلك، بل تتناول العلم من خارجه بالتحليل المنطقي، ولها أسبقية في المبحث الإبستمولوجي وفلسفة العلم، فهي؛ «تلك التي تحلل العلم ولا تكون جزءًا منه» بتعبير: زكي نجيب محمود.
ومع تناول كلام باديو عن تناسخ الفلسفة في دورة تكرار لانهائيّة، يمكننا النظر للفلسفة كسمة وملكةٍ إنسانية عقليّة تَعبُر معه مراحل تطوره الأنثربولوجي، فهي تُعايِشُه في سياق تنوعاته وتناقضاته الآنيّة والتاريخيّة، فللفلسفةِ نزوعٌ متعدد الخواص بما يلائمُ صيرورةَ الإنسان. فالفلاسفة والحكماء ما هم إلا معبرٌ إلى الواقع وحركته وتناقضاته وأزماته وألغازه. ويكفي النظر إلى موقع الفلسفات الأولى وتغيُّرها مع حركة الزمن والبنية الاجتماعية والسياسيّة.
والمنهج العلمي يهتمُّ بالكشف عن النظام عن طريق الفرض والرّصد والملاحظة والتجريب، والقدرة على التنبؤ والتصحيح الدائم لأقرب نموذجٍ يقدم تفسيرًا موضوعيًّا وعلميًّا. والفلسفة في جانب المفاهيم تصاحب المعارف العلمية الجديدة وتعتمد على الاكتشاف الجديد. وتلك صلة الفلسفة بالعلم، ولكل حقل مجاله.
(3)
أن يكون المرء ذاتًا مفكّرة ونشطة، أي أنّه يعبّر عن العقل وحضوره في العالم، وتفكّره في مواجهة الأوهام وتفكّره في حالات الوجود والموت، تفكيره في طرقِ العيش في مواجهة ظروفِ الشّقاء والألم بل التعامل مع الرغبات والأهداف أيضًا، هنا أن يكون المرء متفلسفًا، ليس كما يدرج في الرأي العام أن التفلسف هو الشَطط والجنون، بل أن طلب الحكمة هو القدرة على التحكم في الذات.
فإن كانت الفلسفة على مستوى «المفاهيم» هي تاريخٌ من المفاهيم الكبرى التي تفاعلت وأثّرت في التغيُّرات المهمة لتصوراتِ ومفاهيم وقوانين وأخلاق البشرية، إذ أن الفيلسوف طبيبُ الحضارة، فإنها على مستوى «نمط الحياة»، هي تحسين القدرة على التفكير والعيش، فالفلسفة هنا تفرد الفعل الذي يجعل المرء على درجة من النقد العقلانيّ وله قيمةٌ معرفية من تجاربة وحياته.
نستلهم من كورونا وفتراتِ المَخاطر والاستثناء في الحاجة إلى إعادة التساؤل عن فاعلية طرق التفكير وأنماط العيش في مقابلة القلق والخطر، فما نراه جديرًا أيضًا بالتناول والأهمية فيما يساعدنا في حياتنا الواعية؛ هو الرفع من قيمة التفلسف.
-
إنذارُ كورونا
غالبًا ما يرتدُّ الإنسان لحالة من النكوص إلى ذاته وإلى صلته بالوجود وبالأخرين، وذلك في أوضاع الطوارئ والاستثناء، التي تجعل المرء يتذكر أو يكتشف أو يتسائل أو يختبر أجوبته المُسبقة، ومدى ما يمكن أن يكون. الخوف هو شعور ينتاب الفرد بالتنبيه والإنذار لوجود خطر ما، حقيقي ومعلوم، فتلك الحالة من القلق الموضوعي، تحفز بالأساس الشعور على المجابهة والاستعداد. فالخوف يُولد مع الانسان؛ «يبدو أن عملية الميلاد وهي أوّل خبرةٍ بالقلق تمُر بالفرد، قد اعطت انفعال القلق في الانسان والحيوانات العليا بعض طرق التعبيرِ الخاص»، وإذ أن حتمية الموت، تضع داخلنا الخوفَ الكامِن من تلك المواجهة المصيرية. وكما أن غريزة البقاء تدفعنا نحو الحفاظ على الحياة بالرغم من معرفتنا بحقيقة الموت، الذي يواجَه بالعديد من محاولاتِ تناسي وتجاهلِ الموت، فهنالك مخاوفٌ بيولوجيّة؛ تدقّ ناقوس الخطر مع كل ما يهدد وجود الحياة البشرية للنوع، كالظواهر الطبيعية، التي واجهت البشرية على مدار سيرها، منذ حياة الغابة والكهوف إلى الزراعة والحضارة والصناعة، وحتى الثورة المعلوماتية والتقنية.
فقد عاشت المجتمعات البشرية دائمًا مع مخاوف المجهول، ورقعة المجهولِ تكمن في حيّز معرفة البشر لقوانين الطبيعة وموقعهم منها، تلك المواجهة الدائمة، التي نال منها الإنسان الكثير، وقد أسَّس من خلال سير المعرفة العلمية، مجتمعاتٍ مستقرةٍ متوغّلة ومنتشرة في أنحاء الكوكب. ويترتب على حالة استقرار الإنسان في نظم اجتماعية، أن تصبح دائرةٌ أخرى من الحماية والاستقرار، للحفاظ على البقاء، وأيّ مخاطرٍ تزعزع تلك البنية الاجتماعية التي تشمل دائرةً ثالثة هي الثقافة، التقاليد والأعراف والأخلاق والعقائد، فالخوف يُنذر بالتهديد لهذا الاستقرار، خوفًا من الرجوع لدائرة الخطر الأصلية والبيولوجية.
عندما يندفع الشعور بالقلق والخوف عن دوره التحذيري إلى الإصابة بحالة الهلع والانخراط في المخاوف التي تؤثر على القرارت والتفكير السليم، ويبقى المرءُ أسير خوفه وأعراضه الّلاشعورية. فإنذار الكورونا هنا ليس فقط، في الخطر الفعلي منه، بل إنذارُ الإنسان إلى ذاته، حتى ينتبه، ولا ينسى واقعَ الحياة ومخاطرها الحتميّة، فما تتضمّنه رسالة كورونا؛ هو حاجة الإنسان إلى ذاته، إلى أن يلاقي نفسه ويعزز من وعيه الذاتي الذي لا مناص منه في مواجهة أي أزمة.
. الفلسفة كفنٍ للعيش
نولج هنا في تناول الفلسفة كفن للعيش؛ وما سنتناوله هو علاقة الانسان بذاته؛ «وعي الذات بالذات» والنزوعُ الفلسفي في العيش هو أن يتقلد عقل الإنسان الدّفة في التأمل والمعرفة لنفسه، كالمقولة التي ردَّدها سقراط «اعرف نفسك بنفسك»، فلِكي يصبح المرء على قدر ما من الحكمة، عليه أن يُحسن الإبحار في أغوار نفسه، أي أن يحكم نفسه أولًا، حتى يتسنى له التعامل مع الواقع. وجُلّ ما سنعرضه من فلسفات العيش، هي أفكارُ وأفعالُ فلاسفتها، أي أنّها تعبّر بشكلِ أصيلِ عن تجاربٍ وخبراتٍ بشريّة، ليس بغرض تبشيري على قدر ما تعبّر عن نماذج تبرز من طرقِ تفكيرٍ مختلفة على نحو ما يعايشه الإنسان من خوف وألم. وكيف أن رسالة التفلسف هي نمطُ حياة، وإيمانُ وإتكالُ الإنسان على نفسه، وأنه يمكن أن يشكل تجربته، بما يحقق له الحياة السعيدة.
(1)
الفلسفة عند القدماء كانت تُعتَبر ممارسةً، لا مجرد تفكيرٍ نظريّ، فبدايةً من الفلسفاتٍ الشرقيّة التي تدورُ حول مركز الإنسان ومجابهته لمخاوفهِ ومعاناتِه عن طريق الحكمة والتأمل في سلوكِ الفرد، ليملِك زمام الرّغبة والتعلّق والقلق والغضب والخوفِ من المجهول.
بيد أن الحكمة الهندية تعبّر من خلال فلسفاتها الصوفيّة «الأوبانيشاد» التي ترى العالم الدنيوي وهميّ، ويجب عيشُ الحياة على نمطِ الزُهد للتحرّر من أوهامه؛ «فإن تجاهلُ الذات الداخليّة والاكتفاءِ بالعالم الطبيعيّ هو فعلُ جهالةٍ لن يتمخّض عن شيءٍ سوى الوهم والمعاناة». وفي فلسفة «السمخيا» كما الأوبانيشاد، لا يوجد طريقٌ للخلاص سوى معرفة النفس على نحو كافٍ وذلك بفصلِ المعاناة عن النفس؛ لأن المعاناة تكمن خارج الذات في العالم، فالألم مجرّدٌ عن القيمة؛ لأن القيمة تتعلق بعقولنا دون العالم؛ إذ «أن المعرفة يقظة، بسيطة تكشف جوهرَ الذات» فإنّ الإنسان هو محور اهتمام الحكمة الشرقية، ففي الفلسفة الجاينية، يتحقق الخلاص فقط بعملٍ ذاتي، حتى أن «الصلاة للآلهة هي بلا طائل»، ويقول ماهافيرا: أيّها الإنسان، أنت صديق نفسك، لماذا ترغب بصديق خارجَ ذاتك؟، وقد كان سِدهارتة «بوذا» يرفض الورعَ الدينيّ كسبيلٍ للخلاص، فيرى المغزى أن يجدَ الإنسان في أي تفكير يقوم به، الكشف لفهم رغباته والتحكّم بها بإرادته. فأصل المُعاناة تكمن في الرّغبة والتّعلق، إذ أن صيرورة الحياة في شقاء، ويأتي الشقاء دومًا من الظمأ إلى الحياة والتشبث بالوجود عبر الانغماس في الرغبات، والقضاء عليها بعدم التعلّق بأي رغبةٍ تؤدي إلى الشقاء.
وصاغ بوذا مبدأً أسماه النُهج الثماني النبيلِ ومنه هو «الاعتقاد والمَقصد والكلامُ والسّلوك والعيشُ والمسعى والتفطُّن والتأمل» السليم؛ هو الطريق للاستنارة «النرفانا». وقد أثّرت الفلسفة البوذية في العديد من الطوائفِ الدينية وغير الدينية في ردِ استيعابٍ وتقبّل المعاناة والألم للإنسان نفسه، ومثل طائفة «التشي آن/الزِّن»؛ التي تسعى لأنْ يَصِل الإنسان للعيش البسيطِ وضبط الذّات، فيقرّون أن حقيقة اليقظة تكون داخل النفس «أنا نفسي»، «يتبصّر المرءُ في طبيعته»، إذ يتبعون تقنياتٍ تأمليّة لمحاولة تحقيق صفة الواحديّة، «فالحقيقة لا تُمكِّن معرفتها ما دام يجري التفكير بطريقة تفريقيّة بين ذاتي والعالم» فعندهم التمييزُ المثنويّ مُضلّل، إذ أن فلسفة الزِّن لا تسلك التقليد الفلسفي في طرح الأسئلة، بل تنهجُ طرقَ التأمّل الحدسيّ؛ وذلك لأنهم يرون أن حيرة العقل دلالة على طبيعته المحدودة، لذلك يرون أن على المرءِ تجاوزَ المفاهيم العقلية. هكذا كانت مُمارسة الحكمة لفضّ الإنسان عن التشبُّث بالأشياء، وتقبل فهم الألم ووجوده والتعامل معه.
(2)
نشهد الفسلفة كممارسة عيشٍ أيضًا مع قدماء اليونان، ومدارسهم الفلسفيّة المختلفة التي دارت حول الاهتمام الإنسان وعقله، كالفيثاغورسية والسوفسطائيّة والسقراطيّة والكلبيّة والأبيقوريّة والرواقيّة.
(أ)
لقد أولى سقراط أهميّةً أصيلة نحو الإنسان وأفعاله، كما نهجَ معلمو البلاغة «السوفسطائيين»، وكانت فلسفته تقرُّ أن أخطاء الإنسان نابعةٌ عن جهله، فلذا فإن المعرفة خير، والعقل فضيلة، «كل فردٍ منّا يتّصف بالطيبة بقدر حكمته وبالسوء بقدر جهله»، فالحكمة والمعرفة هي الطريق المُؤدي لحياةٍ أخلاقية خيّرة؛ لأن الناس لا يفعلون أنسبَ الأفعال بسبب تأثرهم بالّلذة، وقد كانت حياة سقراط بعيدة عن الاكتراث بمتاع الدنيا، وقد ارتأى أيضًا أن: «الفلسفة تعلمنا كيف نموت»، وذلك ما نشهد عبرته في قصّة مواجهته الهادئة للموت إعدامًا.
وسار على درب الإنسان الكلبيين، لقد ذهب «أنتستانس» أن الفضيلة أفعال والأفعال لا تُعلم بل تكتسب بالمِران، هكذا كان هدفه في الفضيلة طلبُ الحياة البسيطة بتهذيب الإنسان لنفسه؛ يقول: إني لا أملك حتى لا يتملّكني أحد.
وقد تحمل قصّة دوجين الكلبيّ والإسكندر؛ دلالةً معبرة عن الفلسفة الكلبيّة اتجاه أنفسهم، فعندما مرّ الإسكندر الأكبر على دوجين سائلًا إياه عما يريد؛ فأجابه: ابتعد حتى لا تحجب عني الشمس. إلى درجة أن الإسكندر رد «إن لم أكن الإسكندر لكنت ديوجين»
بينما يسلك آخرون طريقًا على طرف نقيض، نجد أبيقور يؤسس اهتمامه الفلسفي للعيش إلى الوصول لحالة الطمأنينة والحياة الفاضلة، وذلك يكمُن في السعي إلى الملذاتِ المادية، فكل لذةٍ خير، واللذة غايةُ مذهبه -ليس الإفراط في طلبها بل اللذة لإنتفاء الألم (كما فسّرها إميل برهييه: اللذة حذف الألم)- ويذهب إلى اجتناب اللذة التي تؤدي إلى الألم، لأنها طريق سيء للسعادة، وقد يكون للألم عواقب حميدة لذا يُقبل الألم على هذا النحو، فالعيش عن طريق الفلسفة يراها «الحكمة العمليّة التي توفّر السّعادة بالأدلة والأفكار»، وتوفير الطمأنينة للنفس عندما تُفهم ظواهر الطبيعة والوجود الحتميّة، كظواهرِ الطبيعة والقدر والموت، وقد رأي أبيقور أن الخوف من الموت أمر يتنافى مع العقل؛ لأن الموت ذاته ليس شيئًا نجربه.
ليس ثمةَ ما هو مُفزع في الحياة بالنسبة إلى الإنسان الذي أدرك فعلًا أن لا شيء رهيبًا في عدم العيش.
فالأبيقوريّة ترى نفع اللجوء إلى الفلسفة في التخلّص من معاناة العقل، الذي يتعلق بنماذجٍ للسعادة خاطئة، إذ أن دور الفلسفة في النظر العقلانيّ داخل رغباتِ وآمال الإنسان، عن طريق التساؤل حول الرغبة، إذ ما تحقق وإن لم تتحقق. هي حالةٌ من تنظيم الذهن والتعامل مع حالات القلق والتشائُم، وتقنياتٍ للتقليل من واقع الألم؛ بتذكّر لذات الماضي ورجاءِ لذّات المستقبل، «الألمُ الشديد لا يدوم، والألم الذي يدومُ خفيف»؛ أي ما تقوم به الفلسفة هو دور إرشادٍ علاجيّ؛ للوصول لسعادة حقيقية.
كما لا يكون للطب أيُّ نفع عندما لا يتخلّص من العلّة الجسديّة؛ ستكون الفلسفة غير ذات نفع إنٍْ لم تتخلّص من معاناةِ العقل.
أمّا الرواقيون فانصرفوا عن مذهب اللذة الأبيقوري، فرأَوها مجرّد عَرَض، فالفلسفة عندهم نهجٌ لمساعدة البشر في تجاوز الاختلاف بين الأماني والواقع. كما تساعد الإنسان على التعامل مع المصائب بنفسٍ هادئة ودَمِثة.
كما عاش رجال الرواقية على فضائل الشجاعة في مجابهة الخطر والألم، والفضيلةُ هي خيرٌ داخلي، لا تُسلب بفقدان أي شيء خارج الذات. وباعتبار أهمية النظر إلى محدودية المرء ومدى ما يقع من رغبات ضمن نطاق قدرتنا، فالعالم لا يتأسس على رغباتنا، إذ يحثون على تجنب الوقوع في الانفعال والرغبة، فكل أمر عندهم في العالم سيّان.
فما يسموه بالحكمة هو الاستعداد الوقائي الداخلي للنفس البشرية، فتدور الفلسفة في الرّواقية حول التوفيق بين الإنسان والواقع، «يجب أن نوفّق إرادتنا مع الأحداث بحيث يأتي ما يطرأ منها موافقًا لمشيئتنا» كما قالها «أبكتاتوس»(55م-130م) الذي عاش غالب حياته عبدًا، إذن هم لا يعلقون على الآمال أهمية، فيجب أن نجعل من التوقع مقبولًا في حدود ما يمكن أن يكون، ونضع جميع التوقعات (المخاطر والكوارث) بناءً على احتمال الإحباط، وما دام يستطيع المرء أن يعقلن من أحكامه وتوقعاته؛ «فلا يمكن للحكيم أن يفقد شيئا إذ أن كل شيء مخزون بداخله».
عبّر عنها الرواقيّ «سينيكا»(4ق. م-65م)؛ بأنّ: «الحكيم مكتفٍ بذاته»، «فوظيفةُ الإنسان أن يستكشفَ في نفسه العقل الطبيعي، وأن يترجم أفعاله، أي أن يحيا وفق الطبيعة والعقل»، ويتحكّم المرءُ في الغضب والإنفعال الذي يكون نِتاج أفكار داخل عقولنا، وتتغير بتغير تلك الأفكار. لقد عاش سينيكا فيلسوفًا يفوق درجة التوقعات، بالتبصّر «التأمل الاستباقيّ»، فالابتعاد عن الوقوع في براثِن الغضب عندما لا نشحن أنفسنا بآمال كبيرة، بل نهتم بإحتمال الاحباط؛ «إننا نعيش في قلب الأشياء المُقدّر لها جميعًا أن تموت لقد ولدتم فانين، وستنجبون فانينَ، ترقّب كل شيء، وتوقع كل شيء».
لا ينبغي علينا تجاهل احتمال وقوع أي شيء. ويجب على أذهاننا أن تُدفع لمواجهة كل المشكلات، كما لا ينبغي أن نركز على ما سيحدث، بل على ما يمكن أن يحدث.
أدين بحياتي للفلسفة. قالها سينيكا، وعاش بها في حياته، حيث واجه وقاسى ظروفًا عديدة بين زلازل وحريق روما ونفيه إلى رباطة جأشه عندما قابَل أمر نيرون بأن يقتل نفسه، بقلب وعقل رواقيين بالفعل.وكأنه يفعل ما عبر عنه «ماركوس أوريليوس» في تأملاته؛ «من مصلحة الإنسان العاقل ألا يغضب بعنفٍ ضد الموت، ولا أن يستخفّ به، ولكن أن ينتظره مثل حادث».
وصورة التعامل مع القدر نجد فحواها من خلال قصة زينون الرواقيّ المجازيّة، وهي صورة لكلبٍ مربوطٍ بحبل إلى عربةٍ تتحرّك بسرعة، فهنالك خياران فإذا قاوم الكلب ضد مسار العربة، سيُجبر على الجرّ بنحوٍ مؤلم، وإما أن يحسن التعامل مع المتاح لديه في سير العربة وطول الحبل.
(ب)
وبخلاف الفلاسفة الذين آمانوا بمركزيّة العقل في التحكم بالأهواءِ والرغبات، هناك من أعاد النظر إلى قيمة الجسد وتأثيره، وتقبّله دون نظرة دونية، فيرى «ميشيل دو مونتين» أنه لابد من تقبل زلاتنا وعجزنا، فقد كانت أحدى المنقوشات على سقف مكتبته: «أنا إنسان، لا شيء إنسانيّ غريبٌ عني» تعبيرًا عن وحدة الإنسان بجسده.
وكانت فلسفة مونتين تنتقد دور قيمة المعرفة بين تعليم المدرسة وبين تعليم الحكمة، حيث: المدرسة تنقل علومًا دون فنٍ لحكمة العيش، فيقول: «لو كان الإنسان حكيمًا، فإنه سيخمّن القيمة الحقيقية لأي شيء عبر مدى نفعه وملائمته لحياته»، وكان يثمّن من حياة كل الأشخاص وقصصهم البسيطة، وأن بوسع كل أحد توليد أفكار عظيمة من تجاربه. وقد كان مونتين مع تقبل حقيقة الأشياء وفهمها، فقد كرر أن التفلسُف يعني أن نتعلم كيف نموت.
وبينما نجد صاحب فلسفة «إرادة الحياة»؛ شوبنهاور، يوجّه ضربة لمكانة العقل السابقة، حيث أنه يرى في العالم مكانًا للشرّ والمعاناة، وأن الحياة تتحرّك بناءً على إرادةِ عمياء صماء، وأن العالم عبثُ لا معنى له. وعالم الإرادة هو ما يكمُن تحت السطح من دوافع لا واعية، والسطح هو عالم التمثّل والأنا وكلاهما عنده وهم؛ لأنهما يخضعان لإرداة الحياة، حيث أن الإرادة تتفوق على العقل، بل إن العقل تابع ثانوي لها.
ففي فلسفته أن الإنسان مسخّر للألم والملل، والأخيرة بسبب منطقِ العوز والرغبة الذي يوقع بنا دائمًا في دائرة لا نهائية من طلب الإشباع للرغبات، والذي يجعلنا منساقين دومًا في الندم على الماضي والأمل في المستقبل.
وبالرغم من رؤية شوبنهاور للعالم والعقل إلا أنه يقدم نحو فن للسعادة، أي كيف نتعلم أن نحيا. وذلك عن طريق فلسفة تحط من قيمة الحياة.
سعى شوبنهاور إلى تأمل الحياة، فالعيش السعيد يرتبط بنظرتنا إلى العالم، الذي يتشكل طبقًا للنموذج الفكري الذي نتعامل معه من خلاله. لذا فالسعادة تتوقف على ثقافة الإنسان أكثر من أن تعتمد على ثروته. والبعد عن الشره في طلب الملذّات، يجنبنا الطريق إلى الملل والسآم.
وفي التحرر من الألم، بالإضافة إلى اتجاهه نحو الفنون كتسلية للإنسان، يذهب إلى أخلاق المحبة والرأفة الإنسانية وبكل أشكال الحياة، فهي تدل على وحدة النوع البشري، وتكشف زيف الفردية. وكانت فلسفته الروحية متأثرةً بشكلٍ عميق بالفلسفات الشرقيّة التي يراها توصله إلى السَكينة.
لابد للإنسان أن يفهم أغراض الحياة، كما أنّه لابد أن يفهم فنّ تحصيل وسائل الحياة.
ومع أن فلسفته تُولّد العقل داخل إطار الإرادة، إلّا أنَّه يُتيح عن طريق الحكمة والفلسفة من حيث كونها تجربةً وفكرًا، أن يستطيع المرء من خلالها معرفة رغباته وعواطفة أكثر، وبذلك تقل سيطرة الإرادة عليه؛ «فالخبرة التي نكتسِبُها من الحياة يمكن اعتبارها متنُ كتاب»، ويركّز شوبنهاور على مواجهة الخوف من الموت كسبيلٍ للعيش السعيدة، فهو يرى أن الخوفَ من الموت هو الذي أنشأ الفلسفة والدين؛ «الترياق الذي يوفّره العقل بقوّة تأمُّلاته وحدها ضد يقينِ الموت».
ومقاربةً لفلسفته فإنه يرى الموت مرتبط بعالم التمثّل الوهمي وأن الموت ما هو إلا للفرد أما النوع والحياة في جانب الإرادة لا تنتهي؛ «النوع، هذا يحيا على الدوام. أمّا الأفراد، فيوجدون واثقينَ فرحينَ وهم على وعيٍ باستمراريّة النوع وتماثلهم معه»، هذا يعتمد على دور الحكمة في تأمّل الموت. فالموت عنده أصبح تحرُّرًا من الأوهام والمعاناة.
أما فيلسوف المطرقة «فريدريش نيتشه» الذي رفع راية قلب كل القِيم، التي اعتبرها عدمّيةً؛ أي تحتقر وتنفي الحياة والأرض لصالح مُثُلٍ خارجها، إذ به يرى تولَد الحِكمة في العيش في الحاضر وعلى الأرض. يقول على لسان زرادشت:
«أرجوكم بإلحاح، أيّها الإخوة، أن تظلّوا أوفياء للأرض ولا تعتقدوا في ما يقوله البعض عن الأمل فوق الأرض. إنهم عن وعي أو عن غير وعي يدسّون السُّموم، يحتقرون الحياة، يحتضِرون، أنهم مسمَّمون، قد تعبت الأرض منهم».
هكذا يقف نيتشه مبجّلًا الحياة على نقيضِ فلسفة شوبنهاور. وفي مواجهةِ القدر، يرى نيتشه أن يتقبّل المرء نفسه كقدر وألّا يرغب في أن يرى نفسه شيئًا أخر. وذلك ما أسماه «حبَّ المصير- fati amour»، أي «صر من أنت»، وقد رسم صورةً مجازيّة عن حبّ القدر، أسماها «العودُ الأبدي» ليقول أن نتمنى لو تعود كل لحظة نعيشها مراتٍ ومراتٍ للأبد. والفلسفة عنده تصالحٌ مع الجسد، فالتفكير هو الجسد.
(ج)
هكذا يظهر من النماذج آنِفة الذكر، تنوّع تعاطي التفلسف تبعًا لتفاعل الإنسان مع وجوده، قد عبّرت فلسفتهم عن واقع تجاربهم وحياتهم المتغيّرة والمختلفة، والتي لم تخلُ من قلقٍ مع التفكير في الموت والصّدام مع القدر، والصّراع مع المرض، فمحبُّ الحكمة هو من يسلك درب الحياة كحرفيّ فنان، يتناسب شكل تفكيره ونهج أفعاله بما يحقق له رؤيته ورضاه الخاص، فلكل أصبعٍ بصمته المتفردة. فلكي نتفلسف، يجب أن نعرف سبُل العيش وفهم أنفسنا، فكما قال الفيلسوف الروماني «بوثيوس»: منّ يُرد أن يكون ذا سلطانٍ حقيقي فليبْسُط سلطانه على نفسه.
وبوثيوس؛ ألّف كتابه المشهور «عزاءُ الفلسفة» وهو مسجون، منتظرًا الإعدام على إثر خلافات سياسيّة، وقد تعامل مع القدر بنظرة فلسفية حيث مثّل كتابه حوارات فلسفيّة مع نفسه، ويقول في حديث عن تقبل القدر: «تعلم بأن تَذرَع حياتك خاويَ الوِفاض حتى يمكنك أن تُصَغِّر وتغنى أمام قاطع الطريق». مارَس بوثيوس الفلسفة كفنٍ يحول بِها مأساته إلى شعور إيجابي، كما يراه كامي في أسطورة سيزيف.
وارتضاء السكينة أو السعادة أو الطمأنينة -على حسب تباين وتنوع مواقفنا- يلجأ الكثير من البشر إلى عدم التفكير في المأسويّ لتحقيق سعادتهم، في ظلّ العجز عن القضاء على البؤس والموت والمصائب، يمكن أن تغذّي الفلسفة المَرء في ذلك، كما رأى «سبينوزا» أوليّة «تأمّلا في الحياة لا في الموت»؛ لكي يبتعد عن الأهواء الحزينة، فبالنسبة له التفكير في الموت؛ «لن يقودنا سوى إلى اجترار أفكار حزينة من شأنها إضعاف قدرتنا على التصرّف» ولا يمكن الاستفادة بأي عائدٍ من تأمل الموت المستمر. ونشهد آخرين، يحبّذون التفكير في المأساوي، كالفرنسي «كليمون روسي»، إذ يرى أن التفكير التراجيدي يساعدنا في الحاضر،«كن صديق للحاضر العابر، في افتقاد الماضي والمستقبل»، إنها معبرٌ إلى القبول، فتفضيلُ الكثيرين للوهم على الواقع، نابع من معرفة حقيقة أننا دائمًا مُعرَّضونَ للزوال المطلق.
-
الَّلعبُ مع الحياة
مع كل مأساةٍ تواجه البشريّة، حلّت معها أجواء الشعور بالنهاية وأفكار (نهاية العالمApocalypse- )، والتي تجعل الإنسان مترقبٌ وقلقٌ من المصير المحتوم والمنتَظر، طبقًا للتصورات الدينيّة، لكن إن ابتعدنا عن وجهة النهاية، وألتفتنا نحو أنفسنا، لرُبما تمنحنا المناسبة المأساوية كجائحة كورونا، إعادة تقيمِ ذواتنا وأوضاعنا كما لم نألفها من قبل.
يمكننا أن نلاحظ أن طلب الحكمة وحبّها «الفلسفة»، تجلّل من الاعتماد على العقل والذات في الخلاص والعيش مع حتميات الواقع ومآسي الوجود، وهو ما يتباين مع دور الدين في الاتكال على مساعدةٍ من قوة أو فكرةٍ خارج الذات، تحمِل عنه مسؤولية حتميّة الواقع وغائيّة الحياة.
تبدو الحياة مع حقيقة الموت، كمتاههٍ أو ربّما حلمٌ يحاول الإنسان أن يستيقظ منه، آملًا أن يجد فهمًا له. تجربة الإنسان لا تخلو من مغامرات شاقّة وشيّقة، داخله قبل أن تكون داخل حيثيّات عالمه. ففن العيش الفلسفي والتمرّن الداخلي يعزّز من قيمة الإنسان وحياته وأفعاله ومعارفه، ويُخلّصه من العيش كرقم ومحاكاةٍ لما يقتضيه سير النمط الاجتماعي، كرعاية للذات كما أشرنا إلى دعوة فوكو، أو كمقاومة سيزيف -في رواية كامو- للوجود عبر الاستمرار في دفع الحجرة. العزاء في العيش الفلسفي في القدرة على مواجهة الريح مع مرونةٍ في التماهي مع قوتها وتسلّق القمم والتعامل مع وجود القاع وركوب الأمواج مع مهارة السباحة، فإذا كان الموت لابد منه، فما يفيدنا من إنكاره، بل عيش الحياة في مواجهات غامضة وغير محسومة، تجعل الحياة لعبة تحفز الإنسان ارتيادها بلا ملل.
في رائعة المخرج السويدي “Ingmar Bergman (1918-2007)” يجسد فيلم (الختم السابع –The Seventh Seal ) الموت في مواجهة الإنسان، حضورٌ دائمٌ للموت، حيث يعود الفارس من الحملات الصليبية وقد تزعزع إيمانه الديني من جرّاء الحرب وشرورها، ولا يبقى له من حقيقة سوى الموت، إذ به يباريه في مواجهة لعبة شطرنج على مدار الفيلم، وكلّه رغبةٌ في خلق حياته على إشكاليات تهاوي الإيمان وهيمنة الشر، إلى أن يختتم الفيلم برقصة الموت التي تعلن أنّه لا مفر منه، لكن دائمًا ما نستطيع أن ننازِله في حياتنا المتاحة.
عطبُ الحكمة في حياتنا البشرية، يساعِد في هشاشةِ الإنسان المُعاصر في مواجهة الأزمات وحقائق الوجود، فجائحِة كورونا تضع مرآةً أمام النوع البشري، ليتذكّر دائمًا المصير المُشترك. فما يحتاجه الإنسان من ذلك؛ «حياة طيّبة غير مغتربة» بتعبير «سلافوي جيجك»، الذي دعى لإستغلال العزل والحظر في المُضيّ في التفكير لإعادة إحياء تجربتنا.
كما رأى أن الأزمة تنذر بضرورة إقامة مُجتمع بديل. لربما تكون الثورة المعلوماتية، من الممكن أن تخلق مساحةً أعظم أثرًا وحرية في تشكل قيمٍ معرفيّة للفرد، تقف في وجه الأيديولوجيا والسلطوية. وتمنحه فنًا للحياة من خلال ذاته، دون مواجهة العراء على حين غَفلة.
المراجع: تاريخ الفلسفة اليونانية، تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم. تاريخ الفلسفة: ك1:ك4، إميل برهييه. الاجتماعي وعالمه الممزق، أكسِل هونيت. تاريخ المعتقدات والأفكار، مارسيا إلياد. موسوعة تاريخ الأديان، تحرير: فراس السواح. القلق، سيجموند فرويد. النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، كمال بومنير. عزاءات الفلسفة، آلان دو بوتون. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، لوك فري. التداوي بالفلسفة، سعيد ناشد.