مسابقة الأعوام العشرين لفك شفرة حجر رشيد

ذات نهار رطب وحار من شهر يوليو عام 1799، قام أحد أعضاء بعثة عسكرية فرنسية في محيط أطلال قلعة ما في دلتا نهر النيل بكشف نادر، فقد لاحظ هذا الشخص بين كومة من الركام المستخدم في مشروع ترميم وجود لوح من الجرانيت، طوله 4 أقدام وعرضه 3 أقدام، يحمل أحد وجهيه نقوش معقدة. واستشف الضابط المسئول، الملازم بيير فرانسوا بوشار، أهمية اللوح، فسلمه لمجموعة من العلماء للتحليل.
وقد حدد الخبراء أن اللوحة التي يكاد يصل وزنها إلى طن جاءت من معبد مخصص للملك بطليموس الخامس، الملك اليوناني المصري، عام 196 ق.م، وكان الغرض من النصوص الثلاثة –باليونانية الكلاسيكية، والهيروغليفية، ولغة اختزالية مصرية قديمة تعرف بالديموطيقية– الإعلان عن إنجازات الملك في عدد من اللغات لشعوب الإمبراطورية.
كانت اللغات الثلاثة لغات مندثرة، لكن الأبجدية اليونانية كانت لا تزال مستخدمة، لذا عمل اكتشاف اللوح، والذي أمسى يعرف بحجر رشيد باسم البلدة التي وجد فيها، على إعادة إشعال التحدي اللغوي الأكبر: فك شفرة رموز الفراعنة.

ولعل كتاب إدوارد دولنيك بعنوان: “كتابات الآلهة: سباق فك رموز حجر رشيد” سرد مثير عن الأعوام العشرين التالية من التنافس. ويقوم دولنيك، وهو كاتب علمي سابق في جريدة بوسطن جلوب، ومؤلف لكتب عن إسحق نيوتن وعن مزور هولندي خدع النازيين، باستحضار نقلة فكرية معقدة جديدة. فمن خلال تحليل مثير لعملية فك الشفرة، يستدعي الكتاب كتاب آخر للكاتبة مارجاليت فوكس بعنوان “لغز المتاهة: السعي إلى فك شفرة قديمة” (2013)، حيث يدور هذا الكتاب حول ثلاثة عملاء قاموا بفك شفرة مخطوطة Linear B، وهي مخطوطة عمرها 3400 سنة، تم الكشف عنها في أطلال للحضارة المينوسية بجزيرة كريت. وكما الحال في كتاب فوكس، يصور دولنيك تصويراً ثرياً تلك الاحباطات والانتصارات التي يواجهها العلماء أثناء عملية محاولاتهم لتقصي المعاني وراء الحروف الرونية المندثرة منذ دهور، “إذ افتتنوا بالشواهد المحيرة، ليجدوا أنفسهم، من ثم، في طريق مسدود، ومع فقدانهم الأمل، يكتشفون دلائل جديدة، ويهرعون بحماس مرة أخرى للاستكشاف.

وكان علماء اللغة، منذ الإمبراطورية الرومانية، يحاولون دون جدوى اكتشاف معنى الرموز الهيروغليفية، إلا أن انتشار المسيحية عمل على التسريع من اختفاء كل ما كان يرتبط بمصر القديمة: وفي عام 391 ميلادية، أمر الإمبراطور ثيودوسيوس الأول بهدم المعابد المصرية، فكان آخر الهيروغليفيات محفورة في معبد على جزيرة في النيل عام 394.

وسرعان ما ذهبت اللغة طي النسيان، أما هورابالو، وهو كاهن مصري من القرن الخامس الميلادي، فكان يعتقد أن لكل رسم صوري، أو رمز من رموز الهيروغليفية معنى عميق خفي، فانشغل بمحاولات بائسة لفهم هذه المعاني. فطرح أن الصقر ولا شك يرمز للإله، حيث أن الطيور تطير بميل بينما “الصقور وحدها تطير إلى علٍ”. أما الأرنب فيشير إلى “المفتوح” حيث أنه فيما يبدو لا يغمض عينيه أبدًا. وتبعه آخرون في مساع مشابهة إلى طرق مسدودة، تربكهم رموز لا تقدم أية مفاتيح لألغازها، لتوضح ما إذا كان يفترض قراءتها صوتيًا أو أنها تعبر عن أفكار. ويكتب دولنيك قائلا: “لنفترض أن آخر متحدث باللغة الإنجليزية قد توفي قبل عشرين قرن من الزمان، فكيف للمرء أن يعرف أن الأصوات ق-ط-ة عند نطقها بتعاقب سريع، يقصد بها “ذلك الحيوان المكسو بشعر وله شوارب؟”.

وجاء حجر رشيد ليغير هذا كله. واستولت القوات البريطانية على اللوح من جيش نابليون في مصر عام 1802، ليرسلوا به إلى المتحف البريطاني، حيث استهل اثنان من العباقرة رحلة فك الشفرة. فكان توماس يونج متعدد الثقافات، وكان بارعًا في كل من علوم الفيزياء وعلوم اللغة، أما جان فرانسوا شامبليون، والذي نشأ في منطقة فرنسية نائية خلال الثورة، فكان مهووسا بكل ما هو مصري.

إعلان

ويركز الجزء الثاني من قصة دولنيك على السباق بين هذين الشخصين، وهو سباق امتاز بالمودة في السراء، وبالطعنات الغادرة في الضراء. واستنتج يونج أن سلسلة من الرموز الصورية التي تحتويها خرطوشة، أي إطار بيضاوي، إنما تعبر عن كلمة “بطليموس”. إلا أنه لم يتمكن من الخطوة التالية، حيث أدرك أن نظام الكتابة هذا كان في غالبيته أبجديةً صوتية. ومن ناحية أخرى، اعتمد شامبليون على معرفته للغة القبطية بطلاقة –وهي سليلة اللغة المصرية القديمة– ليستخلص الحروف والمقاطع اللفظية ووحدات المعنى الكبرى. ويقول دولنيك: “كان الأمر أشبه ببرنامج من برامج المسابقات، جائزته الكبرى الشهرة الأبدية”. ومنذئذ كان الفوز بالمعركة التي استمرت لألفيات من السنين. أما كتاب دولنيك فيؤكد أن كل من الرجلين يستحق أبدية العلماء.

المصدر

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا