فتجنشتاين وعالم الأشياء: انعكاس فتجنشتاين المُهندس والفنّان في فتجنشتاين الفيلسوف (مترجم)
يولي المؤرخ الفنيّ الألمانيّ أوليفر بيرغرون اهتمامًا كبيرًا في الأوضاع التي توجد عليها الأشياء في بيت فتجنشتاين. ويدرسُ أيضًا من ناحيته الظروف التي بُنِيَ وَوُجِدَ فيها هذا المنزل. ويوضحُ لنا لماذا يجب علينا ألا ننسى أنَّ فتجنشتاين لم يكن فيلسوفًا فقط، فبالإضافةِ لذلك عَمِلَ حارسًا لأحد البساتين وحاملًا للأغراض الطبية في مستشفى، ولا ننسى أنَّه كان المهندس الذي صمَّمَ بيت أخته مارجريت في Kundmangasse.
عنايته بأدقّ التفاصيل في أعماله المعماريّة انعكست على المجالات التي كان يطوفُ فيها في الفنِّ والفلسفة، وانعكس ذلك جليًَّا في كتابه الأول “رسالة منطقية فلسفيّة”.
جماليّاتُ فتجنشتاين
“أجِدُ أنَّ الأسئلةَ العلميّة تُثيرُ اهتمامي، ولكنَّها ليست الأسئلة التي تستحوذُ عليَّ واستغرقُ فيها. فقط الأسئلة المفاهيميّة والجماليّة تفعل ذلك. في النهاية، أنا زاهِدٌ بمعرفة الحلول للمشاكل العلميّة، ولكن على العكس في المسائل المفاهيميّة والجماليّة.” [CV. P. 79].
“أوَدُّ القول بأنَّ هناك نواحٍ ومجالات يمكن التعبير عنها وَتُحدَّد من خلال الأفكار وما يتعلق بها من كتابةٍ وغيرها، ونواحٍ أُخرى تُعَبِّرُ عن نفسها بطريقةٍ بصريّة وفنيّة بحتة.” [RPPI, P. 970]
الخلفيّة الفنيّة
نشأ فتجنشتاين في وقتٍ كان الازدهار الفنيُّ في فيينا غير مسبوق، ونجدُ أنَّ من النادر أن يُلمح فتجنـشتاين إلى بيئته الفنيّة والعائليّة الُمتميزة. وعلى الرَغم من أنَّ والده كارل فـتجنشتاين كان أحَد أغنى وأنجح الأقطاب في صناعة الصلب وسكك الحديد في النمسا، إلّا أنَّ العائلة لم تتخلَّ عن ظروفها وهمومها الخارجيّة، بسبب أصولها اليهوديّة. عاشَ فـتجنشتاين وأشقاؤه في منزل كبير في Allegasse يُعرفُ بإسم Palais Wittgenstein.
وتبدو اهتمامات عائلة فتجنشتاين الفنيّة واضحة، حيثُ أنَّها تفتخر بامتلاكها الأثاث المُصمَّم بدقة عالية في قصرها، وبامتلاكها لوحاتِ الفنان فيليب دي لازيو ولوحات لجيوفاني سيفانتيني ورودولف فون ألت، والكثير من التماثيل والمنحوتات. ومن بين الأمور الأخرى الدالة على الاهتمام العميق للعائلة بالشؤون الفنيّة، تمويل كارل فتجنشتاين بناء تحفة جوزيف ماريا أولبرتس؛ وهو مبنى حركة انفصال فيينا الفنيّة والتي قامَ بتصميم ديكورها وتزيينها الفنان غوستاف كليمت (وقد قام برسم لوحة لمارجريت، أختُ فتجنشتاين).
واستضافت العائلةُ العديد من الحفلات الموسيقيّة الخاصة في قاعة موسيقى Wittgenstein Palais المَكسوة بالألوان، في حضور نجوم وموسيقييّن كبار مثل يوهانس برامز وعازف الكَمانِ جوزيف يواكيم.
إنَّنا لا نبالغُ بخصوص التطور الثقافيّ لعائلة فتجنشتاين، فتأثيرها الحاليّ ناشئ أساسًا عن رعايتها للفنون المختلفة. أمّا بالنسبة للودفيج فتجنشتاين فقد دفعه انبهاره للتوجه للفلسفة التي استحوذت على تفكيره، لا بل كيانه كاملًا، فتخلّى عن الهندسة، ونصحه الفيلسوف الألمانيّ جوتلوب فريجه بالتوجه إلى كامبريدج في إنكلترا لدراسة الفلسفة جنبًا إلى جنب مع الفيلسوف الأول في عصره، برتراند رَسِل. وعلى الرغم من استحواذ الفلسفة على اهتمامه إلّا أنَّه لم يترك توجهاته الجماليّة والفنيّة.
نزلت الحرب العالميّة الأولى بثقلها على عائلة فتجنشتاين، فكانت سبب موت ثلاثةَ من أشقّائه، ووقع هو أسيرًا للحرب في معسكرٍ إيطالي. غيّرت الحرب من فتجنشتاين كثيرًا، فتنازل عن كل ثروته التي ورثها من أبيه كارل وعاش حياة الزاهِد، مُتأثِّرًا بليو تولستوي. توقف فتجنشتاين في هذه الفترة عن ممارسة الفلسفة وتَحوَّل للتدريس في المدارس الابتدائية في قرى النمسا الجبلية الفقيرة، بالإضافة لعمله في البساتين. حدثَ هذا بعد فترة وجيزة من نشر كتابه “رسالة منطقية فلسفيّة” والتي ظنَّ أنَّه حلَّ فيها معظم مشاكل الفلسفة، إن لم يكن كُلها.
منزلُ فتجنشتاين
“الانطباع الذي يحصل عليه المرءُ من الهندسة المعماريّة الجيدة التي تعبّر عن فكرة ما، تجعل المرء يُريد لو يحيّيها” [CV. P. 22]
مما يثيرُ الانتباه والإعجاب في فتجنشتاين هو العنادُ والتفاني الذي ينجز فيه عمله، سواء كان مهندسًا أو نباتيًا أو حمّالاً في مستشفى أو فيلسوفًا. واحد من أوضح الأمثلة على دقته وصرامته هو المنزل الذي صَمَّمهُ لأخته مارجريت. على الرغم من أنَّه لم يدرس الهندسة المعماريّة بشكل رسمي، إلّا أنَّ معاييره صارمة للغاية، وصَمَّمَ منزلاً يُحتذى به في الدقة.
بدأت قصة هذا المنزل بعد أنْ شَعَرَ فتجنشتاين بالفشل وعدم الرضى في العثور على تجديدٍ روحيّ خلال السنوات التي فرضها على نفسه في قرى النمسا النائية، فَرَحَّبَ بفرصة العمل مع المهندس المعماري بول إنجلمان.
على الرغم من التزام فتجنشتاين بخطة وتصميم إنجلمان الأصلية إلّا أنَّ مساهمته تفوق بكثير ما يعرفه الناس عن المنزل بشكل عام.
قام فتجنشتاين بتنقيح التصميم الهندسيّ، فقام بتغيير نسب الغرف، وصَمَّمَ تفاصيل معمارية مثل النوافذ والأبواب والمقابض، التي اعتبرها ضرورية للتصميم الكُلّي. وساهم بحلول هندسية مُبتكرة وأصيلة، مثل نظام بَكَرَة غير مرئيّة لظلال النوافذ، واستخدم موادًا للحفاظ على لمعان مماثل ومتناسب بين أرضيات المنزل والسطوح الأُخرى.
لم يكن فتجنشتاين مُفَضِّلاً للزينة الزخرفية. وهناك الكثير من الروايات الغريبة عن بعض الأعمال التي قام بها فتجنشتاين أثناء تصميمه للمنزل، مثل أنَّه أصَرَّ في اللحظة الأخيرة على رفع سقف غرفة المعيشة بمقدار 30 ملم للحفاظ على النسب الأصلية للمنزل، وهذا يَدُلُّنا على تفاني فتجنشتاين ودقته وصرامته مع نفسه. وقد يفسّر لنا رفضُ فتجنشتاين للتصاميم الزخرفيّة اختيارَ أخته مارجريت لنوع فاخر من الأثاث آنذاك لملء الغرف.
عكَس عمل فتجنشتاين مساعيه الفنيّة الأُخرى، إنَّه يحب البساطة والوضوح بشكل عبقري. يعتبر أدولف لوس في كُتيّبه “الزخرفة والجريمة” أنَّ الزينة الزائدة عن الحاجة مزعجة وغير أنيقة. كما أنَّه رفض وجادل في الأسلوب الزخرفيّ المتضخم والمُبالغ فيه لدى حركة الفنانين النمساوييّن. المهم أنَّ فتجنشتاين طَبَّقَ هذه المبادئ على حياته الخاصة، سواء في محيطه أو في أُسلوبه الرزين وحتّى في فلسفته. وبالعودة إلى عام 1912، نرى أنَّه تم تزويد غرفته في كامبريدج بقطع أثاث بسيطة مصنوعة خصيصًا، بعد إجراء سلسلة من الزيارات إلى متاجر الأثاث رفض فيها كل ما هو مُزخرف.
إلى أيّ مدى يكشف بيت فتجنشتاين عن منهجه الفلسفيّ ورغبته في تحقيق الوضوح في التعبير عن الأفكار؟
(نحن نعلم أنَّ لودفيج أعلن في محاضراته عن أسفه لعدم تمكنه عن ما يريد أن يتحدث به). ما هي العلاقة بين حياة فتجنشتاين ومواقفه الفلسفيّة والجماليّة؟ بين عمله كمهندس وفكره وأُسلوبه؟
أدارَ فتجنشتاين ظهره للبيئة الماديّة والثراء الذي نشأ عليه، كانت رغبته من هذا التحرر هو الشفاء وتطهير الذات. يعكس منزل فتجنشتاين رغبته في البساطة. تحمل البساطة في المنزل مفارقة كانت حياة فتجنشتاين مملوءة بها، فعلى الرغم من غيوم الكآبة التي لا تفارقه في الغالب إلّا أنَّه كان مشتعلًا بالانسجام، وحتّى بالسلام، على الرغم من أنَّها مشاعر نادرًا ما يَشعرُ بها فتجنشتاين. يقدم فتجنشتاين بهذا نمطًا يُجَسِّدُ موقفًا أخلاقيًا معينًا، وهو صقلٌ وتصحيح للمسعى البشريّ، وشوق للصفاء على النقيض من السُلالة العصبيّة التي كانت في عائلة فتجنشتاين التي أدَّت إلى عدم الاستقرار وانتحار العديد منهم. نرى ذلك مُنعكسًا في فلسفته، بميولها العلاجية، وهروبها من ارتباك الفكر والميول الميتافيزيقية.
كان فتجنشتاين خلال الفترة التي قضاها في فيينا يترددُ على معمل النَّحات مايكل دروبيل، الذي قامَ بإعداد تمثال له.
وفي المقابل، قام فتجنشتاين بنحت تمثال لامرأة شابة مستوحاة من معلّمته الجديدة. ومن خلال التأكيد على الشكل الهندسيّ ومقدمة الرأس، يمكننا رؤية التمثال على أنَّه تصحيح وتطوير لأسلوب دروبل النحتيّ. تعرضُ ملامح الوجه للتمثال الذي قام بنحته فتجنشتاين جمالاً مُتقشفًا وهادئًا مُستمدًا من تقاليد التماثيل اليونانية التي أُعجب بها الفيلسوف.
يَتَبِّعُ أُسلوب فتجنشتاين في الفنّ مسارًا شبيهًا بعمله كفيلسوف. في الفلسفة والفن عند فتجنشتاين ثمّة توازٍ في الرغبة من تحريرنا من الارتباك الفلسفيّ وتجاوزه، والرغبة في صقل وتنقيّة الفنّ والهندسة من كل ما هو غير ضروري في هذه المجالات.
يُمكننا القول أنَّ عَمَلَ فتجنشتاين في منزل أخته جَدَّد اهتمامه بالجماليّات. ولكن بالإضافة لفائدة بناء المنزل العلاجية لفتجنشتاين، ما هو الدور الذي لعبه الجمال في فلسفة فتجنشتاين بعد عودته إلى كامبريدج عام 1929؟
الجمال عند فتجنشتاين
تتوجه النظرة الجماليّة إلى كثير من الأشياء. إذا كان عالَم الجمال يُعرف تقليديًا بأنَّه حسيّ بحت، فإلى أيِّ مدى يمكن النظر وفحص الأشياء الجميلة بطريقة موضوعية؟ هنا يكمن سؤال فلسفيّ يتناوله فتجنشتاين بطريقة غامضة نوعًا ما.
بالنسبة لفتجنشتاين فإنَّ الحس الجماليّ ينبع من العادات والتقاليد والسياقات المجتمعية. في محاضراته عام 1938، اعتبر أنَّ الحس الجماليّ الذي نملكه ونظرتنا للأشياء تتكون نتيجة لمجموعة الظروف الزمنية والاجتماعية. ومثال على ذلك، هو نظرتنا لما يُسمى بالقناع الأفريقي – Negro Mask، ورداء تتويج الملك إدوارد السابع، حيثُ أنَّ رؤيتنا الجماليّة للقناع الأفريقي لها جذور سياقية زمنية واجتماعية، ونفس الشيء ينطبق على رداء تتويج الملك. ويقول: “أنت تنظر إلى كل عمل فنيّ بطريقة مختلفة تمامًا، إنَّ نظرتك وحسك الجماليّ يختلف كليًّا عن حسّ شخص يعيش في الوقت الذي صُمم به هذا العمل”. [L&C, P. 10]
بالإضافة لذلك، ترتبط المتعة والنظرة الجماليّة بالوعي بمجموعة من المهارات الحسيّة، وهذا الوعي يمنحنا نظرة جماليّة أكثر دقة.
“إذا لم أتعلم قواعد الفن، فلن أتمكن من اتّخاذ قرار جماليّ. في تعلم القواعد تحصل على حكم جماليّ أكثر دقة. تعلم القواعد يغير حكمك.”
كان لهذا الرأي عند فـتجنشتاين أصداءه في فرنسا وبالتحديد عند عالم الاجتماع بيير بورديو الذي قرأ فتجنشتاين على نطاق واسع. يعتبر بورديو أنَّ تقديرنا ونظرتنا للفن تتأصل في الخلفية الثقافية التي نملكها عن الجمال والفن. وبالتالي فإنَّ الفهم والحس الجماليّ يرتبطان بالنماذج والأنساق الثقافية وألعابنا اللغوية التي ننطلق منها. وفي النهاية، يعتبر بيير بورديو أنَّ التنشئة الجماليّة الاجتماعية قد لا تؤدي بالضرورة إلى مَلَكَة فنية. في هذه النقطة يُعتبر فتجنشتاين أكثر غموضًا، فهو يعتبر أنَّه على الرغم من أنَّ الحس الجماليّ قد لا يرتبط بفهم قواعد معينة، ولكن فهمها قد يؤدي بنا إلى حكم جماليّ أكثر دقة.
يجب علينا تجنب الخلط في عدم إمكانية وجود حس جماليّ مع الأشياء التي ننظر إليها في غير سياقاتنا الثقافية والزمانية، فإنَّ الحس والانطباع الجماليّ موجود مهما كانت هذه التحولات والاختلافات.
علينا أنّ نضع كلام فتجنشتاين في سياق واحد مع ملاحظاته في محاضرته عن الأخلاق والثقافة والقيمة.
رؤية شيء ما جماليًّا، هو أن تراهُ بشكل مطلق، مُتحررًا من السياق الزمانيّ والمكانيّ.
حسب وجهة النظر هذه ننظرُ إلى العالم بأسره كخلفية للعمل الفنيّ.. بعبارةٍ أُخرى، نعتبر العمل الفني نافذةً على مجمل العالم. [N. P. 83]
ظهرت وجهات نظر تتبنّى النظرة الجماليّة المتعالية على الزمان والمكان. بعبارةٍ أُخرى، حتى عندما يكون ذوقنا الجماليّ خاضعًا لسياقات معينة، فإنَّ الكثير من الأحاسيس تكون مُشتركة بين العديد من الثقافات. لدينا الآن وجهتان للنظر سيكون من المهم التمييز بينهما. الأولى تُخضع ذوقنا الجماليّ للسياقات التي ننشأُ فيها، فهي مرهونة بها. والثانية تشكك في ذلك، وترى أنَّ الحكم الجماليّ والحس الفنيّ يتعالى على الزمان والمكان وهو مرتبطٌ بين الثقافات جميعها.
في وجهة النظر المتعالية على الزمان والمكان، يُنظر للأعمال الفنيّة بأنَّها غير مفهرسة ثقافيًّا، فالحسُّ الجماليّ ينشأ بطريقة لا تتعلق بالسياقات المجتمعية. ويُسرد مثال على ذلك بالحس الجماليّ عند الطفل، فهو حسٌّ نقي وقادر على الإحساس بالجمال من دون التأثر بالثقافة والعُرف السائد.
في السنوات الأخيرة، أصبح فـتجنشتاين ميّالاً لوجهة نظر نسبية ومتوازنة، فإنَّ وضع الأعمال الفنيّة ضمن إطار أنثروبولوجي وتاريخي لا يمنعنا بالضرورة من النظر للعمل الفنيّ وتحليله والشعور به بطريقة جماليّة مطلقة، أي تتعالى على الزمان والمكان.
تطرحُ هذه النقطة الأخيرة سؤالاً مهمًا آخر، وهو عن الجوانب التي ننظر من خلالها إلى الأعمال الفنيّة، وكيف نفهم ونحلل رؤية لوحة ما أو سماع مقطوعة موسيقيّة وفهمها والشعور بها على نحو معين.
النظر إلى جوانب مختلفة من العمل الفنيّ يقودنا إلى الابتعاد ربما عن معنى ثابت مُتفق عليه إلى عوالم من المعاني والتفاسير. مفهومنا عن الجماليّات لا يتشكل اقتصارًا على العمل الفنيّ، بل تعدّى ذلك إلى العلاقة بين الشخص الذي ينظر ويفهم ويشعر بالعمل وبين العمل نفسه.
يؤكد فتجنشتاين أنَّنا نرى الأعمال الفنيّة بطرق مختلفة. حتّى وإن تشابهت التفاسير الفنيّة بين عمل وآخر إلّا أنَّ صورة كل عمل تثيرُ مشاعر مختلفة فينا.
هذا يعني أنَّ الانطباع الرئيّس هو الانطباع البصريّ، فهو أول ما تقع العين عليه. هناك جانب غير قابل للاختزال لكل عمل، حيثُ أنَّ المشاعر والانطباعات التي يُثيرها لا يمكن تكرارها بأيِّ عملٍ آخر.