عَدْوَى الاسْتِبْدَاد

في عهد الاستبداد، يميل الغالبية العظمى من الشعب إلى الانزواء والبُعد عن السياسة، فتَّتسم أخلاقهم بالعجز، والسَّلبيَّة، والدُّونيَّة، وهو ما شرحناه في المقال السابق (أخلاق المقهورين)، لكن البعض يحاول المشاركة في العمل العام، والاحتكاك بالسياسة، لكن هذا الاندماج بآليات السياسة الاستبدادية، والقيادات الظالمة، ينقل عَدْوَى الاستبداد للشعبِ نفسه، ويظهر ذلك في عِدَّة سمات:

١. نفاق الأعلى

الخوف وحده كافٍ للتذلُّل والتقرُّب من القادة حتى يأمن المواطن غدرهم وبَطْشهم، وعلاوة على ذلك، فالأولوية في الترقي والمناصب العليا لأصحاب الولاء وليس لأصحاب الكفاءة، لذلك يحاول كل موظف إثبات استحقاقه بنفاقه وتقرُّبه وولاءه للقادة، حتى لو وصل به الأمر للوِشَايَة برفاقه.

يضرب ممدوح عدوان نموذجًا لمن باعوا ضمائرهم لرضا أسيادهم، فقد قدَّم أستاذ جامعي بحثًا عن (العقبات التي تواجه عالِم الاجتماع)، وحين عَلِمَ أعضاء هيئة التدريس بأن نسخة من البحث ذهبت إلى الأمن، بادروا واجتمعوا وأصدروا قرارًا بعقاب الأستاذ الجامعي، في حين أن الأمن نفسه لم يجد البحث مسيئًا ويستحق العقاب! هنا حوَّل أعضاء هيئة التدريس أنفسهم من أساتذة علم وناقدين علميين إلى مخبرين تافهين وجلَّادين خائبين وباعوا زميلهم، وكل ذلك بمبادرة منهم لينالوا رضا الأمن!(1)

وبذلك يصبح النفاق والولاء والقرابة هي شروط التوظيف، وعليها يتم الاصطفاء والترقيات، ويُضطر الناس للاستزادة من هذا النفاق، والتدرُّب عليه، وإثباته، والافتخار به، لعلهم ينالوا منصبًا عظيمًا. أما الكفاءة فينعدم دورها، ويتراجع النظر إليها، فتموت وتذبل.

وفي سباق النفاق يصل إلى مستوياتٍ من المبالغة والتذلُّل التي يأنف منها البشر، فمثلًا في إحدى مؤتمرات ستالين، بعد رحيله وقف الحضور للتصفيق له، ورغم رحيل استالين من القاعة، إلا أن التصفيق استمر دقائق، فمَرَّ خمس دقائق، ست دقائق، ولم يجرؤ أحد أن يكون أول من يتوقف عن التصفيق، وبعد إحدى عشرة دقيقةً توقف مدير مصنع الورق، فتوقف الناس بعده، فتَمَّ عزله من منصبه وسجنه عشر سنوات(2)!

إعلان

ويحاول الشاعر مختار عيسى التقرُّب إلى السيسي فيسب نساء مصر في شرفهن، ويسب رجالها في عِرضهم لنفاق رجل واحد، فيقول:

يا سيدي

الخفق لك

والعزف لك

خذنا معك

فنساؤنا حُبلى بنجمك في الفلك

سبحان من قد عدَّلك

ورجالهم حاضوا، فما خاضوا

ساساتهم ساسوا فما استاسوا

وحكيمهم رِجفٌ

إن شاء عانق خزيه

أو شاء ضاجعه الملك(3)

والمنافق ليس سعيدًا كما يظهر للناس، لكنه في حقيقته تعيس وبائس، فهو يعرف حقيقته أمام نفسه العارية، كما أنه يبذل مجهودات مُضنية لينال رضا المُستَبِدّ، لأن المُستَبِدّ لا ينتظر منه فقط موافقته على قراراته ومدحه، بل ينتظر منه قراءة أفكاره، واستنباط رغباته، وتحقيق أحلامه قبل أن يتلفَّظ بها!

ننظر إلى مثال عبد الرحمن شلقم، فهو وزير الإعلام في عهد القذافي، فيقول: عام 1981 كنتُ وزيرًا للإعلام ومسئولًا عن وكالة الأنباء، ألقى القذافي محاضرة وتحدَّث عن التاريخ، وقال إن هتلر مظلومٌ، ولو انتصر في الحرب لاعتبر بطلًا، فالتاريخ يدين المهزومين، وفي اليوم نفسه كانت هناك طائرات ليبية تنقل أسلحة لثُوَّار (نيكاراغو)، فهبطت في البرازيل، وفُتِشت، ووجدوا فيها أسلحة، فاُحتجزت. أرسل القذافي برقية يعتذر فيها ويتأسَّف لرئيس البرازيل.

أنا راجعتُ المحاضرة التي ألقاها، وحذفت كل ما قاله عن هتلر، وفي برقيته إلى الرئيس البرازيلي في النسخة التي ستُوزَّع خارج ليبيا أبقيتها كما كانت، وفي النسخة التي ستُوزَّع داخل ليبيا حذفت الاعتذار والتأسُّف.

بعدها جاءتني مكالمة تستدعيني للقائد القذافي حالًا، فحضرت مسرعًا، ووجدت مع القذافي عشرين رجلًا كلهم مسلحين، فرمى القذافي الجريدة في وجهي وقال: كيف تحذف كلامًا من محاضرتي؟! وكيف تغيِّر برقيتي؟!

فقلت له: أيها القائد، كلامك عن هتلر لو نُشِرَ في الخارج، ستُصدَر مانشيتات: القذافي يدافع عن هتلر، ولن يقرأ أحد التفاصيل، هذا خطأ.

أما عن البرقية، فهي برقية سياسيَّة، لكي تؤدي مفعولها أرسلتها بنصها، لكن أمام الليبيين لا يجوز أن يظهر القذافي القائد يعتذر ويتأسَّف.

فسكت وابتسم، وقال لي: أنت مثقف وثَوْريّ ونظيف.

وعلمت فيما بعد أنه أصدر حكمه عليا بالإعدام، وكان المُجهَّز أن يطلقون عليَّ الرصاص في هذه المحاكمة(4)!

هنا وزير الإعلام يجب عليه ألا ينشر الحقيقة كما هي، بل عليه أن يكذب، ويُلفِّق، وينافق المُستَبِدّ، لكن هل يا ترى كذبه ونفاقه الصادر عن مبادرة ذاتية منه سيُرضي الرئيس؟ هذا السؤال يظل هاجسًا يثقل رأسه حتى يجد رصاصة تريح رأسه أو أمرًا بالعفو يبقيه حيًا ليومٍ آخر!

يقول إيتيان دي لا بويسي: “ليست طاعة الطاغية هي كل ما يتوجَّب على الحاشية حيال المُستَبِدّ، بل لا بُدّ أن ينقطعوا له، وأن يتعذَّبوا، وأن يستميتوا في العمل من أجل مصلحته، وعليهم أن يلتذَّذوا للذَّته، وأن يتخلوا عن أذواقهم لذوقه، وأن يُكلِّفوا أنفسهم ما ليس من سجيتهم، وأن يتجردوا من طبيعتهم، ثُمَّ إن عليهم أن ينتبهوا لكلامه، وصوته، وإشاراته، وعينيه، وأن لا تكون لهم أعين، ولا أرجل، ولا أياد، إلا لترصد رغباته وتكتشف أفكاره. أفهذه حياة سعيدة؟ أو تُسمَّى حياة؟!”(5)

ويقول أ.د. إمام عبد الفتاح إمام: “الطاغية يعتاد قبل أن يستولي على زِمَام السُّلْطَة أن يختلط بالمنافقين الذين هم على استعدادٍ لخدمته في كل شيء، فإذا هو كان في حاجةٍ إلى خدمةٍ يؤديها له شخص آخر، فإنه يقف أمامه في مَذَلَّة وكأنه كلبٌ خاضع متظاهرًا بالإخلاص، حتى إذا قضى منه مَأْرَبه أدار له ظهره، وهكذا نرى الطُغَاة طوال حياتهم لا يعرفون صديقًا، وإنما هم إما سَادَة مُستَبِدّون، وإما عبيد خاضعون!”(6)

ويقول محمد الغزالي: “عندما تَفسَد الدولة بالاستبداد، وعندما تَفسَد الأُمَّة بالاسْتِعْباد، يعتبر الرياء هو العملة السائدة، وقاعدة تقرير الأمجاد لطلاب المجد الكاذب”(7).

٢. اسْتِبْدَاد الأدنى

لا تنحصر رذيلة الاستبداد في استبداد الحاكم للسياسيين، بل هو أسلوب حياة يتنفسه الشعب، فيُعديهم ويؤذيهم، فالمدير الذي يجد قياداته تهينه، وتعنِّفه، وتأمره بقراراتٍ متسرعة غير مدروسة، ولا تسمع منه، ولا تنظر لرأيه، ولا تلتفت لاقتراحاته، سيمارس نفس الاستبداد مع موظفيه الأقل منه، فيأمرهم بنفس الحسم، وينتظر طاعة لا تقل عن طاعته لقياداته، فلماذا أنا وحدي أُهان، لماذا قادتي تنفذ هواها، أليس لي سُلْطَة على من تحتي؟ بل هي سلسلة مُنظَّمة ومتدرجة، وهذا قانون العمل! حتى قال ابن أبي ربيعة: “إنما العاجز من لا يَسْتَبِدّ”.

ويظل كل موظف يقهر الأقل منه، حتى يصل إلى الموظف الأدنى، فينفِّس عن قهره وإهانته على زوجته، فيأمرها وينتظر منها طاعة لا تقل عن طاعته لمديره، والأم تُخرِج غضبها على أبنائها، فتربي جيلًا يعتبر الرد على الوالدين عيبًا، ومناقشتهم عقوقًا، والخروج عن سيرتهم تمرُّدًا!

وهكذا أصبح استبداد المدير على موظفه، واستبداد الزوج على زوجته، واستبداد الوالدين على الأبناء، واستبداد المدرس على الطلاب بمثابة قانون عرفي، الكل يحترمه، ويمارسه، ولا يعارضه. المقموع يحترم تسلسل الاستبداد، لأنه يعرف أن عدم طاعة كبراءه سينتج عنه خرق النظام، فيتمرَّد عليه الأصغر منه، وهو لا يريد ذلك، بل يريد أن تبقى سلسلة القمع كما هي.

حتى الأطفال المقموعة دون قامع، يحترمون هذا النظام، لأنهم يعرفون أن يومًا سيأتي ويصبحون آباءً يقهرون من تحتهم، وضُبَاطًا يقهرون من تحتهم، وتتلمس ذلك في أمانيهم، فكثير منهم يتمنى أن يصبح ضابطًا أو مديرًا أو رئيسًا ليتحكَّم فيمن تحته!

وهكذا يصبح كل فردٍ في المجتمع إما سيدًا أو عبدًا، يُهين أو يُهان، المجتمع عبارة عن سادةٍ وعبيد، والطبقية عُنْوَانه!

يقول ممدوح عدوان: “المسئول المقموع من قِبل من هم أعلى منه سُّلْطَة يتحوَّل إلى آمرٍ قامع في دائرة نفوذه، والمواطن المقموع يتحوَّل إلى زوجٍ قامع لزوجته وأولاده، والمرأة المقموعة تتحوَّل إلى أمٍ قامعة أو جارة مُتسَلِّطة.

الإنسان بطبيعته ميَّال لرفض الإذلال، ولذلك فإن المُهَان الذي لا يستطيع رد الإهانة يجب أن يصرِّفها، وحين لا يستطيع ردها من مصدرها، لا بُدّ له من أن يصرِّفها باتجاهٍ آخر، كأن يبكي مثلًا، إلا أن الشائع هو التصريف نحو من يستطيع أن يتجبَّر عليهم”(8).

ويقول الكواكبي: “الحكومة المُسْتَبِدَّة تكون مُسْتَبِدَّة في كل فروعها، من المُسْتَبِدّ الأعظم إلى الشُّرطي، إلى الفرَّاش، إلى كنَّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا، لأن الأسافل لا يهمهم الكرامة وحُسن السُّمْعَة، إنما غاية مَسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار دولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍ كان، آبائهم أو أعدائهم، وبهذا يأمنهم المُسْتَبِدّ ويأمنونه، فيشاركهم ويشاركونه”(9).

ويقول أ.د. إمام عبد الفتاح إمام: “إذا كان الناس على دِّين ملوكهم، وإذا كان المُلُوك طُغَاة، استطعنا أن ندرك بسهولة أن أي مواطن في الشرق يتحول إلى طاغية، فالأب الشرقي طاغية، والزوج الشرقي طاغية، والمعلم الشرقي طاغية”(10).

٣. الشَرّ المُبتَذَل

(أدولف أيخمان) هو ضابط في الجَيْش النازي، كان مسئولًا عن نقل اليهود في قطاراتٍ إلى المحرقة، وكانت له أدوار أخرى في التنسيق لإجراءات المحرقة، تَمَّ القبض عليه، وفي المحكمة لم ينكر أيًا من الاتهامات المُوجَّهة إليه والأحداث التي يثبتها الادعاء، لكنه دافع عن نفسه ببساطة وقال: “أنا لم أفعل شيئًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، من دون الحصول على تفويضٍ صريح من الزعيم النازي أدولف هتلر أو أي من رؤسائي، ولم أكن إلا (منفذًا للأوامر)”!

وهو ما استَفَزَّ الفيلسوفة (حنَّة آرندت)، حيث تساءلت: هل يمكن أن يقوم أحد بفعل شرير دون أن يكون شريرًا؟

وكتبت كتابًا عن ذلك: (إيخمان في القدس .. تقرير عن ابتذال الشَرّ)، وميَّزت فيه بين نوعين من الشَرّ:

  • الشَرّ الخالِص: حينها يكون الشرير واعيًا بما يفعله، ويعلم أنه شَرٌّ، ورغم ذلك يُقدِم عليه، ويتمادى فيه، لأن دوافعه شريرة، ويغلِّب مصلحته على حساب غيره.
  • الشَرّ المُبتَذَل: وحينها الشرير ليس بهذه الصورة الدرامية للأشرار، بل في ظل الاستبداد الشمولي تتجزأ الجريمة إلى سلسلةٍ طويلة من الإجراءات، كل فعل على حدة لا يمثل جريمة، بل هو عمل إداريّ وروتينيّ اعتياديّ، أما مجموع السلسلة هو الجريمة البشعة التي تهول لها الإنسانيَّة. فالشرير هنا يقوم بحلقةٍ داخل هذه السلسلة، فإذا نظرت إليه من منظورٍ عالٍ وعام، فهو شرير ومجرم، وقد شارك في أبشع جرائم التاريخ، لكن من منظوره هو، فهو لا يرى نفسه شريرًا إطلاقًا، بل مجرَّد موظف يؤدي عمله، أو بمعنى أدق: هو شرير، لكن لا يعرف!

مثلًا في مثال الضَّابط (أدولف أيخمان) هو لم يرمِ أحياءً داخل المحرقة، بل كل ما فعله أنه أُمِرَ بنقل مجموعة من اليهود في قطاراتٍ، ونفَّذ المهمة على أكمل وجه، ورضي عنه رؤساؤه، ثُمَّ عاد لبيته ونام في سلامٍ وراحة ضمير! كذلك الطيَّار الذي ألقى قنبلة نووية على هيروشيما، هو لا يعتبر نفسه مجرمًا، هو فقط ضغط على زر!

وقريب من هذا المثال تجربة ميلجرام، إذ تَمَّ الاتفاق مع مجموعة عشوائية أنهم سيُجْرون تجربة عن تنشيط الذاكرة بالعقاب، فقالوا لهم التالي: ستعرضون مجموعة كلمات على أشخاصٍ، وعليهم أن يذكروا قرينة كل كلمة، مثلًا إذا قلت: “سماء”، يجب أن يقول هو: “زرقاء”، وإن قلت: “رياح”، يقول: “عاتية”، إلخ. وإن لم يذكر القرينة الصحيحة، عليك أن تعاقبه بإرسال شحنة كهربية لجسمه، وإن نسي مرة أخرى، تزيد الجرعة.

الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص الذين يعرضون الكلمات ويعذِّبون غيرهم هم من تُجرَى عليهم التجربة، أما الآخرون الذين ينسون القرينة ويُعذَّبون فهم يمثلون، والتجربة الحقيقية حول: إلى أي مدى يمكن أن يعذِّب إنسانٌ إنسانًا آخر لا يَمُت له بصلةٍ؟ وأحيانًا كان العذاب يزداد ليصل لدرجاتٍ قاتلة، والنتيجة أن 65% من العينة كانوا على استعدادٍ أن يُعذِّبوا آخرين لا يعرفونهم إطلاقًا، وبدون أي وجه حق، فهؤلاء لا يعتقدون أنهم مجرمون، هم فقط ينفِّذون الأوامر، ويعتقدون أن العلماء أصحاب التجربة هم من يتحمَّلون المسئولية كاملة(11)!

وهذا النموذج دائم التكرار في الأنظمة الاستبداديَّة، فالمُسْتَبِدّ حين يسرق الأموال، ويعذِّب الأبرياء، ويقتل العلماء، ويطارد الشرفاء، ويدمر الاقتصاد، ويفسد الأخلاق، لا يقوم بكل هذه الجرائم وحده وبيده، فمَن يتحمَّل نتائج هذه الجرائم؟

هذه الجرائم تتحقَّق عبر سلاسل طويلة جدًا من الإجراءات، يرتكبها موظفو الحكومة، والمتعاونون مع المُسْتَبِدّ، بدوافع: تنفيذ الأوامر/ عبد المأمور/ القادة أعلم، دون أن يعي أي منهم أنه ترسٌ في ماكينة تُكَسِّر في عظم الوطن، دون أن يعي أي منهم أنه يشارك باجتهادٍ في ثَقْب السفينة التي تحمله وتحمل أولاده!

يقول ممدوح عدوان: “كيف يستطيع الديكتاتور توفير العناصر اللازمة لتنفيذ مجزرة جماعية؟

الجواب: بتوزيع المُهِمَّات والمسئوليَّات؛ هناك من يقومون بعمليات الاعتقال، وآخرون بالتجميع، وغيرهم بنقل المعتقلين بالسيارات، وغيرهم أيضًا بحراسة معسكرات الاعتقال، وكل منهم لا يحس أنه يُنَفِّذ مجزرة، بل إنه يُنَفِّذ أمرًا مُحدَّدًا صدر إليه ويتعلَّق بتفصيل يمكن عَدِّه منفصلًا عن المجزرة”(12).

ويقول سي بي سنو: “الجرائم التي أُرتكبت باسم طاعة الأوامر أكثر من الجرائم التي أُرتكبت باسم التمرُّد”.

٤. اللُّجُوء إلى العُنْف

القانون هو المنظِّم والحَكَم والمرجع والسند لكل مواطن، منه يستمد مشروعية فعله، والأمان على نفسه، فكلٌ يعرف حقوقه وواجباته، والأهم أنه يضمن تفعيلها.

أما في عهد الاسْتِبدَاد، فتطبيق القانون يعني خضوع الحاكم وحاشيته للقانون، ويعني تداول سلمي للسُّلْطَة، لذلك فليصبح القانون حبرًا على ورق، موجود صحيح، لكن تفعيله وتطبيقه أمر آخر!

وبغياب القانون، لا ضمان لأحد، ولا حق لأحد، ولا واجب على أحد، ويصبح الهوى هو القانون؛ هوى الحاكم الذي يقرِّر أي قانون نُفعِّله، وأي قانون نُخْفيه.

في دولة الاستبداد لا يُفعَّل القانون على الأغنياء، ويدوسه الأقوياء، ويسخر منه الحُكَّام، وتحل محله الوساطة والقرابة، فيصبح هوى الحاكم وحاشيته هو إله الدولة غير الرسمي، وقانون الشعب الفعلي، والعرف السائد.

ولأن هوى الحاكم متذبذب ومتغير، فربما يريد أن يكسب ود الشعب، فيسجن لصًا معروفًا، وفي الوقت نفسه يريد الاحتفاظ بلصٍ آخر فيحميه! وربما يحتفظ بحزبٍ سياسي مُعارِض لتبقى ملامح الديمقراطية الشكلية، وفي الوقت نفسه يعتقل حزبًا معارضًا آخر! ويمسك صحفيًّا ويترك صحفيًّا! وهكذا يظل يحيي ويميت، ويقبض ويبسط، دون قانون ثابت ولا نظام متبع ولا شرع محترم!

ونتاج ذلك يحتل الخوف قلوب الشعب، فحياتهم في يد جاهلة وهوائية وغاشمة، فآلاف القوانين موجودة لكن غير مُفعَّلة، فلعله يُفعِّلها غدًا عليك أنت وحدك! من يدري؟ ومن يضمن؟!

ولا يكتفِ المُسْتَبِدّ بترك الشعب دون قانون يحميهم، بل يتدخل ويشارك لحماية حاشيته، فيعتبر إهانة موظف الدولة هي إهانة للوطن، والتعدي على أحد أتباعه هو نَيْل من ثوابت الوطن، لذلك يمنح أعوانه امتيازات خاصة، وإعفاءات استثنائية، وسُّلْطَات سياديَّة.

ويشرح ممدوح عدوان أصل ظهور (البلطجي)، فيقول: “البلطجي أصلًا هو صاحب البلطة أو حاملها، وقد كان الوالي أو الحاكم العثماني يتحرَّك بمرافقة حرس شخصي مسلح بالبلطات، وبعد انتهاء عملهم الوظيفي يعودون إلى الحياة اليومية وبلطاتهم معهم، فتتحوَّل البلطة في يد كل منهم إلى أداة إرهاب مدعومة من السُّلْطَة التي يُمثِّلها”(13).

ولهذا يصبح لجوء الشعب إلى العُنْف هو البديل الوحيد عن القانون، واللُّجُوء إلى العُنْف يتِمّ على مستويين:

أ. العُنْف بين المواطنين

ما دام القانون قد رفع يده عن المجتمع، فطبيعي يسود الخوف وانعِدام الثقة بين المواطنين، فلا أحد يأمن أحد أو يثق به أو يحذر شره، ولعل هذه القَدَم التي دستها هي قَدَم رجل شرطة/ جيش/ قضاء/ مخابرات، فتجد نفسك متلبسًا بجريمةٍ دون أن تدري!

ومشهد الرجل الغاشم ذو السُّلْطَة المطلقة وهو يسحق مواطنًا مسكينًا دون أن تطاله يد العدالة، يعلِّمنا جميعًا الدرس، ويوصِّل الرسالة بوضوح: لا قانون هنا، ولا أمان لأحد.

وقد حدث في مِصر أن تصادمت سيارتان في الطريق، وهو حدث مكرَّر وبسيط، لكن هذه المرة كان أحدهما سائق تاكس والآخر ضابطًا، فخرج الضابط وبتهديد السلاح ربط سائق التاكس في سيارته بالكلابش(14)!

ومن هنا اختلت واهتزت تربية الآباء لأبنائهم، فلا يعلمون، هل نربي أبنائنا على الصبر والسكوت والمشي بجانب الحيط، حتى نأمن عليهم صدامًا يفتك بهم، أم نربيهم على المقاومة ورد الضربة بضربة، حتى نأمن عليهم السحق تحت الأرجل؟!

فترى نساءً يفتخرن بتربية أبنائهن وتقول: “ابني لا يعلم شيئًا عن السياسة ولا الدين، ولا يشارك في حزب ولا جمعية، ولا يقول رأيًا ولا يسير في مظاهرة، ابني مسالم ساكت صامت، من البيت إلى الجامعة”!

ونساء أخريات يفتخرن بالعكس: “لم أعلِّم ابني الأخلاقيات النظريَّة الخياليَّة الفارغة، الصبر والهدوء والذوق، ففي هذا المجتمع يُداس المهذب ويُسحق الصبور، بل أقول له: من يرفع يده عليك، اقطعها، ومن يسبك سبه بأبيه وأمه، ومن ينظر إليك ابصق في وجهه، لا تسمح لأحد أن يفكر في الاعتداء عليك، بل اسبق أنت واعتدِ عليهم حتى يرهبوك ويخافوك”!

وهذا نتاج طبيعي لانعدام القانون، فبدلًا من أن يُنظِّم الحاكم العَلاقة بين الشعب، تركهم يقتلون بعضهم وينقضّون على بعضهم كحيواناتٍ مسعورة، المهم أن لا يقترب أحد من الرئيس وحاشيته!

يقول ممدوح عدوان: “حين تقف بقوة دفاعًا عن حقك فإنك لا تعتمد على قوتك وحدها، بل تعتمد على عرف أو قانون يمكن الرجوع إليه عند الحاجة لكي ينصفك، ولكن إذا رجعت إلى هذه المرجعية العرفية أو القانونية ولم تستطع أن تحميك، أو لم تحاول لك، بل ربما ساندت المتطاول عليك، فإن هذا سيكون (درسًا) للآخرين يجعلهم يتهاونون في الدفاع عن حقوقهم لكي لا يتورطوا مثل ورطتك”(15).

ويقول د. مصطفى حجازي: “الإنسان في المجتمع المتخلِّف عدواني، متوتر، يفتقر إلى العقلانية، لأنه يعيش في حالة مزمنة من الإحباط الاعتباطي والإهمال. إنه متروكٌ لنفسه كي يتدبر أمره كما يستطيع، ليس هناك ما يضمن له حقه أسوة بغيره، عليه هو أن يحفظ هذا الحق كما تمكِّنه ظروفه (الاحتيال، أو التقرُّب من السُّلْطَة وذوي النفوذ، أو العُنْف والصراع من أجل الغلبة). عالَم الإنسان المقهور هو أشبه ما يكون بغابة ذئاب، عليه أن يعبء بنفسه ويظل يقظًا طوال الوقت لمجابهة أخطارها.

وعندما يحس كل واحد من المواطنين إحساسًا من هذا القبيل، فإن عَلاقات التعاطف والتفاهم تنهار لا محالة، لتحل محلها عَلاقات اضطهاديَّة؛ الآخر هو الخصم الذي يتهدَّد المصير الذاتي”(16).

ب. العُنْف ضد الدَّوْلة

أخطر مستويات العُنْف هو العُنْف المُنظَّم ضد مؤسَّسات الدَّوْلة، ضد القانون نفسه!

فما دام القانون ليس صوت الشعب، الذي صاغه ليحفظ حقوقهم، لكنه هو سيف السلطان على رؤوسنا، الذي صاغه هو ليحميه هو، لذلك لا وجود لقيم: احترام القانون/ قدسيَّة النظام/ الالتزام بالشرعيَّة. إن التزم الشعب بالقانون هو التزام ذل وخضوع وعجز، لذلك متى تتوفر الفرصة لأحد أن يخالف القانون، فهو لا يتردد في خرقه ومخالفته، والشعب لا يعتبر الخارج على القانون مذنبًا، بل هو نموذج للذكاء والثَّوْرَة، ويتستر عليه ويحميه من الشرطة.

والحُكَّام الذين يثقلون على شعوبهم بضرائب تقسم ظهورهم، هل تنتظر من الشعب أن يحترم هذه القوانين ويلتزم بها أم يتحايل لمخالفتها ويعتبر التهرُّب منها ذكاء وشجاعة؟!

يقول د. مصطفى حجازي: “ليس هناك ضوابط خُلُقيَّة عند الإنسان المتخلِّف، هنالك فقط خوف من القمع الخارجي، وعندما يزول هذا الخوف، أو يتوارى شبح القمع ينفجر العدوان متخذًا شكل عُنْف مباشر مدمر”(17).  

وما دامت مؤسَّسات الدَّوْلة لم تَعُد مؤسَّسات المواطنين التي تعمل لمصالحهم، وباتت مؤسَّسات الحاكِم التي تسعى لخدمته، فلا يهم الاعتداء عليها أو سرقتها، ولا ينتفض المواطنون لحمايتها، كأن لسان حالهم يقول: فليحمها أصحابها المستفيدون منها.

وما دام لا طريق قانوني وسلمي لتداول السلطة، فلا أحزاب، ولا تظاهرات سلمية، ولا حرية رأي، ولا انتخابات نزيهة، ولا برلمان يعارض، ولا مسئولين محاسَبين، لذلك تلجأ بعض الجماعات السياسية إلى العنف والسلاح، وهذا الطريق لا أحد يضمن انفلاته أو انفجاره، وعند هذا الحد ينفطر قلب الدولة فتقف شرطة الدولة ضد مواطنيها تقتل أولادها، ويتمرد جيش الدولة على بعضه فيتقاتلون، وينقسم الشعب ضد بعضه ليقتل المواطن أخاه، وتُرمى البلاد في حميم حرب أهلية!

والسؤال هنا من تسبب في كل ذلك من البداية، من ألجأ الشعب إلى هذا الطريق؟! من سد الطرق الشرعية؟!

يقول د. مصطفى حجازي: “العنف هو الوجه الآخر للإرهاب والقهر اللذين يُفرَضان على الإنسان في المجتمع المتخلف”(18).

ويقول خالد محمد خالد: “إن الذي قال: “الاستبداد هو الأب الشرعي للمقاومة” لم يكن مخطئًا ولا واهمًا؛ فحيث يوجد الضغط لا بد أن توجد المقاومة”(19).

ويقول محمد المختار الشنقيطي: “كلٌ من الفوضى والاستبداد يُغذِّي الآخر ويتغذى عليه؛ فالطغيان السياسي يؤدي إلى ردود فعل فوضوية في المجتمع، والفوضى تسوِّغ الطغيان السياسي وتجعل الناس ترضى به، خوفًا على الدولة من الانهيار، وعلى المجتمع من الاندثار.

فالاستبداد السياسي حَرْب أهلية مؤجَّلة، وبركان خامد ينتظر لحظة انفجاره، والفوضى الاجتماعية مشروع طغيان سياسي قادم، لذلك يحتاج الاجتماع السياسي إلى الجمع بين القانون والحرية.

إن الاحتماء من الفوضى بالاستبداد خيار قصير النظر، إذ هو علاج للعرَض وإبقاء على المرض. فالاستبداد هو الجِذْر الذي يرجع إليه أصل المعضلة السياسية، وقد انتبه إلى ذلك الإمام أبو منصور الماتُريدي، فردَّ الأمور إلى أصلها السياسي قائلًا: “إن الفتن ونحوَها إنما تَهِيج من الأمراء الجائرين ومن أتباعهم”(20).

ويروي محمد سلطان شهادته عما وجده في المعتقل المصري في عهد السيسي ويقول: “هناك إرهابيين من تنظيم (داعش) يتحركون الآن داخل السجن ممتلئين بالتبرير ويقولون للسجناء الآخرين: أولئك المرتدون لن يحترموا أي شيء عدا المقاومة العنيفة، إنهم لا يفهموا سوى لغة السلاح”(21).

مثال: الحَرْب الأهلية في الجزائر

في ديسمبر 1991م في الانتخابات البرلمانية الجزائرية حصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أغلبية ساحقة من المقاعد، 188 مقعدًا من أصل 232.

هذا الفوز الساحق للجبهة الإسلامية أغضب قيادات الجَيْش في الجزائر، فقاموا بمجموعة من ردود الفعل:

  • أسَّسوا المجلس الأعلى للدولة، وحاولوا إجبار الرئيس الشاذلي على إلغاء النتائج، لكنه رفض، فأجبروه على الاستقالة في 11 يناير 1992م، واستدعوا محمد بوضياف، الذي كان يعيش في المغرب بعيدًا عن صراعات السُّلْطَة، ليكون رئيس المجلس الأعلى للبلاد.
  • واعتقلوا خمسة آلاف من أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ -حسب المصادر الحكومية، بينما تؤكد الجبهة أنه تَمَّ اعتقال ثلاثين ألف من جماعتهم- ونُقلوا إلى سجون في الصحراء الكبرى، وأشارت منظمة العفو الدولية إلى الكثير من الانتهاكات في حقوق الإنسان خلال تلك الفترة.
  • وحلوا الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزبٍ سياسيٍّ مُرخَّص.

اعتبر شباب التيار الإسلامي تصرفات الجيش انقلابًا على الديمقراطية، وأن طريق الانتخابات، والسلمية، والمشاركة البرلمانية، والتداول السلمي للسُّلْطَة، مسدود وغير مسموح لهم السير فيه، والخيارات المتاحة أمامهم: السجن أو القتل أو حمل السلاح، والصوت المسموع هو صاحب اليد العليا وصاحب الرصاصة الأخيرة. لذلك كفروا بالسلمية، وتمردوا على الجبهة، وارتموا في أحضان جماعات مسلحة، مثل جماعات التكفير والهجرة، والحركة الإسلامية المسلحة، والجبهة الإسلامية للجهاد المسلح، حتى إنهم استهدفوا قادة الجبهة الإسلامية واغتالوا بعضهم!

في 29 يونيو 1992م اُغتيل محمد بوضياف، رئيس المجلس الأعلى للدولة، على يد أحد حراسه!

وفي 26 أغسطس 1992م أخذ الصراع منعطفًا خطيرًا وهو استهداف رموز الانقلاب، وتَمَّ استهداف مطار الجزائر، وراح ضحية الانفجار 9 قتلى وأُصيب 128 آخرين، واستنكرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحادث، وأعلنت عدم مسئوليتها عن الانفجار.

ووقعت حزمة من المذابح، وكان من أبشعها قتل 400 مدني جزائري في قرية جوار العاصمة!(22)

وقد لاحظ الباحث الفرنسي (فرانسوا بورغا) أن هذه الاستراتيجية للاستبداد وقمع المعارضة وسد طرق الديمقراطية تخلق حتمًا عصابات مسلحة، فقال: “اعطني أي حزب سياسي في الغرب، وسأحوِّله لك إلى جماعة مسلحة خلال أسابيع، إذا ما استخدمت الطرق ذاتها المستخدمة ضد الحركات الإسلامية في الجزائر”(23).

السياسة هي علمٌ يختص بإدارة شئون الوطن، وخدمة المواطنين، وبناء المؤسَّسات، لذلك هو علمٌ شريفٌ، وتخصُّصٌ نبيلٌ، أما في عهد الاستبداد فتصبح السياسة هي فَن إدارة الحيل، والتلاعُب بالعقول، والتحايُل على القانون، ونفاق الأعلى، واستبداد الأدنى، والتهرُّب من المسئولية، واللُّجُوء للعُنْف عند الضرورة، وتفصيل القوانين للمصلحة الشخصية، لذلك حق لهم أن يقولوا: السياسة نجاسة! وهي سياستهم هم الاستبدادية، وليست السياسة الراشدة العادلة التي مارسها رسول الله، والخلفاء الراشدون من بعده، وكل حاكم عادل.

المصادر:

1. (حيونة الإنسان) ص142

2. (Just babies) P.36

3. (نساؤنا حبلى بنجمك) جريدة الوطن، الكويت، 7/11/2013

4. (في خيمة القذافي) ص220

5. (العبودية المختارة) ص83

6. (الطاغية) ص97

7. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص57

8. (حيونة الإنسان) ص150

9. (طبائع الاستبداد) ص60

10. (الطاغية) ص293

11. (الاقتصاد السياسي للديكتاتورية) ص22، (حيونة الإنسان) ص88

12. (حيونة الإنسان) ص20

13. (حيونة الإنسان) ص128

14.

15. (حيونة الإنسان) ص104

16. (التخلف الاجتماعي) ص178

17. (التخلف الاجتماعي) ص195

18. (التخلف الاجتماعي) ص166

19. (الديمقراطية أبدًا) ص50

20. مدونات الجزيرة (أوراق الربيع (9) .. الفوضى والطغيان حليفان)، (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية) ص264

21. محمد سلطان: إدارة السجن شجعتني على الانتحار.. وشاهدت وفاة أحد السجناء، جريدة الشروق،  ٢٩/٩/٢٠١٥، http://bit.ly/2r1A8eg

22. راجع (الحرب القذرة – شهادة ضابط سابق في القوات الخاصة بالجيش الجزائري 1992 – 2000م) حبيب سويدية

23. (الحركة الإسلامية في السودان) ص35، نقله عن Burgat p. 45

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظه

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا