عن عظمة الإنسان!

تأمل في تأملات ماركوس أوريليوس

لم يمضِ الكثير من الوقتِ مُنذ أنْ قرَّرتُ قراءةَ تأمُّلات ماركوس أوريليوس، فاهتمامي بشراءِ هذا الكِتابْ تَزايد مُنذ بدايَةِ رحلَتي في عالمِ القراءَة كعادةٍ يوميَّة في كُلِّ صَباح، و”الرَّواقيِّة اليوميِّة”، لكاتبه ريان هُوليداي قبْل البِدءِ بيوميَ المُعتادْ.

لَقَدْ فَاجَأني كَيف لِأقوى رجلٍ في العالم، في نِهاية يومْهِ عادةٍ بعد معركةٍ طويلةٍ أو اجتماعٍ لوضعِ الخُطَطِ مع جِنِرَالاتِهْ العِظامْ  أنْ يعودَ لِخيْمَته الإمبراطوريِّة وَفِي عُزلَته، يبدأُ بتدوينِ أفْكارِه كَما وردتْ في خَاطِره!

قضى ماركوس أوريليوس أَغْلبَ فترةٍ حُكمِهِ فِي الخُطوطِ الأَمامِيَّة للمَعَاركْ، قائدًا للجُيوشِ الرُّومانيِّة فِي مُواجَهَةِ القَبائِلِ الجِرمانيِّة والبَارثِييِّن لمُدَّةٍ تُقارِبُ العِشرينَ عامًا. وقد اضطرَّ أيضًا للتَّعامُلِ مَعَ وَباءِ الطَّاعُونِ الذي كانَ يَفْتِكُ بِما يَربو على أّلفَيْ شخصٍ يوميًا بِرُوما، مدمرًا سُكَّانَ رُوما وَجَيْشَها بما يُعادل خَمسة ملايين وفاة.

كُل هذا مصاحبٌ لمُعَالجتِهِ للسِّياسَةِ الدَّاخليِّة والفسادِ والبِيرُوقْراطيِّة، وأخوهُ غيرَ النَّاضِج، وابْنِه المُضْطرب!
ولكنَّه بالرُّغم من هذا استطاعَ الحِفاظ َعلى رُوما كَقوَّة عُظمى، مواصلًا تَوسُّعَها الإقليميِّ وَحاميًا لاسْتقرارِها الاقتصادي، وَسلامِها في كل أنحاءِ الإِمبراطوريَّة. كَما كانَ آَخِرَ المُلَقَّبِينَ بالأبَاطِرَةِ الخَمس الصَّالحينَ، واعتُبِرَ من أفضلِ حُكَّامِ رُوما.

“المَلِكُ الفَيْلسُوف”  -كما يُلقِّبه المُؤرِّخُونَ والفَلاسِفَة- فقد حقَّقَ نُبوءَةَ أفلاطون مُنذ نصف ألفيَّة: “يَجِبُ أنْ يُصبِحَ الفَلاسِفَةُ مُلوكًا.. أَو هَؤلاءِ مَن يُلقَّبونَ بالملوكِ يَجِبُ عَليْهم بِصدقٍ وبطريقةٍ صحيحةٍ أنْ يَتَفلسفوا!”. (الجمهورية)
من السَّهل أنْ نُبعد أنْفُسنا عن مِثل هذهِ الأمثلةِ التّّاريخيَّة الاستثنائيَّة، مُتجاهِلِينَ بَعيدًا أيَّ أَحلامٍ بأنْ نُصبِحَ مثلَهُم؛ لأننا لا نَشْعُرُ بأننا مُمَيَّزونَ كِفَايةً، وُنفضِّلُ الحَياةَ العَاديَّة المُريْحَة، مُحدِّثيِنَ أنفُسَنا بِكلماتٍ مِثلَ: “لا، أنا غَيرُ مَعنيّ بِمثلِ هَذهِ العَظَمَة “.
أنا أيضَا أحدِّثُ نفسي بِهذا كثيرََا، حتى أقرأ التأمُّلات!
لدهشَتِي أنَّ ماركوس أوريليوس، “المَلكُ الفَيْلَسُوف”، أفضَل أبَاطِرَة رُوما، واحدٌ مِنْ أعظمِ رِجَالِ الحَضارةِ الغَربيَّة القَديمَة، اتَّضَح أنَّهُ إنسانٌ بسيطٌ مِثلي!

إعلان

فِي مِثْلِ هذه السَّكينةِ فِي خَيمَتِه الخاصَّة، في عُزْلَتِه، غائبًا عن جَيشِهِ وَعباءَتِهِ الأرْجُوانيَّة، يَكْتبُ لِنَفسِه بأكثَرِ الطُّرُقِ أصالةََ وَحميميِّة وتأثرًا؛ عارضًا أفكارَهُ ومشاعِرَهُ وَشُكوكَهُ كَما يواجهها أيُّ إنْسانٍ عَاديٍّ يومًا بعدَ يوم.
يَكتُبُ عن شَفَقَته على أخِيه الصَّغير، وَعَن فَضَائِلِ أُمِّه وعن النَّاسِ المُتَغَطْرِسِين، وَعَن الصُّعُوباتِ وَالعَوائِقِ اليَومِيَّة، الموتِ، وَعَن الشُّكوكِ الذَّاتية!

يَكْتُبُ أيضًا كما يبدو بَعد الأَيَّام المُرهِقَةِ والصَّعبةِ عِندَما لَمْ يَكُنْ في أَوْجِه، وهذه بَعْضُ الكلماتِ كَيْ يُشجِّعَ نفْسَهُ: “لا تَشْعُر بالاستياء، الهَزيمَةِ أو القُنُوط؛ لأنَّ أيّامَكَ لَمْ تَعُد مَليئةً بالأفعالِ الحَكِيمَةِ وَالمُناسِبَة، لكنْ اسْتَرْجِع قُوَّتك بَعد السُّقوط، احتفِ بِتَصَرُّفِكَ كإنسانْ –بالرُّغم من عَدَمِ كَمَالِكَ– واحتَضِنْ بِكُليِّةٍ السَّعيَ الذي شَرَعْتَ فَِيه”.

كما يَسْأَلُ نَفْسَهُ قَائِلًا: “ماذا أفْعَلُ بِرُوحي؟ استجوبْ نَفْسك لِكَي تَكْتشِفَ عَاداتِ عَقْلك، وَمَا نَوعُ هَذِهِ الرُّوح التي تَمْتَلكُها الآن”.
كَمَا تَرى، عَظَمَة مَاركُوس أوُريلْيُوس لَمْ تَأْتِ من إنْجَازاتِهِ الخَارجيَّة، لَكِنْ نبَعتْ مِن النُّبلِ الدَّاخِلي، الذي زوَّد قَرَارَاتِهِ وَأفْعاله بالوَقود، فأَوسِمَةُ الشَّرف، الانتِصارات، القوُّةُ والاحترام كانتْ مُجرَّدُ نَتائِجٍ لطَبيعَتِه الخاصَّة كَكائنٍ بَشريّ عظيم، وَليْس كالبقيَّة السائِدة.
عَظَمَةُ الإنسانِ ليْسَتْ شَيئًا يأتيْ مِن خَارِجِه، إِنَّها ليستْ ناتجًا للأحداثِ الخارجيَّة أو الإنجازات، كما أنَّها لا تأتِيْ مِن لَقبَِك الوَظيْفِيّ، دَخْلك، عَلامَتُك الدِّرَاسيِّة، الشُّهْرَة أو القوُّة، لا شَيء مِنْ هَذه الأشياءِ بِجوهَرِهِ الذَّاتِي يُشْبِعُ الإِنسانْ، كل هذه أشياءْ مُؤقَّتَة وَزَائِلة، وَيُمْكن أنْ تُسْلَب فِي أَيّ لَحْظة.
ضَعْ قِيمَتَكَ الذَّاتيِّة فَي الأشْياءِ الزَّائِلة، وَسَتَحْكُم على نَفْسِكَ بِالحُزْن.

العَظَمَةُ تَنْبُعُ مِن الدَّاخِلْ:

تَنبُعُ العَظَمَةُ في الإِحساسِ الخَلَّاق، في الشَّجاعَةِ لفعلِ الصَّوابْ، في الدِّفاعِ عن الضُّعفَاءْ، في مُواجَهَةِ الخَوْفِ لا الهُرُوبِ مِنه.
في مُوَاجَهَةِ السَّرطانِ بِشَرَفْ، بالاعترافِ بالحُّبِ أولًا، في مُواجَهَةِ الشُكُوكِ الذَّاتِيَّة المُقلِقة، في النَّهُوضِ كُلَّ صَباحِِ بِرُّغْمِ من حُزنِكَ، في العَطْفِ وَالصَّبْر على مَن لا يَمْتِلْكُ مِثلَ هَذِه الصِّفَات.

هَذه الخِصال، بالطَّبع، يَتِمُّ تَغذِيَتُها بالعملِ الدَّاخِلِي على الذَّاتْ، مِن ثُّم كَيْف تُبنى هذه العَظَمَةُ الدَّاخليِّة؟
دِيفيد بْروكس، كاتِبُ صَحيْفةِ النيويوركْ تَايمز ومُؤلِّف كِتابِ “الجَبَل الثَّاني: “السَّعْيُ مِن أجلِ حياةٍ أخْلَاقيَّة”، نَشَر مقالًا يَصِفُ فِيه مَدى تَقَارُب عَيْشِ حَياةٍ جَيِّدة بِتَسَلُّقِ جَبَلين؛ أَوَّلُهُما تَحقيقُ إنْجازٍ تبعًا لمبادئَ عُليا جانيًا الإَشادةَ بِكَ وَالسُّمْعةَ الجَيَّدة، ثانيهما الانقيادُ برغبةٍ داخليَّة مبنيَّةِِ على الحُبّ، والأخْلاق والقِيَمِ الدَّاخليَّة، مُشبِّهًا هَذه العمليَّة بإسكاتِ كبريائنا الذَّاتي:
” الصّوتُ المُتَكَبِرُ المُتُمُرْكِز حَول الذَّات، يجبُ أنْ يتمَّ إسكاتُهُ قَبْل أنْ يستطيعَ الشخصُ أنْ يمْنَحَ ويستقبِلَ الحُبَّ بِحُريَّة، وَبَعْدَهَا يُنْشِئُ اتفاقًا بينَ القلْبِ والرُّوح عَبْرَ الصَّلاة، التَّأَمُّل، الكِتَابة، ومِثْلُها مِمَّا يَجْعَلُك تُدْرِكُ رَغَباتِكَ الدَفِيْنة.

في القَفَار، الرََّغْبَة في التَبْجِيلِ تختفِي وَيظْهَرُ مَكَانها رَغَبات أَعْظَمْ: رَغَباتُ القَلْبِ (فِي عَيشِ حَياةٍ مُتَصِلَة بالحُّب مع الآَخَرِيْن)، ورَغَباتُ الرُّوحِ (فِي التَوْق إلى خِدْمة مَبدأ مِثاليّ، وأنْ يَطَّهَر الإنسانُ مِن خِلالِ هَذه الخِدْمة). دِيفيد بْروكس (الجَدارةُ الأَخلاقيِّة المَحْفوفة بالخَطر).
يَعْلَقُ النَّاسُ فِي الجَبل الأوَّل – بالُّرغم مِن النَجَاح الظَاهريّ – فَي النِّهاية يستَسْلمون لحياةٍ خَاوِيَة مِن المَعنى والسُّمو، أولئك من يُقَرِّرُونَ بُلوغَ الجَبل الثَّانِي يَتَجاوَزُن َهَذا الجَبل لعَيشِ الحَياة -على الرُّغْمِ مِن عُيُوبِها وَعَبَثِيَّتها- بَاحِثِينَ عَن السَّلام، والبَسَالةِ والشُّعور العَميقِ الخَاص بالسُّمو، حتى وُصُولِهم لِنُقطةٍ يتَقبَّلونَ فِيها المَوتَ كَنتيجةٍ نهائيَّة لا يُمكنْ تَجَنُّبها، مُحيِّينَهَا بِشجاعَة – (فِكرَة شائِعَة مَنْشَأها ماركوس أوريليوس ) .
أكثَرُ الأشياءِ غَرَابةً حَولَ هَذِه العَظَمة الدَّاخليَّة (النُبلِ الدَّاخليّ)، هو قُدرة كُل إنسانْ عَلى الوُصولِ إليها، إنَّها لا تعتمدُ عَلى الدَّخل، المِهْنة، أو الطَّابع المَادِّي، فلقد قابَلْتُ شخصيًا أشخاصًا عادييْن جدًا، عَظَمتُهُم الإنسانيِّة تَعَدَّت بِمراحلْ نَظيْرتها عِند مَليونِيريِّين ومديري الشَّرِكات، ورُؤَسَاءِ الدُّول.

وبما أنَّ العَظَمَة تَقبْع فَقَط فِي دَاخِلِك، مُنْتَظرةً تَبنِّيها مِن خِلالك، يُمكنك اكتِشَافُها بِجِوارك وِفي تنَقُّلك اليَوميّ، البَشَرُ العُظماء يَشْبَهون الأبْطَالَ الخَارِقِيْن غَيْر المَرئِيِّين، يُحارِبُونَ بِطَريِقَةٍ غَيرِ عاديَّة عَوائِقَ حَياتهِم بَيْنَما يُقِلُّونك إلى المَطار، يكونوا زُملائَكَ الوَدُودِينَ وَيْجلِسون بِجانِبِك فِي المُواصَلاتِ، وينظِّفونَ أرْضيَّة مَكتبِكَ أوْ يَطهُون غَدَائك فِي المَطَاعِم التي تذهبُ إليها في عُطلتكِ الأُسبوعيِّة.

بطريقة ما، هذا الاستنتاجُ لمِثلِ هذه العَظَمة الدَّاخليَّة وَالكائِنات البَشريَّة النَّبِيلة، يمنَحُنا ارتِيَاحا من خِلالِ مَسارَيْن:
1 . أنتَ سيِّد نفسك كما تنْبع العَظَمة من الدَّاخل كذَلك يَنبع السَّلام الدَّاخليّ، السَّعادة وَتحقيقُ الذَّات.
2 . يوجدُ في الخارجِ أُناسٌ صَالِحُونَ يجعلونَ العَالم مكانًا أفضلْ أكثرَ ممَّا نَعتقد، هُم فقط غَيرُ مرئييٍّن بالنسبةِ لنا.
هنُاك مشهدٌ أحبُّه في فيلمِ ذا هُوبيت: عندما تَسْألُ (جالادريل) (جاندالف) عن سببِ أخْذِهِ (بيلبو) فِي هذه المُغامرةِ الخَطيرةِ، لَمْ تكنْ إجابتُهُ لِتُصْبِحَ أكثرَ دقَّةً عِندما قَال:

“لا أعْرِف. (سارومان) يَعتقِد أنَّ وَحدَهَا قُوَّة كَبيرةٌ تستطيعُ كبحَ الشَّر، لكن ليْسَ هذا ما اكْتشفتُه، فقد وَجدتُ أنَّ الأشَياءَ الصَّغِيرة، الأعمالُ اليومَّية لأُناسٍ عادييِّن، هي التي تمنعُ الظُلمة أفعالٍ عاديَّة كالعَطفِ والحُب، لماذا (بيلبو باجينز)؟ رُبَّما لأنني خَائِفٌ وهو يُعطيني الشَّجاعة”. -جاندالف ذا جراي– من فيلم ذا هُوبيت.
رُبما نكتشف هؤلاءِ الناسَ العُظماء مِن حَولنا وَنسْعى معًا لعالمٍ أفضل.
وليتنا نسعى لأجلِ هَذه العَظَمة قلبيًا وعقليًا؛ حتى إذا ما أتتْ ساعتُنا، نستريْحُ مُتأكِّديْنَ أننا فِي حَياتنْا العَاديَّة تَجَرَّأنا أنْ نُصْبِح عُظماء.

مصدر الترجمة

نرشح لك: هل كان ماركـوس أوريليوس رواقيًا غليظًا؟

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

ترجمة: أبانوب رأفت

اترك تعليقا