عن العبودية المختارة: في معنى أن نولد أحرارًا
“لِنُصغِ إلى هذا الصبيّ البالغ من العُمر ستّة عشر عامًا”
بهذه الدعوة المُلِحّة صدّر ميشال دو مونتاني حديثه عن مقالةٍ مطوّلة بعنوان العبودية المختارة لصديقه إتيان دي لابويسي. والذي كتبها كما يحدّثنا الاقتباس في شبابه ومقتبل عمره، انتصارًا للحرية على حساب الطُغيان. ويذكّرنا مونتاني بأن هذه المقالة هي آخر ما تبقّى من إرث لابويسي، كأنّما كانت رسالته الوحيدة فبلّغها ومضى ثمّ مَضت به إلى الخلود.
ومن المُهمّ قبل الخوض فيما جاءت به المقالة، أن نعرّج قليلًا على الإطار الذي مهّد لظهورها، فقد وُلد إتيان دي لابويسي عام 1530 في مدينة سارلات في فرنسا؛ أي في ظرف مشحون بالصراعات الدينية في أوروبا؛ بدايةً بثورة الفرسان ومرورًا بحرب الفلاحين الألمان (1524م-1525م) انتهاءً إلى فترة الإصلاح المضاد سنة 1545م وما تلاها من حروب. ومنه يصحّ أن نقول: إنّ لابويسي قد جاء في زمنٍ قلِقٍ فورث عنه القلق صغيرًا، وشابَت نفسه في عزّ شبابها.
وكان هذا العصر الذي سادته الحروب الدينية والنزاعات الطائفية وسياسات القمع الملكيّة، بمثابة القادح الذي دفع إتيان دو لابويسي إلى استدعاء مسألة الحريّة من جديد، محاولًا تحديد قيمتها وتقصّي منزلتها من الكائن البشرّي. ولم تُنشر هذه المقالة إلا بعد ثلاثة عقود من تاريخ كتابتها، أي بعد وفاة لابويسي، فظهرت في البداية عن طريق الكُتّاب البروتستانت ثمّ أدرجها مونتاني في كتاب المقالات.
حُرّية فطريّة وعبودية مختارة.
في عنوان المقالة شيءٌ من الإيحاء بفحواها؛ إذ ليس من قبيل الصدفة أن يجمع لابويسي منذ البداية بين حالة العبودية وفعل الاختيار. فكأنّه بهذا ينفي عن العبودية سِمة الفطرة والغريزة، ويُصِرُّ على أنّ اقترانها بالنفس البشرية لا يكون إلا وليد إكراهٍ أو عادةٍ أو اختيار. فإن الحرية بالمقابل هي الحقُّ الطبيعيّ لكل كائن حيّ؛ وهذه حقيقةٌ حسب قوله، لا جدال فيها. فنحن بزعم لابويسي «لا نولد أحرارًا فحسب، بل راغبين في الدفاع عن حريّتنا أيضًا»
ومفهوم الحريّة لدى إتيان دو لابويسي، مفهومٌ مُتّسع وشامل؛ فهو وإن بدا في ظاهره معنيًا بالإنسان وحريته السياسية، فإن فيه ما يدلُّ على مفهوم أسمى للحرية. أي حُريّة فُطرت عليها نفس كل كائن شعوري. وهذا بيّنٌ من خلال ما استدعاه الكاتب من أمثلةٍ تحاكي قيمة الحريّة لدى سائر الحيوانات؛ كمثل ما تبديه ذوات القرون والمخالب والأنياب من استماتة في سبيل الدفاع عن حريتها حتى ليؤثر بعضها الموت على الوقوع في الأسر.
إنّ النزعة إلى الحريّة لا تخفى حتى عمّن قصرت أبصارنا عن إدراكهم. وهذا هو أبو العلاء، في سياق مُشابه، يُنشد من الشعر بيتًا في حبّ الحياة ولذّة الحرية التي تهيج بها قلوب البراغيث:
تَسريِحُ كفِّك برغُوثًا ظفرتَ بِه
أحَقُّ من دِرهمٍ تُولِيه مُحتَاجا
كلاهُما يتوقّى والحياةُ لهُ
حبيبةٌ ويرومُ العيشَ مُهتَاجا
والعود إلى الحيوان هنا فيه من العود إلى خصائل الكائن البشريّ الأوّل؛ فلمّا كانت الحرية حاضرةً في الطبيعة بصفتها فطرةً وغريزة، فلا أثر في المقابل لممارسة من قبيل العبوديّة في نفس هذا الإطار. وَحدَها المجتمعات البشرية، من تقوم على خضوع الأغلبية لصالح الأقليّة. بينما يسير مُجتمع الحيوان وفق غَلبة القوي على الضعيف، دون أن نقف فيه على أثرٍ لتسلط الأقوياء أو خنوع الضعفاء؛ فلن نرى مثلاً قطيعًا من الحمير، قد أجمع أفراده على طاعة الأسود والتنازل لهم عن شيء من حريتهم، وعلى الرغم من ضعف الحمير مقارنة بالسباع إلا أنها ستصر على مواصلة الركض والهروب حِفظًا لحريّتها.
وكثيرًا ما يذكر لابويسي أمثلة من هذا القبيل، لتذكير الإنسان بطبيعته الأولى، والتي إن تناساها فعليه بالدواب ليتذكرها، فنراه يقول في هذا الشأن «فلا بدّ من أن أمنحكم الشرف الذي تستحقون فأُصْعِد، إن جاز القول، البهائم الوحشية إلى المنبر لتعلّمكم ما هي طبيعتكم وما شرط وجودكم.» وبهذا يكون العود إلى الغاب عودًا تأمليًا؛ يميّز بفضله الإنسان بين حقّه الطبيعي الذي جُبِل عليه، وبين حالة غريبة عن الطبيعة، هي أقرب إلى كونها اختراعًا وممارسة يتحول من خلالها الكائن البشريّ إلى كائن مُدَجَّن.
بعد انطلاقه من حالة الطبيعة، يعرّج لابويسي على صفحات من التاريخ القديم؛ مُستشهدًا بحكايات من المعارك التي دارت بين الإغريق والفُرس. ولا يَعجَبُ الكاتب، عند سرده لبعض من هذه الوقائع، من انتصار الإغريق ، وهم آنذاك فئة قليلة، على جيشٍ كبيرٍ ومهيبٍ تُغطي أساطيله سطح البحر، فيقول «ما الذي مكنهم من ذلك في تلك الأيام المجيدة لولا أن المعركة لم تكن ضد الفرس بقدر ما كانت انتصار الحرية على الهيمنة والاستعباد.» ومن هذا يؤكد لابويسي، على أن الشعوب التي تفطنّت إلى غريزة الحرية وعرفت قيمتها بحقّ، من غير الممكن لها أن تفرط فيها تحت أيّة ظروف. فهي في تأهب دائم للدفاع عنها لا بالرماح والدروع فقط، بل كما يقول الإسبارطيون «بالأسنان والأظفار أيضًا».
وما مضى ذِكره، حقيقٌ بأن يدفع لابويسي إلى التساؤل حول ما يدفع الشعوب إلى التخلي عن حقها الطبيعي في الحرية. وبأي حقّ ولأيّة غايةٍ تراهم يؤثرون العبودية أو «رذيلة الخدمة» عليها؟ يرى لابويسي أنه من الممكن ردّ جزء من هذه الأسباب إلى أثر العادة على الإنسان. وهو أثرٌ ذكره شكسبير على لسان هاملت حين تمتم بأنّ «العادة ماردٌ جبّارٌ يلتهم العقل التهامًا. بالعادة ينقلب الشيطان مَلَكًا.» وفي حالتنا هذه، تنقلب العبودية، بمفعول العادة، إلى حالة طبيعية لكل من نشأ عليها بصفتها وجه الحياة الأوحد.
ثُمّ يتناول الكاتب حال الشعوب التي شبّت على الخنوع والطغيان. ويعتبرهم في البداية مدعاةً للمعذرة والغفران «ما دام لم يسبق لهم أن رأوا ولو ظلاً للحرية ولم يسمعوا بها قط.» ولكنّه سرعان ما يستدرك قوله، مؤكدًا على أنّ فِطرة الحرية قد تدفع بعض الأفراد إلى التفطّن إلى ثقل الأغلال التي تكبّلها. بل إنّ طيفًا أو قادحًا بسيطًا من الحرية، كفيلٌ بأن يُضرم الرغبة في المضيِّ نحوها.
إنّ البحث عن الحريّة، كما يصوره لابويسي، هو نشاطٌ يُعنى بدواخل الإنسان بالأساس. وفي هذا استجابةٌ إلى دعوة سقراط، أين تُعرَف النّفس بالنّفس؛ من خلال خلق قادحٍ مُتمثل في فعل الحوار. فنحن نرى في «محاورة مينون» مثلاً، كيف يطلب سُقراط استدعاء أحد العبيد، لتأكده من كون العبد خاليًا من أيّة معرفة بالعلوم والرياضيات. فيرسم سقراط مربّعًا، ويطلب من العبد أن يعثر على كيفية تحصيل ضِعف هذا المربع. يُخطئ العبد بادئ الأمر في الإجابة. ولكنّ استمراره في الحوار مع سقراط، يُرشده في النهاية إلى تدارك أخطائه والانتهاء إلى الإجابة المطلوبة. ويخلص سُقراط من هذا إلى كون أنّ المعرفة ليست إلا عمليّة تذكُّر لما تحويه النفس بطبعها. وكذلك الحريّة كما رآها لابويسي، إذ متى تعرّض الإنسان إلى قادحٍ ما، تذكّر طبيعة الحريّة التي وُلِد عليها.
1984 وطريق البحث عن الحرّية
إنّه لمثيرٌ للدهشة، ما نلمسه من تقاطعٍ بين طرح لابويسي لمسألة الحرية من جهة، وبين ورودها في رواية 1984 لجورج أورويل، من جهة أخرى؛ أن نتعرّف من خلال بطل الرواية، ونستون سميث، على معالم مُجتمع يقوم على ثلاثة شعارات:
الحرب هي السِّلم.
الحرية هي العبودية.
الجهل هو القوة.
وعلى الرغم من نشوء سميث، على تزاحم الأضداد هذا، فإنّ غريزة الحرية ظلّت تتقد كالجذوة في قلبه. وإن لم تكن له أظفار وأنياب يدافع بها عن حريته، بل قل لم يكن له سابق عهدٍ بحريته ليستردها، فإن مجرد مناجاتها كفكرة وتصوّر، دفعه إلى السعي نحو حقّه الطبيعي. وفي هذا برهانٌ على أنّ قلب القيم من خلال الشعارات لا يؤتي بالضرورة زرعًا. فلا يكفي القول بأن «الحرية هي العبودية» لتتحول الحرية إلى عبودية بالفعل. ونحن نرى على مدار الرواية، كيف مارَس ونستون سميث فعل التذكّر لغاية النبش عن حريته. وكانت الكتابة ،في ذلك، أداة بحثه عن الحرية، فاستردّ بالحبر شيئًا من أطلالها، وتذوّق وجودها من غيابها. ومن هذا ما جاء على لسانه « فكيف يمكن أن يتبنى الحزب شعارًا يقول: الحرية هي العبودية، في حين يكون مفهوم الحرية نفسه قد جرى تدميره؟»
ولئن كان مفهوم الحرية مُغيّبًا أو مُدمّرًا، فإنّ هذا لا يعني بالضرورة فناءَه. ولئن كان القَمع ساعيًا إلى موضعة التطبع مكان الطبع، فإن كثير القمع وشديده، يستدعي الحرية بكونها نقيضًا لكل ما تُمليه سلطة الاستبداد. فحريّة سميث مثلا تتلخص في قوله أنّ «الحرية هي حرية أن تقول إن اثنين واثنين يساويان أربعة. إذا كانت هذه الحرية مضمونة، فكل شيءٍ آخر يأتي من تلقاء نفسه» وإن كانت الحرية حسب زعم السلطة، هي عبودية المحكومين للحاكم أو الأخ الأكبر، فإن حرية سميث هي «أن يموت المرء كارهًا إياهم.. تلك هي الحرية!» وفي عودة إلى لابويسي نجده قد أحسن وصف حال ونستون سميث هنا، حين ذكر في جزء من مقالته، أنّ هؤلاء الحالمين بالحرية على الرغم من تغييبها، هم قادرون على تخيّلها بل والشعور بها وتذوقها، حتى لو اضمحلّت الحرية عن وجه الأرض. بل ولن يستسيغوا طعم العبودية مهما زُيّنت لهم.
ولا يستوي الحديث عن العبودية، بمعزل عن كنه المعبود. بشراّ كان أو نصف إله، يظلُّ مقيمًا في خيال المحكوم قبل إقامته في القصور والقلاع. ويتتبع لابويسي تاريخيًا مسار الدعاية للحُكَّام؛ فيذكر أن ملوك أشور وميديا، كانوا لا يظهرون لرعيتهم إلا لبعضٍ من الوقت. ليثيروا فيهم الشك حول طبيعة وماهيّة هذا الحاكم.
وكان غيرهم يدّعون أنهم أبناء لآلهة، أو ورثة لهم على الأرض. وزعموا قديمًا أن إبهام ملك ايبريا بيروس، كانت تُشفي الأوبئة، وتصنع العجائب، وترّد للعميان البصر. كما أننا نرى، كيف أنّ الأخ الأكبر في رواية 1984 يظلُّ مخفيًا، فلا نكاد نقتفي له أثرًا، بل لسنا في ثقة من كونه موجودًا. وإن دلّ هذا على شيء فهو إقرارٌ صريحٌ بأن الحاكم فكرةٌ بالأساس.
تبني الدعاية صرحًا هائلًا تروم من خلاله إعادة إنتاج الحقائق بالكيفيّة التي تخدمها؛ فلئن كان الإعلام اليوم، بصفته أحد أهمّ أدوات الدعاية، لا يقصُّ على السامعين قصصًا عن إبهام سحريّ تشفي وتلعن، فإنه في المقابل يقصُّ أساطيره الخاصّة من خلال تناوله للحقائق من الزوايا التي تحلو له. ممارسًا بهذا ضربًا من الوصاية على المتقبل، فلا يرى إلا ما قُرِّرَ له سلفًا أن يراه.
وليست دعاية اليوم إلا تطورًا من أسلافها في الأزمن القديمة. وهو تطور يبلغ مدىً، يدعوه ميلان كونديرا بالـ«صورلوجيا» ويأتي على شرحه من خلال هذا المقطع الوارد في رواية الخلود «في باريس، يقضي جاري الذي أسكن وإيّاه في الطابق نفسه في العمارة معظم وقته جالسًا في مكتبه قبالة مستخدم آخر، ثم يعود إلى منزله ويشغّل التلفاز ليطّلع على ما يجري في العالم. ولما يخبره المذيع وهو يعلّق على آخر استطلاع للرأي بأن فرنسا تحتل بالنسبة إلى أغلب الفرنسيين المرتبة الأولى أوروبيًا في مجال الأمن، يطير عقله فرحًا ويفتح زجاجة شمبانيا. لن يعلم أبدًا أن ثلاث سرقات وجريمتي قتل ارتكبت في اليوم نفسه بالشارع الذي يقطنه».
سيكولوجيّة المستبدّ الجريح.
إنّ ما يقبع خلف صرح الدعاية، وما لا تدركه أبصار المحكومين، يكاد يبدو مختلفًا تمامًا عمّا تتداوله الكلمات والصور. فهذا الحاكم المستبد، كما يذكر لابويسي، لا هو بهرقل ولا بشمشون، بل هو « رُجيْلٌ غالبًا ما يكون أجبن الأمّة وأخنثها، لا عهد له بغبار المعارك، بل لا يكاد يتمالك على رمال حلبات المباريات» ويعجب لابويسي من كون أن رجالاً بهذه الخصال، تستميت شعوبٌ بأكملها في خدمتهم، فيقول «أي رذيلة بائسة أن نرى عددًا لا يُحصى من الناس لا يطيعون فحسب بل يخدمون! » وما أشبه هذا بعجب أبي الطيب المتنبي، فهذا كافورٌ «تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ» وهذا الحرُّ مستعبدٌ, وهذا العبدُ معبودٌ.
وهؤلاء الحكام لا يشتركون في شيء، بقدر اقتسامهم لخصال العجز والجبن والريبة، وهم في توجّس دائمٍ ومرَضيّ من كل قريب وبعيد. فهذا نيرون، بعد بطشه وجنونه، يخرُّ نائحًا متى بلغه خبر عزله. وهذا ألبرت سبير، وهو وزيرٌ لهتلر، يحدّثنا في مذكّراته عن قصّة جديرة بالتأمّل؛ فقد سبق وأمر هتلر بتدمير وحرق أوروبا أمام تقدم جيوش الحلفاء، ولكن سبير لم يمتثل لهذا الأمر. وهاهو يروي لنا ما انجرّ عن عصيانه لأمر “الرجل الأقوى في العالم” « فقدتُ السيطرة على نفسي، اعترفت لهتلر بصوتٍ منخفضٍ أنني لم أدمِّرْ شيئاً، بل إنني تجنَّبتُ التدمير بالمطلق، وخلال لحظات اغرورقتْ عينا القائد بالدموع » فكلُّ من نيرون وهتلر هاهنا, كانا أشبه بطفلٍ نزعت عنه لعبته المفضلة. وكلُّ منهما لايهمُّ بالترهيب والقهر إلا لقهرٍ ينخرهما من الداخل.
في مقالة له بعنوان «القساوة سليلة الجبن» يذكر مونتاني أنه قد لاحظ بالتجربة أنّ مرارة وفظاظة القلب الشرير واللاإنساني، عادةً ما تكون مصحوبة بنوع من الضعف والرخاوة. ونراه في هذا متمثّلاً قصة الإسكندر طاغية مدينة فيراي، الذي كان لا يقوى على مشاهدة مسرحيات المآسي خشية أن تراه الرعية متأوّها وباكيًا، بالرغم من تنكيله بعدد كبير من الناس بصفة يومية، ويؤكد مونتاني على أنّ هذه القسوة لطالما ما تكون مصحوبة بذعر شديد؛ إذ يعيش المستبد في هلع دائم من الانتقام، أو من قيام الحرية النائمة في صدور الناس. وكهذا شبيهًا بحال ملك مقدونيا فيليبوس، الذي قرر الاستيلاء على أبناء كلّ من أمر بقتلهم، وذلك للقضاء عليهم كذلك وضمان راحة باله. ولكنّ هذه الراحة تُطلب دون أن تُدرك، لأن نفس طالبها محكوم عليها بالعذاب. ففي كتابه «رسالة إلى فرانكو» يخاطب فرناندو أرَّبال، طاغية آخر فيقول:« أعتقد أنك مُعذَّبٌ بلا حدود، فوحدَهُ الإنسان المقهور، يستطيع فرضَ القهر من حوله».
في كيفيّة صناعة الطغاة.
لئن كان هؤلاء الطغاة، على قدرٍ عظيم من الجبن والوضاعة كما ذكرنا، فمن أين لهم كل هذه القوّة التي يسوسون بها أقوامًا وشعوبًا؟ يجيبُ لابويسي ببساطة: «من الخَدَم!» أي من هذه الجموع البائسة، والشعوب المسكينة التي تواظب على الطاعة بالرغم من بؤسها.
وإن كان لابويسي قد قسّم الحُكام إلى ثلاثة أصناف: صنفٌ يحكم باختيار الشعب، وصنفٌ انتزع المُلك بقوة السلاح، وصنفٌ آخر يحكم بالوراثة. فإن ما يغذّي ويطيل حكم الطغاة من هؤلاء، هو فقط خنوع الشعوب وامتثالها. بل إنّ امتناع الشعب عن طاعة الطاغية كفيلٌ بسقوطه ورؤيته يتهاوى، كأن لم يكن له من قبل شأن.
وانطلاقًا من هذا، يغدو العتاب جديرًا بأن يوجَّه للخادم لا السيد، وذلك لتفريطه في حريّته لحساب نارٍ تزداد اتقادًا كلما هوى فيها مزيدٌ من الحطب. يُقرُّ لابويسي، بأن التنازل عن الحرية لصالح طاغية ما، ليس إلا فاتحة لعديد من التنازلات التي لن تُشبع شرهه. كما يؤكد على أنّ نزوع الشعوب إلى اللذات والشهوات، هو ما يلفُّ القيود بسهولة حول أعناقهم؛ إذ أنّ الطغاة شديدو التفطن إلى هذا، ومنه كان الرومان يقيمون عشرات الولائم العامّة، وذلك لتهتف الجموع بعد شبعها «عاش الملك !» دون أن يدركوا أن في هتافهم هذا ما يدعوا إلى موتهم كي يعيش الملك.
وما أشدُّ ما يتّصل هذا باعترافات أوديب من مسرحية تحمل اسمه لتوفيق الحكيم، إذ يقول: «الشعب لايريحه أن تكون له إرادة.. وهو يوم يراها بيده، يسرع فيعطيها لبطل من نسج أساطيره، أو لإله مدثر بغمام أحلامه، كأنما هو يضيق بحملها، ولا يقوى على الاحتفاظ بها، ويود التخلص منها.» ويذكر لابويسي عدة مظاهر من هذا القبيل؛ كحُزن العامة عند موت الطغاة من حُكّامهم، فتراهم باكين على يوليوس قيصر، مُبطل القوانين ومُلغي الحريات. وباكين على نيرون، الذي ارتكب بحقهم ما ارتكب. ولازال حاضرنا مرددًا لصدى أشباهه من النواح.
يبدو لابويسي قاسيًا بعض الشيء في عتابه على الشعوب. ولكنّ هذه القسوة لا تنبع من كره ولا من احتقار. بل يصحّ أن نصفها بكونها قسوة المحبّ على ذويه، وصرخة المُغتاث من جور الزمن، ويمضي لابويسي في عتابه هذا، معتبرًا أن المُجرم في حقيقة الأمر ليس الطاغية! وإنّما هي الشعوب من تُجرِمُ في حقِّها. فهذا الكائن الذي يخشونه «ليس له سوى عينين ويدين وجسد واحد، ولا يملك شيئًا أكثر مما يملكه أقل واحدٍ منكم» ثم إنّ هذا الطاغية لا يبدو مرعبًا ومُهابًا إلا لما هضمه من أيادٍ وأرجلٍ وعيونٍ وآذان.
يتساءل لابويسي «كيف امتلك [الطاغية] هذه الأيدي التي يضربكم بها لو لم يأخذها منكم؟ والأقدام التي يجوب بها مدنكم من أين جاء بها لو لم تكن هي أقدامكم؟ من أين له بالعيون الكثيرة التي تراقبكم لولا أنكم أعطيتموه إياها» وإن كان الشعار القائل بأنّ «الأخ الأكبر يراقبنا» متكررًا بشدة في رواية أورويل، فما هذا إلا تأكيد على أن الأخ الأكبر يراقبنا بأعيننا! بتلك الأعين التي منحناه إيّاها.
في ضرورة العودة إلى إتيان دو لابويسي
«في الثامن عشر من شهر آب/أغسطس عام 1563 لفظ إتيان دو لابويَسي أنفاسه الأخيرة ولم يبلغ من العمر سوى 23 سنة و9 أشهرو17 يوماً» رحيلٌ يؤرّخه مونتاني بلوعة كبيرة، ومرارةٍ أكبر، ولكنّ العزاء هنا يظلُّ مقترنًا بما تركه لابويسي من أثر يتيم. مقالةٌ يصفها مونتاني بكونها «رسالةً كريمة الأفكار، كاملة المعاني، ومع ذلك فهي لا تبلغ أبدًا شأن أجود كتاباته.»
بعد خمسة قرونٍ من تاريخ كتابة هذه المقالة، تظلُّ الحاجة إلى استدعائها مُلحّة للغاية، فهي وعلى الرغم من ظهورها في ظرفية زمنيّة خاصّة، ومرورها بدائرة تأويلات مختلفة وتوظيفات شتّى، إلا أنّها ما تنفكّ تحدثّنا بصوت الزمن الذي نقرؤها فيه؛ إذ أنّ خطاب الحرية يتجاوز بطبعه كل خصوصية ضيّقة. وبهذا تكون مقالة العبودية المُختارة، بمثابة ذلك القادح الذي دائمًا ما يُحيلنا إلى ما تنطوي عليه أنفسنا، إلى ضرورة التذكّر قبل الخضوع.