لماذا لم تنتقل عدوى الربيع العربي لفلسطين؟

يعايش الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة وباقي الأراضي المحتلة نفس المظالم ومشاكل الفساد والافتقار إلى الثقة في النخبة الحاكمة، وانهيار الخدمات الأساسية التي كانت تدفع بالآلاف من المواطنين للخروج إلى شوارع لبنان والعراق. ورغم هذا فإن الفلسطينيين ما زالوا غير قادرين أو غير راغبين في تجنيد الناس ضد قادتهم بشكل مستدام.ما هو سبب غياب مثل هذه الاحتجاجات عن الفلسطينيين وسياستهم؟ وهل هي مسألة وقت فقط كما تنبأ الصحفي هاني المصري مؤخراً ..حتى تصل موجة الربيع العربي المقبلة إلى فلسطين؟ وإلى ماذا يشير غياب مثل هذه الاحتجاجات عن فلسطين؟

إنّه الاحتلال، بكل سذاجة!

بالرغم من أن الفلسطينيين قد يؤمنون بكون قادتهم فاسدين وغير أكفاء، فإن التخلص منهم لم يكن على قمة أولوياتهم قط. ولكن المثير للاهتمام رغم ذلك، ان الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ديسمبر 1987 كانت في الواقع ثورة ضد الاحتلال وضد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي لم تكن تتحرك وقتها من الأراضي الفلسطينية بل من المنفى، وكان لزاماً عليها أن تلعب دوراً مهماً في محاولة استعادة السيطرة على الأحداث على أرض الواقع. لكن التركيز الرئيسي، بين النخبة الحاكمة بمساوئها ومحاسنها، وعامة الناس على حد سواء، هو إنهاء الاحتلال، وليس إنهاء أنظمتهم الحاكمة للبلاد. على الأقل حتى الآن. هذا الوضع لم يعد مضموناً نظراً لتدني شعبية الرئيس محمود عباس على نحو متزايد، لكن لغاية اللحظة، كان الاستقلال الفلسطيني العامل الوحيد الأكثر إلحاحاً الذي يقود التكتيكات والاستراتيجيات الفلسطينية حيث يواجه الفلسطينيين تحدياً فريداً من نوعه، لأنهم لا يريدون بناء مؤسسات الحكم الذاتي والفوز بحق تقرير المصير لتأسيس دولتهم فحسب! بل يتعين عليهم أيضاً أن يديرون ذلك في ظل القيود الصارمة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي. وهناك حالات قليلة إن وجدت، في التاريخ الحديث بالنسبة لأي شعب يراهن على مجازفة هذا النوع من المواقف وبناء مؤسسات الدولة، ناهيك عن تأسيس الدولة نفسها بنجاح.

وعلى الرغم من الاستياء إزاء الافتقار إلى التمثيل والفساد وسوء الإدارة الاقتصادية وحقوق الإنسان، إلا ان تركيز الطاقة الفلسطينية كان ينصب على الاحتلال الإسرائيلي. وكما قال هاني المصري:

إن الحاكم الفعلي لفلسطين هو الكيان المحتل، الذي يهاجم فلسطين في تاريخها وحاضرها ومستقبلها.

وهذا يتبع ضمنياً تجاوزات القادة الفلسطينيين لأعباء الاحتلال ويسمح للنخبة الحاكمة الفلسطينية بتشتيت الانتباه بعيدا عن عيوبها وأخطاءها. بالإضافة إلى ذلك، إن التركيز عليى التغيير والإصلاح الداخلي للمنظومة الفلسطينية، ناهيك عن الإطاحة بالحكومات، الذي من شأنه أن يحمل في طياته مجازفة حقيقية للغاية تتلخص في ما أطلق عليه ديفيد بولوك من معهد واشنطن وصف “الصراع داخل الداخل/ الانترافادا”: الصراع الداخلي بين الفصائل الفلسطينية الذي قد لا يصرف الانتباه لجهود بعيدة عن تحقيق فكرة الاستقلال فحسب، بل يمكن أن يقسم أيضًا الحركة الوطنية الفلسطينية المفتتة أصلًا لوقوف بصف مصلحة خصومها.

مجتمع مقسّم جغرافيًا وسياسيًا

في الواقع، إن احتمالات نشوء حركة قد تتحدى القيادة الفلسطينية الحالية أو تسعى إلى الإصلاح من أجل حكم أكثر فعالية وتمثيلاً أصبحت أشد صعوبة، خصوصًا بعد سيطرة حماس على غزة في عام 2007 وما أعقب ذلك من الصراع المرير بين فتح وحماس. عدا عن أن منظمة التحرير الفلسطينية ـ التجسيد التنظيمي للقومية الفلسطينية ـ تبدو مفتتة إلى حد باعث على اليأس، إذ أصبح الأمر وكأنه أشبه بسفينة نوح حيث يبدو أن كل شيء يشتمل على اثنتين: الدويلات، والخدمات الأمنية، والهياكل الحاكمة، والدساتير، والرؤى الخاصة بمكان ونوع الدولة السياسية التي يتعين على فلسطين أن تكون عليها.

إعلان

وبعد عام 2007، أصبح الفصل الجغرافي بين الضفة الغربية وغزة صدعاً سياسياً عميقاً أيضا. وقد أدى ذلك إلى تقويض أي استراتيجية فلسطينية وطنية متماسكة وموحدة. وكانت الانتخابات للبرلمان الفلسطيني والرئيس الفلسطيني (التي أجريت في عام 2006 و 2005 على التوالي) هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها ان تضفي الشرعية على القادة والاستراتيجية بغض النظر عنها.

ولكن الانتخابات كانت رهينة لمنافسة مكثفة بين حركتي فتح وحماس، واللتين فشلتا جهود متعددة في تحقيق الوحدة الوطنية، وما زال علينا أن نرى ما إذا كان التقرير الذي صدر مؤخراً عن فتح وحماس واتفقا فيه على عقد انتخابات تشريعية ورئاسية في فبراير/شباط 2020 أكثر مصداقية من الوعود السابقة على مر السنين. من جهة أخرى، ربما شكل كلً من فتح وحماس حالة انقسام مُرّة، ولكنهما مثل كل الصحوات العربية في أجزاء أخرى من المنطقة، قد يتوحدان من أجل فكرة واحدة هي القمع من أجل الحفاظ على السلطة. وإلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، كان العامل الآخر البارز الذي حدّ من الاحتجاجات الجماهيرية هو التواجد الاستبدادي للسلطة الفلسطينية وحماس تحت سيطرة فتح، فضلاً عن التصميم على منع التعبئة الشعبية الموجهة ضدها. إن الوجود الفعلي لقوات الأمن هذه ـ التي لم تكن حاضرة أثناء الانتفاضة الأولى ـ وسلطتها في مواجهة المحتجين على مستوى القاعدة الشعبية، كان يشكل تحدياً في غاية الصعوبة لسلطتها، نستذكر مثلًا الطريقة الوحشية التي قمعت بها حماس الاحتجاجات في غزة في الربيع الماضي.

وبما أن فتح تلوم حماس، وحماس تلوم فتح بخصوص موضوع التحريض على الشغب، فقد وُضِع المتظاهرون في موقف محفوف بالمخاطر لا يمكنهم الدفاع عنه في خروجهم وكأنهم يقفون لدعم جانب دون آخر، وهذا ما جعلهم عرضة لإتهامات العنصرية، وتقويض الرغبة الشعبية الدائمة لدى الجمهور في تحقيق الوحدة الفلسطينية.

الفلسطينيون يتعلمون من تجارب غيرهم

ماذا عن المستقبل؟ بعد مرور تسعة أعوام منذ الربيع العربي، لم تسفر الاضطرابات والتحولات التي اجتاحت العالم العربي منذ أن أضرم بائع الفاكهة التونسي النار في نفسه حتى الآن عن أية أعراض مشجعّة قد تثير حفيظة الغضب الفلسطيني، إضافة لأن التركيز على الاحتلال الإسرائيلي والوجود القمعي والمسيطر لحماس والسلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح قد أثبتا أنهما مقيّدان بشدة لإرادة الشعب.

أضف إلى ذلك التجربة الفلسطينية في الانتفاضات والمواجهات، لا سيما الانتفاضة الثانية، التي تسببت في دمار وموت هائلين، أصبح من المفهوم أن يتردد الفلسطينيون في الشروع في رحلة أخرى غير معروفة، خاصة رحلة لا تبشر بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولا بتحسن ملموس في حياتهم اليومية.

وإذا نظرنا إلى ما جلبه الربيع العربي في سوريا وليبيا واليمن ومصر، قد نشفع للفلسطينين عدم رغبتهم في إقامة ثورة في ساحتهم الصغيرة. وكما كتب المؤرخ تاكتس في القرن الأول: “إن أفضل يوم بعد وفاة إمبراطور رديء هو اليوم الأول دائما”، وهذا ما استجمت به الربيع العربي في وهلة ومن ثم خرج في مسار مأساوي.

على أية حال، لا يمكننا أن نتنبأ بما قد تحمله السياسة والحياة، إن تدهور الأوضاع الاقتصادية، لا سيما في غزة التي تبلغ نسبة البطالة فيها نحو 47 في المائة؛ وترهقها سياسة قمعية فاسدة؛ وبالطبع يقف لها الاحتلال الإسرائيلي بالمرصاد قد يخلق نوعًا من اليأس عنوانه “لا نملك شيئًا لنخسره” وينتج انفجارًا ما.

ولكن من المرجح إن حصل هذا، أن يأتي في هيئة انتفاضة ثالثة ضد الاحتلال الاسرائيلي (الذي لا يُعتبر تحت التهديد الآن)، وليس كربيع فلسطيني ضد الزعماء والقادة، بصرف النظر عن مدى الخلل الوظيفي الذي يعاني منه الحكم في البلاد مع أن أي انتفاضة من هذا القبيل لن تكون سوا خسارة جديدة للثقة في الزعماء الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الذي يعد المحور الرئيسي لهذه الانتفاضة. وهناك سبب بسيط وراء هذا، يرادف تمامًا ما قاله لي رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات في لحظة نادرة من الصراحة: “لا ينبغي لك أن تنتظر الثورات في فلسطين، إن الفلسطينيين سوف يكونوا اكثر غضبا دائما تجاه الاسرائيليين مهما كان ما قد يحملونه من غضب تجاهي” ولغاية اللحظة، كان الرئيس عرفات محقاً في قوله.

نرشح لك: لماذا خرج اليسار من ثورات الربيع العربي أكثر ضعفًا؟

إعلان

مصدر
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أفنان أبو يحيى

ترجمة: عبدالرحمن الحلو

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا