بم وصّى “عبد الرحمن الكواكبي” الشباب العربي؟
“في زيارتي مصر ثانية أجبت تكليف بعض الشبيبة، فوسَّعت تلك المباحث خصوصًا في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد، ونشرت ذلك في كتاب سميته: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيمن نواصيهم. ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب”. عبد الرحمن الكواكبي
عقد غالبية الشباب العربي آمالًا عريضة على ثورات الربيع العربي التي كانوا أحد مفجريها لتغيير واقعهم السياسي والاجتماعي من التهميش إلى التَّمكين، ومن التردي إلى التَّحسن، ولكن انتهى بهم المطاف ما بين القتل والسجن والتشريد والانضمام إلى جماعات إرهابية ومن بقى منهم حيًا أو طليقًا انسحب من المشهد وانكفأ على ذاته، مع بعض المحاولات والجهود الحكوميَّة لاحتواء هذه الأزمة المُتفاقمة من خلال برامج وطنية للتَّأهيل وبناء القدرات وإعداد الكوادر.
والحديث عن الشباب ودورهم وتأثيرهم حديث قديم جديد، لِمَ لا وهم يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل، وانقسم الرأي ما بين مؤيدٍ لهم وداعم لمنحهم الفرص وتقديمهم على الشيوخ، وما بين لائمٍ لهم مُتَّحفِظ على قدراتهم ومهاراتهم وافتقادهم المعارف والخبرات اللازمة لتبوء مراتب القيادة.
ويعدُّ كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للمفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي من أقدم وأشهر الكتب التي تناولت موضوع الاستبداد، وبعد أن أسهب الكواكبي في تشخيص داء الاستبداد العضال الذي تعاني منه الأمة وأسبابه وأعراضه، وعلاقته بكل من الدين، والعلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والترقي، والتربية، والعمران. وصف الكواكبي الدواء وعوّل كثيرًا على الشباب باعتبارهم الأمل في صنع التغيير والقضاء على الاستبداد.
وجه الكواكبي حديثه في نهاية كتابه إلى الشباب قائلًا: “إنَّ الأمم الميتة لا يندر فيها ذو الشهامة، إنَّما الأسف أن يندر فيها من يهتدي في أول نشأته إلى الطريق الذي به يحصل على المكانة التي تمكنه في مستقبله من نفوذ رأيه في قومه. وإنّي أُنبِّه فكر الناشئة العزيزة أن من يرى منهم في نفسه استعدادًا للمجد الحقيقي فليحرص على الوصايا الآتية البيان”.
احرص على العلم النافع
أفرد عبد الرحمن الكواكبي في كتابه مبحثًا خاصًا للعلاقة بين الاستبداد والعلم فيقول: “ولا يخفى على المستبد مهما كان غبيًا أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيرًا لكان خفاشًا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشًا لكان ابن آوي يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله”.
وشدد الكواكبي في بداية وصاياه على ضرورة أن يجهد النشء نفسه في الارتقاء بمعارفه انطلاقًا من أن العلم عدو الاستبداد، ولأنه يقطع الطريق على المستبد في استغلال الجهل والأمية للسيطرة على الأمة، وأشار الكواكبي إلى ضرورة التنويع في تلقي العلم والمعرفة وعدم الاكتفاء بما يتلقاه المرء في مراحل تعليمه النظامي فقط، ولكن أيضًا من خلال القراءة والاطلاع المدقق والمنتقى بعناية.
تمسك بهويتك
مقاومة الاستبداد لا تعني الانسلاخ من الهوية القومية، والتنكر للعادات والتقاليد والقيم الوطنية والارتماء في أحضان الأغيار أو استيراد نماذج جاهزة معلبة لا تراعي الأبعاد الثقافية والاجتماعية لأمتنا العربية الاسلامية، ولكن التمسك بثوابت الأمة من العادات والتقاليد هو السبيل للتقرب من الشعب، وكسب وده، ومن ثم التَّأثير فيه، وحسن سياسته.
احذر ضريبة العلاقات المفروضة
دعا عبد الرحمن الكواكبي الشباب إلى تقنين علاقاته بأقرانه، ورفقائه حفظًا للوقار، ودرءًا للشبهات، ودفعًا لصحبة السوء، وحتى لا يجد المرء نفسه مضطرًا لسداد فواتير أخطاء غيره نتيجة علاقات فرضت عليه بحكم الدراسة أو المعارف أو العمل فالمرء على دين خليله.
تعلم متى تكتم علمك ومتى تظهره
فرق الكواكبي في وصيته الخاصة بإظهار علم المرء بين ما هم دونه وبين ما هم فوقه، فالمبالغة في استعراض العلم والتَّظاهر به مع من هم دون المرء قد يعرضه للحقد والحسد، في حين أنَّه حث المرء على إظهاره لمن هم فوقه بدرجات كثيرة ليكسب ثقتهم وينال احترامهم وتقديرهم.
اقترب بحذر من دوائر صنع القرار
حتي يؤثر الشباب في قطاعات واسعة من الجمهور عليه أن يقترب بحذر من دوائر صنع القرار – ما أسماه الكواكبي الطبقة العليا- لأنَّه لا مناص من الحاجة إليهم في قضاء بعض حوائج الناس واشترط الكواكبي تقنين هذه العلاقة بحيث يقترب دون ذوبان فيهم.
تعقل في إبداء آرائك
فالمعروف عن مرحلة الشباب الحماس والاندفاع في إعلان الآراء، ولكنها أيضًا مرحلة تشكيل القناعات، وبناء الشخصية، وكم من شخصية تاريخية مرت في شبابها بحالات من التَّحول الفكري وتغيير القناعات لذلك ينبغي التروي في إعلان الآراء، والمرونة في إبداء المواقف، والانفتاح على الآخر، وقبول الاختلاف.
الأخلاق لا تتجزأ
يعتقد البعض أنَّ مواجهة الاستبداد بما يحمله من كبت للحريات، ومصادرة للحقوق تعني الثورة على القيم والتحلل من المُثل، ويفصلون بين ما يمارسه المرء في حياته الشخصيَّة وبين ما يتبناه من مواقف سياسية، ولكن الكواكبي يدعو الشباب إلى التحلي بمكارم الأخلاق ولا سيما الصدق والأمانة والثبات على المبادئ.
اشتبك مع قضايا دينك ووطنك
دعا عبد الرحمن الكواكبي الشباب والنشء إلى التماس مع قضايا الوطن والانخراط في الدفاع عن قضايا المهمشين من بني جلدته، وعدم الانفصال عن حال الوطن وهموم المواطن وتبني أجندة أولويات وطنية، وأن يظهر الغيرة على الدين وأن يثور إذا مسَّ أحد مقدسات دينه.
احذر معاونة المستبدين
اختتم الكواكبي وصاياه للشباب بضرورة الحذر أثناء مسيرة تكوينه ونشأته السياسية من مقاربة المستبدين وأعوانهم حتى لا ينخرط معهم ويصبح واحدًا منهم يزود عنهم، ويتبنى رؤاهم وينكص على مبادئه وما ينادي به، وحتى لا تستمر عجلة الاستبداد في الدوران دون توقف.
وأخيرًا عزيزي القارئ تبقى وصايا عبد الرحمن الكواكبي وليدة عصره وظروفه السياسية والاجتماعية، ولكن ذلك لا يمنع أنها قابلة للطرح والمناقشة والإفادة منها، وعلينا مواصلة الحديث والبحث عن آليات مجتمعية ومؤسسية لاحتواء فكر الشباب، وتوظيف قدراته ليتحول إلى طاقة بناء لأوطاننا لا معول هدم للمستقبل.