صوروية الرياضيات

“إنّ الرياضيات هي الحظّ السعيد للعقل البشري”إيمانويل كانط

وراء التعريفات، ووراء الرموز، ووراء المعطيات، وماذا يعني هذا الشيء، وماذا نقصد بهذا المصطلح، وكيفية ربط هذا المفهوم بذلك المفهوم، وكيف نشكل هذا المعنى في الحياة، إن كان له معنى! هنا يكمن معنى العلم بالأمور التي تعرضها العلوم الطبيعية، وتراوغ الرياضيات وحدها في ذلك بسبب تجريدها، أو بسبب الصورية أو الشكلية Formalism التي تمتلكها!

لكن كلما أوغلت الرياضيات في الشكلية كلما فردت عضلاتها أكثر.

كيف ذلك؟

الرياضيات الحديثة هي دراسة صورية formal study للبُنى والتي يمكن تعريفها بطريقة مجرّدة بحتة، دون أيّ زيادة إنسانية؛ فكّر في الرموز الرياضية على أنها مجرّد تسميات دون معنى جوهري، لا يهمّ إذ تكتب “اثنين زائد اثنين يساوي أربعة”، أو”2 + 2 = 4” أو “dos mas dos igual a cuatro”.

الترميز  notation يُستخدم للدلالة على الكيانات والعلاقات، لكنه غير متّصل بالموضوع؛ فالخصائص الوحيدة للأعداد الصحيحة هي تلك التي تتجسد في العلاقات بينها.

أو كما يقول رولان أومينس:

إعلان

“صوروية الرياضيات تجعلها أكثر من كونها حدسية، ليس ما يعنينا في الرياضيات هو طبيعة الأشياء، بل العلاقات التي توجد بينها”.

فالرياضيات هي دراسة مجرّدة للصّور والتراكيب من خلال العلاقات بين تلك الصور والتراكيب في العالم العياني.

لكن ما هي طبيعة الرياضيات؟

الرياضيات في ذاتها لا تحمل أي معنى، وإنما يوجد المعنى في العلم الذي يستخدم الرياضيات كأداة ولغة للتعبير عنه.

فالكيانات الرياضيات بسبب الاختزالية التي في الرياضيات تصبح مجرد رموز متحررة من أيّ واقع عياني، وهذا التجرد يحيلنا لآراء أفلاطون عن عالم المُثل، حيث تعتبر كيانات الرياضيات ضمن ذاك العالم.

وهناك وجهتا نظر عن الكيانات الرياضية التي تعتبر مهمة في هذا السياق.

وجهة النظر الأولى:

تكون ككيانات “أفلاطونية”Platonic، هذا يعني أنّ الكيانات الرياضية، خلافًا لجميع الكيانات الأخرى التي نواجهها، ليست مصنوعة من المادة، هي لا توجد في الفضاء أو الزمن، ولا تتغير، ولا يمكن أن تنشأ أو تُدمّر، ولم يكن ممكنًا أن تفشل في الوجود.

وفقًا للفهم الأفلاطوني، فالكيانات الرياضية موجودة في “عالم ثالث” متميزة عن عالم المادة، من ناحية، وعن عالَم الكيانات العقلية، مثل الأفكار والتصورات والمشاعر، من جهة أخرى.

وجهة النظر الثانية:

يمكننا أن نفهم الكيانات الرياضية ككيانات عقلية في الطبيعة، هي من نفس النوع والأشياء الأخرى التي تمرّ عبر أذهاننا: مثل النيّات والخطط والمفاهيم والأفكار، فهي ليست ذاتية بالكامل، وغيرنا يمكن أن يكون لهم نفس الكيانات الرياضية في عقولهم كما في عقولنا، لذلك عندما نتحدّث كلانا (نحن وغيرنا) عن نظرية فيثاغورث، فنحن نتحدث عن الشيء نفسه، رغم أنّ ذلك الشيء الرياضي غير موجود إلا في الأذهان التي تتحدّث عنه.

يقول ماكس تجمارك Max Tegmark – من معهد ماساشوستس Massachusetts التكنولوجي- “جسيم الاثنا عشري dodecahedron ما كان أبدًا موجودًا، ولكي يوجد، لا بدّ أنّ شيئًا في البدء لم يكن موجودًا في المكان أَو الزمن وبعد ذلك يوجد”.

جسيم الاثنا عشري غير موجود في المكان أَو الزمن مطلقًا، بل يوجد بشكل مستقلّ عنهما.

ويضيف قائلًا: “المكان والزمن نفسيهما محتوان ضمن تراكيب رياضية أكبر”.  هذه التراكيب فقط موجودة؛ ولا يمكنها الإيجاد أو التدمير.

الكون الموصوف بالرياضيات

ما سبق يثير سؤالًا كبيرًا: لماذا الكون موصوف فقط ببعض الرياضيات المتاحة؟

يقول الفيزيائي براين جرين Brian Greene- من جامعةِ كولومبيا، نيويورك-

” هناك الكثير من الرياضيات الموجودة، لكنّ جزءًا صغيرًا جدًا منها يُدرك في العالم المادي. اسحب أي كتاب رياضيات من الرفّ، فلا تقابل أغلب المعادلات فيه أيّ جسم مادي أو عملية مادية”.

صحيح أنّ الرياضيات غامضة وغير طبيعية على ما يبدو، لكن أحيانًا تتحول للتوافق مع العالم الحقيقي؛ فالأعداد التخيلية Imaginary numbers- على سبيل المثال- اعتُبرت ذات يوم تمامًا مستحقّة اسمها، لكنها الآن تُستعمل لوصف سلوك الجسيمات الأولية؛ وكذلك ظهرت الهندسة اللاإقليدية في النهاية كجاذبية.

رغم ذلك، تمثل هذه الظواهر شريحة صغيرة جدًا لكل الرياضيات،  يقول ماكس تجمارك:

“أعتقد بأنّ الوجود المادي والوجود الرياضي هما نفسهما، فأي تركيب يوجد رياضيًا هو حقيقي أيضًا”.

لكن ماذا عن رياضيات كوننا التي لا نستعملها؟

يجيب تجمارك: “التراكيب الرياضية الأخرى تقابل أكوانًا أخرى”.

تجمارك يسميها “كون متعدّد رابع المستوى level 4 multiverse”، وهي فكرة أكثر غرابة من الأكوان المتعددة multiverses التي يناقشها علماء الكونيات cosmologists في أغلب الأحيان؛ فالأكوان المتعددة المشاعة لهم محكومة بنفس القواعد الرياضية الأساسية التي تحكم كوننا، لكن كون تجمارك المتعدد رابع المستوى يعمل برياضيات مختلفة جدًا، كلّ هذا يبدو غريبًا، ولكن الفرضية القائلة بأن الواقع المادي هو رياضي بشكل أساسي قد اجتازت كل اختبار.

يقول تجمارك: “إذا كانت الفيزياء تضع حاجزًا عند النقطة التي تشير إلى أنه من المستحيل المضيّ قُدُمًا في ذلك فمن المحتمل أن نجد أنّ الطبيعة لا يمكن أن نعبّر عنها رياضيًا! لكن من الرائع حقًّا أنّ ذلك لم يحدث، فقبل 400 عام قال جاليليو: إنّ كتاب الطبيعة كُتب بلغة الرياضيات”.

إذا لم يكن الواقع – في العمق- رياضيات، فما هو إذَن؟

فنحن لو بحثنا أعمق بما فيه الكفاية، سنجد تلك الأجسام المادية، مثل الطاولات والكراسي.. في النهاية ليست مصنوعة من الجزيئات أو الأوتار، لكن من الأعداد!

***

المراجع:

الخولي، يمنى طريف . فلسفة العلم في القرن العشرين، العدد 264(الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، ديسمبر 2000).

أومينس، رولان. فلسفة الكوانتم ، ترجمة : د.أحمد فؤاد باشا و د.يمنى طريف الخولي ، العدد 350(الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، إبريل 2008).

" Everything in the Universe Is Made of Math – Including You", 4-11-2013 (http://discovermagazine.com/2013/dec/13-math-made-flesh) , accessed (01-12- 2013).

"What is reality?" , 26-9-2012 (https://www.newscientist.com/round-up/reality) , accessed (01-10- 2012).

 

إعلان

اترك تعليقا