شاهد القبر الأخير
“لليمين قليلًا.. الآن للشمال.. ليس هكذا!” قال جملته الأخيرة بافتعال زائد إلى الحفّار مقطب الجبين. كان يومًا شديد الحرارة، انثال خيط من العرق الساخن على صدر الأخير، برز خط مؤخرته رغم سرواله، استكان قليلًا يمسح عرقه الذي انداح فوق جبهته؛ بينما قام الباشمهندس من رقدته على الكرسي المقابل، ثم جلس على عقبيه وسهم يتأمل الشواهد عن بعد.
“ستضطرني لإعادة العمل من جديد.” قالها غير عابئ بالحفّار الذي رمقه بطرف عين. الشواهد كانت قد تراصت على المرجة الخضراء، الصلبان تنصع من البياض، نظر تابعًا الحفار إلى الأشعة التي غمرت الرقعة المتباينة في الضوء، وبدأ يصفر بلحن جنوبي.
******************
أربعون شاهدًا لأربعين من المحاربين القدامى، تصل إليهم عن طريق صفين من البلاط المرصوف، الرقعة تسع عرضيًّا أحد عشر محاربًا بالكاد لو أنهم رقدوا دون مسافات بينهم، لكن الرقدة اتسعت لثمانية. والرقعة تسع خمسة صفوف، نظر بينهم الحفار تائهًا إلى الضوء الساقط، ثم أغمد رفشه في الأرض بقوة.
**************
يمر على الشواهد الواحد تلو الآخر، تمنى لو عرف قراءة الأسماء المطموسة بالحجر. يتوقف قليلًا عند كل شاهد على حدة، بقعة الضوء تغطي نحو بلاطتين متجاورتين في منتصف الطرقة، ينظر لها عن كثب، بينما تتحرك وتغازل الأخريات. بالمسطرين أزال التراب ورجرجه، ثم نصب الشاهد، ودكّ بمرقده النجيل، وأقرأها السلام.
” شاي؟” جلب وابور السبرتو ثم نفث عنه بحدة، وغادره إلى شنطة بها سكر وشاي، وضع لنفسه، كما وضع بتمامه إلى الباشمهندس الذي رن هاتفه، هم أن يرد، لكنه استكان، كما تقول أمه بعد جلسة جمعته بأخواله وأقاربه أفضت باستقامة حاله المائل. يشرد قليلًا ثم ينظر إلى بقعة العرق المرتكنة إلى ظهر ياسين الحفار، ثم يزعق “ليس أمامنا النهار بطوله.”
****************
ممسكًا الرفش تحت إبطه عبر المزلقان المؤدي إلى البقعة الخضراء، وشكارةً بها أدواته المساعدة، هذا ما يتطلبه العمل كما قال زميله، عبره بالسابق آلاف المرات مع ابنته وهي ترافقه بصغرها ببيع المناديل على الأرصفة. عبر بخفة إلى الجهة الأخرى، وجد الصلبان نائمة على المرج، أمسك بقطعة قماش مررها من تحت شاهد شاهد، ثم شدها إليه حتى انتصب الشاهد الأول على حيله. وقف يرمق حوافها، كانت من الجير الأبيض، أي خدش قد يظهر بها. ثقيل جدًا الشاهد بالنسبة لميت، لكنه قام في الأخير .تركه وانصرف للذي بعده.
*************************
كلها إلا واحدًا، احتضن الشاهد الأخير بنحو اتسخت معه ثيابه بالجير، كلها أصبحت على ميل واحد تتراءى للناظر من بعيد، إلا آخر شاهد ند عنها بدا شاذًّا، لم يرض أن ينصرف إلى أقرانه، كان موقعه إلى منتصف الرقعة الخضراء. ياسين منهك بعد انقضاء النهار ولم ينتهِ بعد، أحس بأن الموتى تضحك عليه من قبورهم. الباشمهندس تكلم عن ابنته نادية، وكيف أنها كبرت ولفت واستدرات وصارت عروسًا. تذكر ياسين كيف شد على يده بزيارته الخاطفة له. انتصب الشاهد أخيرًا. مسح ياسين جبهته بظهر يده وأخذ ينظر إلى الصليب، أراد نادية وقتها أن تقرأ له الاسم المكتوب على القاعدة الرخامية، ثم تابع بقعة الضوء على المرجة.
هذه القصة مقتبسة من مجموعتي القصصية شيء ما يحدث في هذه المدينة