الجزء الأول من سلسلة “شذرات عن النقد الأدبي”
(رسائل للقارئ العادي)
أ. استهلالية ضرورية:
كيف نُكوّن فكرنا حول قصة، رواية، فيلم، لوحة، نص شعري أو نثري أو نص مكتوب في العموم؟ على ما أعتقد يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال قبل أن نضمر الإعجاب أو الكره، قبل الهمز و اللمز (إقامة الأحكام المسبقة) عن وجوب تغيير أو إضافة هذا وذاك للنص الموجود أمام القارئ، أي أمامنا جميعا بموجب أننا كلنا قراء، كإحالة لفهم أي نوع من أنواع الفنون السابق ذكرها أعلاه. لكن هل أقول هذا لأبدأ فيما بعد بسرد فرمانات القوانين الإلهية لفهم النصوص المكتوبة والفنون الريشية؟ بالطبع لا. ذلك لأن ليست هناك أية قوانين لفهم و “نقد” و “تأويل” هذه الأنواع من المنتجات الحبرية، بل وجب القول بأن هناك –خيط من المنطق- تفهم من خلاله تلك النصوص تباعا، وفي نفس الوقت لا تتساوى أمامه جميعا، أي أن لكل منها مفهومه الخاص من خصائص وعوامل وعناصر وأهداف متباينة تباين الخلق.
على سبيل المثال: لدينا الأدب الواقعي الفلسفي “المحفوظي” و أدب الخيال والترفيه للكاتب أحمد مراد– كما تبين أمامنا أن لكل واحد من تلك الآداب مسمى ومدرسة ينتمي إليها أي نوع معين يتسم به هذا الأدب ولا يلفظ إلا من خلاله، وعلى ما أعتقد أنه لا يجب أن يتم نقد أدب ترفيهي على أسس أدب واقعي يرمي إلى نشر رسالة إنسانية وتعميق فهم القارئ لما حوله، وبذر بذور فكر جديد من خلال وجهة نظر مستحدثة لما سبق الكتابة عنه وما إلى ذلك، بل إن الأدب الترفيهي وما على شاكلته من نصوص أرى أنها تنتهي عند حدود نهاية النص، بالطبع أنا لا أجزم أن كل هذه النصوص متشابهة في المرمى، بل أدب الخيال كثيرا ما يستخدم كطريق مجدد لإيصال أفكار لا تصل إلا بشكل معين ومطيع من خلال تلك الأدوات، ولكن على القارئ العادي والناقد أن يبدأ في التفرقة بين هذا وذاك، فقط كي يقيم تقييما موضوعيا بشكل كافي.
غير أني لا أحسب قولي هذا يفهم على أساسه أن النص الأدبي لا يحمل إلا نوعا واحدا فقط بل العكس تماما، حتى أنه يمكن للكاتب أن يفعل ما بداله كي يطور من أساليب كتاباته وإضافة ما يتراءى له من أدوات تعمق من فكره وتوصله بالشكل الأفضل، بالمختصر كما يقول المثل الشعبي: “أعطي الخبيز لخبازه”.
مبتعدين عن الشوفينية الخاصة بكل منا التي تسمح لنا بإطلاق الأحكام المسبقة الانطباعية على كل ما نراه من نصوص وفنون مختلفة، وممسكين بخيط الموضوعية الذي تحدثنا عنه، بذلك يمكن للقارئ (لأن هذه السلسلة موجهة للقراء العاديين قبل القارئ الناقد) أن يبدأ في الفصل بين وبين، وذلك لإيماني بنافع فهم الأدب بالشكل المطلوب أي الموضوعي، بلا استجابات لمظلات أيديولوجية ولا فلسفات مطلقة بحتة، ولا مدارس تطغى على شفافية الموضوعية حيث تبتعد عن النقد العلمي الحديث، الذي يراد به إيصال النص بشكل تفصيلي عميق يخرج منه القارئ متفهما لتلابيبه لا حاكما على آرائه بشكل سطحي، ولكن لماذا يا ترى كل هذا الكلام المفلطح؟
على ما أعتقد لأني أنا بنفسي أؤمن بقدرات فعل الكتابة وإقامة النص على التغيير من خلال أنواع الأدب خاصة، حيث يعتبر نوع خاص من النقد المجتمعي والفهم العميق لتحولاته وتغيراته وطبقاته، التي تختبئ تحتها الحقائق النفسية والمادية والعلمية وما إلخ. كل هذا يجب أن يتم استيعابه من خلال أدب حصيف رصين. ومن خلال معرفة الأدوات التي تستخدم في صنع المادة الأدبية، حتى يخول للقراء أن يفندوا النص المكتوب بشكل تكنيكي.
ب. توضيح في صلب الموضوع:
هذه المقالة ستكون أولى المقالات في سلسلة باسم “شذرات عن النقد الأدبي” الموجهة خصيصا للقارئ العادي المحب للأدب بكافة أشكاله، وذلك لأهمية تلك النسبة من القراء، بيد أن أهميتهم تتأتى في عددهم وبذلك صنعهم لاتخاذ قرار الشراء وصناعة ظاهرة “الأفضل والأكثر مبيعا”، ولذلك وجب على من استوعب وتوصل لما يمكن أن يحمله الأدب من أهمية فكرية واجتماعية في فعل الحراك الاجتماعي أن ينقل بالتالي تلك الأفكار والمعلومات، علها تصنع فرقا ما في الماء الراكدة للفكر الجمعي. وذلك لإراقة وهم أن الأدب هو مجرد نصوص ترفيهية تنتهي متعتها بانتهاء فعل القراءة، بما أن تلك الفكرة قد استسيغت مع طلوع فجر العلوم واستحواذ التفكير البراغماتي على فكر الناس خصوصا أثناء عملية اختيارهم للكتب.
تتكون السلسلة من خمسة مقالات متعلقة بتاريخية النقد، من حيث أهم النقاد وأهم مدارسهم بشكل عام، وذلك لإعطاء لمحة عن تطور منهجية النقد ومضمونه، تناقضاته وتضارباته وتحولاته، وكيف أنه أصبح أداة مهمة لسبر أغوار النص الأدبي. من ثم عرض لأهم نظريات الأدب (لرينيه ويليك) والنقد الفني (لجيروم ستولنتر) وذلك لأهميتهما. وقراءة في نص النقد في العالم العربي بأهم نقاده، وعرض لفكرة ” أللعرب نقدهم الخاص أم هم فقط ناقلون ومترجمون”. من ثم نظرة على النقد الحالي في العالم وانتشار النقد الإلكتروني، وعزوف القراء عن النقد واستهجانهم له من حيث كمونه كأداة متعالية على فهم النص، وذلك بادعاء أن النقد هو البرج العاجي للأدب، ودائما ما يبتعد النقاد عن تفهيم القارئ العادي ومثولهم للمنهج الأكاديمي المعقد.
ج. تساؤلات مازالت مطروحة:
أولا دعونا في بداية الأمر قبل أن نسترسل في تاريخ النقد الأدبي بشكل مقتضب، أن نستعين بواحد من أهم كتاب العرب و هو الكاتب توفيق الحكيم حيث أنه كان يتساءل أيضا عن ماهية النقد في كتابه “فن الأدب” و عن أسئلة نحن كقراء نسألها حتى الآن ، في الفصل الثاني (النقد الذي يفسر) يقول ما يعني أنه: ليس النقد دستوراً، وإن كان لأدى ذلك لاحترافه كحرفة التعدين ذات المقاييس وما شابه، ولكنه ليس كذلك ولا هو ذو قانون محدد، ولو كان لهذا أن يحدث فعلى الفن والأدب السلامة والسُّخرَة- لأن ذلك يعني موته وفناؤه تماما، فما الفن إلا فعل “التجديد” وما النقد إلا لتعميق الفهم لتلك الأداة الناقدة النافذة، وهي ما تسمى الفن عامة والأدب خاصة. وتتأتى هنا أسئلته تباعا كالآتي:
1- ما الذي يجعل الجميل، جميلاً؟
2- ما هو الذوق؟
3- ما هو ميزان الذوق الذي نتحسس به ما هو جيد وما هو سيئ؟
4- من هو الناقد الأثير وله الحق بالنقد؟ وما هو النقد الموضوعي؟ حيث يؤكد قوله هنا بأنه: (يجب على الهدف من النقد أن يكون فقط الدراسة والتحليل الجادين والباحثين في عمق مدلولات النص المنتج وآثاره، ولا الاستهتار بالعمل ولا لإصدار الأحكام).
5- ما هي أهم سمات الأدب الناجح الوافي للمعايير الأدبية؟ ويقول في ذلك بأنه: (بشكل عام: أثر المنتج في الوسط الثقافي الأدبي والإنساني).
– من ثم قسم توفيق الحكيم فروق القضية النقدية لمرتبتين أو مستويين وهما:
1- أولهما هو ” قضية النقد للمبتدئ” وهي أن يسأل القارئ أو الناقد (كيف صُنع هذا؟). كيف أُنتج ذلك الأثر؟ كيف هي حياة الكاتب؟ ما هي أدواته؟ وبأي خطى يتعثر؟ وبأفكار من تأثر؟
2- أما على الصعيد الآخر أي المستوى الثاني، وهو أكثر نضجا من سابقه، يسأل “لماذا يصنع هذا؟”. وبالتالي هذا الثاني الذي عرفنا شخصيته مسبقا يقول: لماذا أخرج هذا الأثر الأخير للكاتب؟ ليحقق به أي جانب من جوانب شخصيته المتعارف عليها؟ وما الغرض من ذلك العمل أو النص المكتوب؟
“مهمة الكاتب في نظري هي تربية الرأي، وكل كاتب لا يثير في الناس رأيا أو فكرا أو مغزى يدفعهم إلى التطور والنهوض، أو السمو على أنفسهم ولا يحرك فيهم غير المشاعر السطحية العابثة ولا يقر فيهم غير الاطمئنان الرخيص، ولا يوحي إليهم إلا بالإحساس المبتذل ولا يمنحهم غير الراحة الفارغة ولا يغمرهم إلا بالتسلية والملذات السخيفة التي لا تُكّون فيهم شخصية، ولا تثقف فيهم ذهنا ولا تربي فيهم رأيا- لهو يقضي على نمو الشعب وتطور المجتمع ، وإن واجب الكاتب نحو المجتمع يحتم عليه أن يحدث أثرا سامي الهدف في الناس وخير أثر يمكن أن يحدثه عمله في الناس هو أن يدفعهم إلى تكوين رأي مستقل وحكم ذاتي”. توفيق الحكيم.
د. تأشيرة وخاتمة أولية:
هذا وبعد أن قفزنا على رأي أحد كتابنا المرموقين قفزا، وإن كان ذلك للتأكيد على أهمية التساؤل بل وعلى تكرار نوعية التساؤلات والإشكاليات حتى يومنا هذا في مواضيع النقد الأدبي والفني. ثانيا ينبلج سؤال مهم للغاية من خلال النقد، وهو هل يمكن أن يتمم النقد تعيين كامل لما يعني به الكاتب لنصه؟
لو كانت الإجابة بنعم، فما هي تلك الأدوات النقدية الخالصة في ذاتها والموضوعية التي بإمكانها حل تلك المعضلة الفنية؟ وإن كانت الإجابة تأتي بالنفي، فلما لا؟ ما هي العواقب التي تتأتى والنقد الفني والأدبي كي تؤجج تلك الإشكالية المتأصلة في فن الأدب، وهو المعروف بأنه مؤلفات ذاتية ذات أصداء نفسية ومرجعيات ووجهات نظر تخص الكاتب عن كينونة الأحداث والكون وما إلى ذلك؟
(كل هذه الأفكار تعتصر في كتاب لأهم مفكري النقد الأدبي لفيلو وكارلوني باسم: النقد الأدبي). فيما نتعرض لهذا الكتاب بشكل مبسط ومختصر، سيتحصل القارئ على قدر كافٍ عن خلفية تاريخ النقد الأدبي القديم و حتى الحديث.
هكذا نكون قد أدينا أولى خطواتنا في سلسلة “شذرات عن النقد الأدبي” قديما وحديثا، والجزء الثاني الذي سيكتب عما قريب سيغطي الجزئية التاريخية التي سبق ذكرها أعلاه. وسيتم ختام المقال الأول بمقولة لبورجيه يقول فيها: “على الناقد أن يبذل جهدا ليستخلص من التجربة والتاريخ قوانين صحة المجتمعات”.