سايكوباث المشاعر
الاكتئاب ليس مجرد شعور؛ إنه رباط ضيّق يلتف كأفعًى مجلجلة حول رقبة المشؤوم بالاكتئاب. فالأمر ليس بالبساطة التي تسمح لك بإطلاق تهمةِ الصِغر على الحجر الذي يقطن في حنجرة المكتئب، ولا تقارنه بالحزن أو التعاسة أو اليأس المحدد بزمانٍ أو مكانٍ ما.
إلا أنني سأحاول قدر استطاعتي أن أوضح لك ماهية العيش في خضم حالة من الاكتئاب؛ تخيل معي أنك تعيش في غرفة جدرانها من الغرافين الذي يعد أصلب من الفولاذ والذي لا يسمح بنفاذ أي شيء من خلاله. وتخيل الآن أن جدران هذه الغرفة مرئية بالنسبة لعينيك فحسب، وأنّك تعاني من انعدام الهواء فيها دون أن يلحظ ذلك أحد. تريد أن تصرخ ولكن صرختك التي تزلزل أعماقك تخرج همسًا لا يحرك ساكنًا. تحاول التحرك في أرجاء غرفتك المشؤومة ولكن لا فائدة من ذلك، فالسلاسل التي تقيد قدميك تمنعك من التحرك سنتيمترًا واحدًا. وعندما تحاول الاستناد على الحائط الذي يقبع خلفك، يبتعد عشر كيلومتراتٍ عن ظهرك لينتهي بك المطاف بلا سند.
وفي محاولةٍ يائسةٍ من قِبلك للتشبت بالحياة؛ تشرع باسترجاع ذكرياتِ ما قبل الاكتئاب، ولكن ذلك الطريق لا يؤدي إلا لذاكرة معطوبة تستذكر ما حلَّ بك من نوائِب نفسية. وفي عالمك المقلوب رأسًا على عقب، تُمسي جروحك النفسية مرئيةً بعد أن تجاهلتها لما يقارب عقدًا من الزمان. ستبدو جروحًا متقرحةً ومتقيِّحةً إثر الإهمال الذي حكمته عليها بطغيانكَ. ونظرًا لأنك لا تستطيع منح ثقتك لأيٍ كان؛ تتردد في اللجوء إلى مساعدة مختصة لتُخرجكَ من الجحيم الخفي الذي يحرق روحك المُعذّبة.
والتراجيديا هنا أنك إن شرعت بشرح الحالة التي تعيش فيها لمن حولك، سيتفوَّهون بجملة تبني طبقة أخرى من الغرافين حول جدران غرفتك: “هذه الحالة التي تعيش فيها ما هي إلا من نسج خيالك، إن أقنعتَ نفسك أنك حر ستهدم جدران سجنك الخيالي”.
لك الآن أن تتخيل جزءًا من العالم الذي يعيشه المكتئب؛ وبذلك لا يحق لك أن تتفوه بكلماتٍ عمياء تصب بها الزيتَ على نار من يشكو لك الاكتئاب الذي يعيشه يوميًا. فهو كالشلَل الذي يصيب الروح وينتشر رويدًا رويدًا إلى أن يقضي على آخر شعلةِ أملٍ أبقاها المكتئب محفوظة في خزنةٍ فولاذية. ولكن الاكتئاب لا يهمه موقع احتفاظك بأملك؛ وذلك لأنه يتسلل على أطراف أصابعه ليفتح الخزنة ويمسك شعلةَ الأمل الأخيرة من رقبتها ليخنقها مستمتعًا بمشهد انطفائها. فهو بذلك يمثل “سايكوباث المشاعر” الذي يقضي عليها جميعًا إلى أن يغدو الجسدَ الذي احتلَّه صحراء قاحلة لا يمر فيها إنسٌ ولا جان.
إن رأيت نفسك في كلماتي هذه، أرجوك رجاءً حارًا أن تسعى للحصول على مساعدةِ أصحاب الاختصاص لتخرج من هذه الغرفة التي لا يملك مفتاحها إلا هم؛ وذلك لأنهم الوحيدون المدججون بالعلم والخبرة الكافيين لمساعدتك. وإن كنت لا تقدر على ذلك، تمسك بشعلة الأمل الأخيرة وحاول إِذكاءها بشتى الطرق؛ اقرأ، أو تكلم مع صديقك، أو صارح والدتك، أو حتى اجلس وحيدًا مستمتعًا بهدوء العالم بعد ساعات الفجر؛ فالمهم أن تواصل إِذكاءها ما حييت.
وأما إن لم ترَ نفسك في كلماتي هذه ورأيت صديقك أو أباك أو أختك فيها، أنصت لهم ولا تحاول أن تقدم لهم حلًا سحريًا. فكل ما يحتاجونه منك هو الإنصات والتفهم ليخف وقع ألهبة الجحيم على أرواحهم المُنصهرة.