روح الأخطبوط.
بينما تمتد يدك لتمسد أخطبوطًا، تجد نفسك غارقاً في حلم من أحلام اليقظة؛ وحين تشارك مثل هذه اللحظة من الهدوء العميق مع كائنٍ آخر ، مختلف عنا تماماً كما هو الأخطبوط ، تجد نفسك في لحظة تواضع بشري تصعد بك نحو آفاق الوعي الكوني
تقول لوريل براتمان في كتابها «الاستكشاف الرائع للحياة العقلية للحيوانات – Terrific Exploration of the Mental Lives of Animals»: “على الرغم من قرون من البحث والتنقيب على يد المؤرخين الطبيعيين ، وعلماء النفس، والأطباء النفسانيين، إلى علماء الأخلاق والأعصاب والفلاسفة، لم نعثر حتى اليوم على تعريف عالمي للمشاعر أو الوعي”. وفي حين عرّفت فرجينيا وولف الوعي بأنه “موجة في العقل”، نجد أنفسنا إلى اليوم عاجزين عن امتطاء تلك الموجة، ناهيك عن استكشاف أعماق المحيط الذي نشأت منه.
نعم نحن لا نمتلك إلى الآن طريقة واضحة لتقييم مدى الوعي الذي تتمتع به الكائنات الأخرى، ولا زال الكثير من العلماء ينظرون إلى الوعي في كثير من الأحيان باعتباره تجربة ذاتية لا يمكن لمخلوق مشاركتها مع غيره، كما يخبرنا الفيلسوف توماس ناجيل في مقاله الشهير، ما شعورك أن تكون خفاشا؟
ورغم أنَّ نظرية التطور تدّعي وجود سلف مشترك بعيد بين الأخاطِب والبشر ، إلَّا أن ندرة القواسم المشتركة بيننا تجعل من فرضية وجود الأخاطِب الواعية لغزاً، يفسره البروفيسير غودفري سميث أستاذ الفلسفة بجامعة سيدني بقوله “ظهر الوعي على الأرض عبر طريقين مختلفين”.
وفي كتاب «عقول أخرى، الأخطبوط، البحر والأصول العميقة للوعي – Other minds: The Octopus, The Sea, and The Deep origins of Consciousness» يورد جودفري العديد من الأدلة التي تؤكد وجهة نظره القائلة بوجود الوعي عند الأخاطِب، من قبيل تمتعها بالفضول وسعيها الدؤوب نحو اكتشاف العالم من حولها، وامتلاكها لعيون متميزة، ناهيك عن قدرتها المتميزة على تقييم الأوضاع من حولها.
ولعل واحدًا من أجمل الكتب التي عالجت مسألة الوعي بمزيج رائع من الصرامة والمرونة «كتاب روح الأخطبوط: الاستكشاف المدهش لأعجوبة الوعي – The Soul of an Octopus: A Surprising Exploration into the Wonder of Consciousness» للكاتبة والمخرجة الوثائقية وعالمة الطبيعة، سي مونتجمري.
تبدأ مونتجمري أطروحتها بفرضية بسيطة: “الأخطبوط مخلوق يختلف عنا بصورة مدهشة – يغير شكله ولونه تكيفاً مع بيئته، يتذوَّق ببشرته، بينما يتموضع وفمه في إبطه ، يبهرنا دوماً بقدرته الخارقة على ضغط جسمه كله من خلال ثقب بحجم تفاحة، من هنا يمكننا أن نجزم أنَّ الأخطبوط يعيش واقعاً مختلفاً كلياً عما نعيشه نحن البشر. كمية التعقيدات التي ينطوي عليها هذا الاختلاف في إدراك الواقع، بدت واضحة من خلال الجولة الساحرة التي قادتنا فيها مونتجمري عبر كتابها الأعجوبة، ذي الرؤية الثاقبة، الذي حاولت الكاتبة من خلاله توسيع مفهومنا للوعي، بل وتجاوزت ذلك من خلال تسليطها الضوء على مفهوم جديد لما نسميه “الروح”.
تذكر الكاتبة “نحن دوماً نميل إلى رؤية الآخر كمصدر للفزع ؛ والأخطبوط يمثِّل إلى حد كبير ذلك الآخر المجهول الكامن بعيداً في أعماق المحيط المظلم، بما لديه من تاريخ طويل يجسد ميلنا للفزع ويثير مخاوفنا البدائية من المجهول ، فلمَ لا نعطي أنفسنا فرصة لتجربة فضول ودية”.
وفي محاولتها للخروج علينا برؤية جديدة “للدفاع عن الأخطبوط ضد قرون من اغتيال الشخصية”، تؤكِّد مونتجمري أنَّ الأخاطِب هي مخلوقات ذات شخصيات متميزة غاية في التفرُّد، وتمتلك فضولاً مميزًا، صفات كنا نعدها لوقت طويل حكراً على البشر.
وعي أم غريزة؟
تشير مونتجمري في كتابها إلى أحد الدراسات المتعلقة بدراسة سلوك الأخطبوط، حين راقبت رولاند أندرسون عالمة البيولوجيا في سياتل أكواريوم ثمانية من أخاطِب المحيط الهادئ العملاقة خلال تعاملهم مع اثنين من البشر، في بداية التجربة ارتدى الرجلان _ اللذان يسبق لتلك المخلوقات التعرف عليهما، نفس الزي الأزرق الموحد المميز للعاملين في الأكواريوم، وفي حين تولى أحدهما تغذية الأخطبوطات باستمرار، داوم الآخر على إيذاء الأخاطب ووخزها بواسطة عصا يحملها في يده.
في غضون أسبوع من التجربة، وبمجرد دخول الشخصين إلى محل معيشة الأخاطب والنظر إليها من خلال الماء، توجهت معظمها نحو الشخص الذي يقوم بتغذيتها وابتعدت تماماً عن ذلك الذي اعتاد أذيتها.
بالتأكيد، قد يجادل المتشككون أن هذا سلوك غريزي ولا يعد دليلاً على وجود الوعي عند تلك المخلوقات. ولكن مونتجمري تناقش في كتابها الخطوط العريضة لعدد من السلوكيات المحددة بشكل لافت للنظر، وتشير هذه السلوكيات إلى أنَّ الأخاطِب تتحرك بناءً على تجارب واعية معقدة تماثل “الأفكار” و”المشاعر” لدينا نحن البشر.
بالطبع هي وجهة نظر تتعارض تماماً مع تاريخنا الطويل في التقليل من شأن المخلوقات المحيطة بنا، وربما تواجه نفس رد الفعل الساخر الذي تعرضت له أفكار عالمة الأحياء جين جودال، يوم أن ادعت وجود الوعي عند حيوانات الشمبانزي، ولكن بخلاف الاعتبارات الفكرية للحياة الداخلية لهذا المخلوق الغريب والرائع، تشير مونتغمري إلى التقارب الجسدي مع أخطبوط كتجربة سامية في حد ذاتها، تجربة تشدنا نحو التنقيب عن فرضياتنا الأساسية بخصوص الوعي.
تجربة فكرية وروحية
في الواقع، إنَّ أعظم ما يمنحه لنا هذا الكتاب ليس فقط العلم الرائع -وقد حرصت الكاتبة على تدقيق كل المعلومات التي يذخر بها الكتاب- بل تلك القطع النثرية الساحرة، التي تتدفق من روح الطبيعة، حيث تستلهم مونتغمري في وصفها لعجائب أعماق المحيط روح هنري ديفيد ثورو وقد خلدت كتاباته عجائب غابات نيو انغلاند.
لم يسبق لي أن عشت تجربة أشبه بالحلم كما شعرت في تلك اللحظات، أحاسيس غريبة، جسدي يقشعر بفعل النشوة، في جمجمتي يتردد صدى أنفاسي، وصوت الدوي يزلزل صدري ، وكما هي في الحلم تبدو الأشياء من حولي أقرب وأكبر، ينكشف المستحيل أمامي، هنا تحت الماء، وجدت نفسي في حالة غير مسبوقة من الوعي، واتسع أمامي مجال الإدراك كما لم يحدث من قبل.
“يمثِّل المحيط -بالنسبة لي- ما كان يمثِّله عقار LSD لعالم النفس تيموثي ليري، الذي ادعى أنَّ الهلوسة تمثِّل بالنسبة للواقع ما يمثله المجهر لعلم الأحياء، حين يمنحنا تصوراً للواقع لم يتم الوصول إليه قبلاً. مثلما يتناول السحرة الشامانيون الفطر، والعقاقير السحرية، يلعقون الضفادع، ويستنشقون الدخان، لنقل عقولهم إلى عوالم ما ورائية”.
وبالمثل وجدت مونتجمري نفسها في حالة مماثلة خلال تواصلها الفريد مع تلك الأخاطِب، وخلال رحلتها الكشفية الاستثنائية أدركت مدى قصور أحاسيسنا و تصوراتنا التي تصنع واقعنا الخاص، وأدركت أنَّ الأخاطِب التي التقت بها وأحبتها، تتعامل مع تفردها المذهل كأساس لوجودها.
تقول مونتجومري: “في ظل حالة تشوش الوعي التي يسببها ارتداء بدلة الغوص ، لم يكن ما شعرت به ناتجاً عن تعاطي المخدرات ، بل غمرتني حالة من الصفاء النوراني ، ووجدت نفسي جزءاً من حلم المحيط”
من خلال ذلك المنظور المغاير، وخلال رحلتها إلى أحد معابد تاهيتي المكرسة لروح الأخطبوط، بدأت مونتجومري في طرح تساؤلها الأكثر عمقاً، ما الذي تمثِّله الروح؟ وهل يملك الأخطبوط روح؟
الواقع أنًَ طبيعة الروح الإنسانية كانت ولا تزال موضوعاً إشكالياً بامتياز، سواء على مستوى الاعتقاد الديني أو التحقيق العلمي، ولعل صعوبة الحصول على معرفة يقينية حولها هو ما دفع البعض إلى افتراض عدم وجود الروح، وافترضوا أنَّ ما نطلق عليه الروح ليس في الواقع سوى ظاهرة عصبية، كل ما في الأمر أننا نتعرَّض باستمرار للخداع من أدمغتنا، ولكن ذلك لا ينفي وجهة النظر الأخرى التي تقول أنَّ الروح هي في الواقع جوهر غير مادي وهي السر في وجودنا على قيد الحياة، هذا بالنسبة لنا نحن البشر، فماذا عن الأخطبوط وغيره من المخلوقات التي تشاركنا الحياة على كوكبنا الأثير.
تقول مونتجمري في تحفتها الرائعة التي قدمتها ماريا بوبوفا في مقالها علي موقعها Brainpickings:
“يرى البعض أنَّ الروح هي الذات ، هي”الأنا” التي تسكن الجسم ؛ وأنه بلا روح يصبح الجسم مثل مصباح كهربائي انقطع عنه التيار، في حين يراها البعض أكثر من محرك الحياة ، فالروح عندهم هي ما يعطي للحياة معنى ومغزى. الروح هي بصمة الله”.
وتذكر أيضًا ما يلي:
“إنَّ الروح هي في العمق من كينونتنا ، هي التي تمنحنا حواسنا، ذكاءنا، عواطفنا، رغباتنا، إرادتنا، شخصيتنا، وهويتنا. ويعرّف أحدهم الروح بقوله “هي ذلك الوعي الساكن الذي يراقب العقل في حضوره وغيابه وتشهد على حركة العالم من حولنا”. وربما لا يكون أي من هذه التعاريف صحيح، و ربما تكون كلها صادقة، ولكني وأنا أتمدد الآن على أريكتي أجد نفسي متأكدة من شيء واحد: إذا كان لدي روح- كما أعتقد بالفعل فإنَّ الأخطبوط يمتلك مثلها”.