رواية انحراف حاد لأشرف الخمايسي

الخمايسي في روايتهِ الثالثة “انحراف حاد” يُطبّق قاعدة ثابتة عند الكُتاب، وقد أخبرنا عنها أيضًا توفيق الحكيم في مقالةٍ له: “ليس الابتكار في الأدبِ والفن أن تطرق موضوعًا لم يسبقك إليه سابق، ولا أن تعثر على فكرةٍ لم تخطر على بالِ غيرك.. إنما الابتكار الأدبي والفني، هو أن تتناول الفكرة التي قد تكون مألوفة للناس، فتكسب فيها من أدبك وفنك ما يجعلها تنقلب خلقًا جديدًا يُبهر العين ويُدهش العقل.. أو أن تعالج الموضوع الذي كاد يبلى بين أصابعِ السابقين؛ فإذا هو يُضيء بين يديك.. بروحٍ من عندك.

بإمكان الكاتب أن يكتُب عن أي شيءٍ وأن يخلق عوالم من كل شيءٍ، فمن الممكن أن يتحدث عن شخصٍ واحدٍ يبحث عن الخالق ويبدأ بغرفتهِ فقط وينسج حولها عالمًا ليس له آخِر يتحدث عن شخصٍ ملازمٍ لتلك الغرفة لا يخرج منها أبدًا يأتيه طعامه في مواعيد ثابتةٍ ولا يفعل شيئًا سوى النوم والتدبر في الكتبِ الدينية جميعها ليهيئ نفسه ليكون المهدي المنتظر.

ومن الممكن أن يكبر هذا العالم أكثر فيجعله كهفًا، ويحوله من المهدي المنتظر لراهبٍ في الصحراء يقبع وحيدًا يُفكر في حكمة الخالق ويجعل هذا الراهب تارة مسيحيًا وتارة بوذيًا وتارة صوفيًا خالصًا، كلٌّ يبحث في دينه ليصل لخالقه وصلاً لا انقطاع بعده؛ أو يكون هاربًا من الدنيا بسبب جريمةٍ قد فعلها وأوى إلى هذا الكهف، أو مجرد عابر سبيل قد ضاقت به السبل فها هو يستريح من الصحراءِ العاصفة.

وبإمكانه أن يصنع الأساطير عن هذا الشخص الوحيد؛ فيكون لا يموت أبدًا ويطوف البلاد كُلها حتى لا يكتشف أحد أمره فيأوي إلى هذا الكهف منذ خلق آدم، وبوضع بعض اللمسات الإنسانية الخالصة من كرهٍ وحقدٍ ومشاعر جياشة في الشخصية بإمكانه أن يزوده بذكرياتٍ لا حصر لها تنقل القارئ من حدثٍ إلى حدث ومن بلدٍ إلى بلد ومن حقبةٍ زمنيةٍ سحيقة لأخرى مستقبلية لم تأتِ بعد؛ فالكاتب هو خالق لعالمه ليضع به ما يشاء من أفكارٍ وشخوص. إذًا الفكرة الواحدة قد تم استخدامُها أكثر من مئةِ مرة على الأقل في التاريخ الإنساني، وإن لم يتم استخدامها بطرقٍ مختلفة فلن يكتب أحدٌ أي شيءٍ على الإطلاق.

أما الذي يميز كاتبًا عن غيرهِ فهو كيفية تناوله لهذا الموضوع بإسلوبٍ بسيطٍ غير متكلف، بأن يضع هدفًا لفكرتهِ يخرج به القارئ من تلك القصة تلمس في شخصه شيئًا ما تستثير عواطفه وأفكاره، تجعله بمحض إرادته يعجب به وبما يكتب، يتوغّل في الحياة الاجتماعية فيأخذ حفنة من صفاتِ أهل المدينة وحفنة من أهل القرى وحفنة من العوام هنا وهناك ويخلق خلقًا أصيلاً يخلع به العباءة المهترئة التي تحاول ستر عورة المجتمع. هكذا فعل “نيقولاي غوغول” في روايته “الأنفس الميتة” والتي اعترض عليها عضو الرقابة قائلاً: “لا، هذا لا يمكن أن أسمح به أبدًا، النفس خالدة، ولا يمكن أن توجد نفوس ميتة.. إن المؤلف يحارب الخلود”. الخمايسي يحارب الخلود أيضًا ولكنه يحاربه بطريقته الخاصة.

إعلان

هكذا فعل الخمايسي في رواية “انحراف حاد”

جعل من حدثٍ بسيطٍ وعادي تراه كل يومٍ تقريبًا وبنى عليه الخيوط العريضة لروايتهِ، ليأخذك معه في رحلتهِ الأرضية داخل النفس السماويةِ الأصل، في سيارة ميكروباص مليئة بالركاب؛ منهم الشيخ والقسيس والكاتب والمجند والهارب والشابة والمرأة والطفل والشاب والرجل والمسن والنصاب والسائق وولي من أولياء الله، أشخاص طبيعيون تراهم باستمرار في حياتك اليومية.. هل جعل منهم أبطالًا بأن نسج خيوطًا بينهم فجمعتهم الصدفة أم الترتيب القدري الذي خطه هو ليريهم عظمة الخالق في سيارته؟ في طريقهم إلى الخلود؟

بأسلوبٍ مشوقٍ رشيق تجده يتنقل بين حيواتهم ليقص عليك سيرهم فتتوغل في المعرفةِ بهم، وربما تجدُ نفسك أحد شخوص الرواية، وهذه عادة الخمايسي أن يجعل روايته واقعية سحرية والأفضل من هذا أنه لا يأخذك من يدك رغمًا عنك لتعرف تفاصيل الرواية، ولكنه يجعلك بملء إرادتك تبحر فيها معه وقد سلّمت له دَفّةَ الأمور. كالعادة، يبحث عن الخلود ولكن هذه المرة ليس شخصًا واحدًا (كما في الروايتين السابقتين –الصنم ومنافي الرب– )، كلّ من في السيارة يبحثون عن الخلود والهروب من مأزق الموت.

الجميع قابل المهدي المنتظر، الجميع آمن به ومنهم من أصبح تابعه الأمين، ومنهم من رآى الله في حضرتهِ؛ منهم من انتحب بين يديهِ ومنهم من هرب منه مرارًا ومنهم من كان عنه معرضًا ومنهم لم يستطع معه صبرًا؛ هل هو حقًا رجل “آخر الزمان” وتجلّى لهم جميعًا أم أنه أكبر نصاب عرفوه يومًا؟ والحق أقول أنك ستذهل مثلهم تمامًا.

 

جميعًا ننحرف عن مساراتنا؛ نُخطئ ونتوب ونفعل الخير والشر؛ لا أحد يسير على طريقٍ مستقيم، حتى السيارات على الطرق الممهدة.. كما فعل الخمايسي أيضًا بأنه انحرف عن طقوسه في الكتابة والتي كانت غير مرتبة فيما سبق هذه الرواية، ولكنه هنا انحرف عن مسارهِ وأصبح يحدد أوقاتًا وساعاتٍ معينة للكتابة وقام أيضًا بتغيير اسم الرواية الذي كان “لن تسطتيع الصبر”.

إن الخمايسي نفسه لهو انحراف حاد في الأدب الحالي ومعه قلة قليلة جدًا دون السواد الأعظم من الكُتاب الحاليين وكُتبهم المزخرفة الفارغة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حمدي محمود

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا