رأي مغاير حول اللاإنجابية

الطرح الأساسي الذي تتبناه اللاإنجابية في تعريفها، أنها موقف فلسفي أخلاقي، وعلى الرغم من اختلاف تعريف الموقف “الأخلاقي” بين مؤيدي اللاإنجابية، يبقى الطرح ناقصًا ومبهمًا، ويحمل في طياته بضعة علامات استفهام تتطلب إعادة النظر قليلًا في الافتراضات التي أدت في نهاية الأمر إلى تشكيل صياغة فلسفية ازداد رواجها بشكل كبير مؤخرًا في مختلف الأوساط.

معظم الافتراضات التي تسهم في صياغة اللاإنجابية تُبنى على أسس الفلسفة العدمية في المقام الأول، بالإضافة إلى النظرة السوداوية للحياة، واقتصارها على المعاناة والصراع الدائم، لذا يبدو من المنطقي إن لم يكن من البديهي حينها وجوب رفض الإنجاب من قبل أي إنسان عاقل.
ويبدو من تحليل دوافع الإنجاب، سواءً أكانت رغبة بيولوجية أو محاولة لمحاكاة الخلود، أو تخفيف الوحدة وتجنب العبء الوجودي، أنه فعلٌ عبثي إن لم يكن أنانيًا حتى، لذا يتوجب على الجميع إعادة النظر والتأمل بغرض السيطرة على رغباتنا، ولربما أفضل ما يمكننا فعله لحل تلك المعضلة هو الزحف نحو الانقراض والتمرد على الطبيعة بما فيها.

وبذلك يمكن استخلاص مجموعة من الافتراضات التي تستحق الوقوف عند كلٍ منها، من أجل التفكير الحاسم و”الموضوعي”، وتجنب الاستنتاج الأعمى في ما يخص الإنجاب واللاإنجابية.

الافتراض الأول: الحياة معاناة وصراع دائم.

لا يمكن نكران وجود المعاناة والصراعات المستمرة، لكن لا يمكن نكران وجود النقيض من ذلك أيضًا، وإلا لن يكون الافتراض موضوعيًا. إذ يجب الاعتراف بوجود الأضداد المتداخلة فيما بينها، فلا وجود للشر دون وجود الخير، وإلا لن يكون بالإمكان إدراك معنى الشر أساسًا.
وذلك يتطلب رؤية أكثر نضجًا قبل صياغة افتراض مطلق حد اليقين، وقبل التعاطف مع التجارب الذاتية وإسقاطها على رؤية شاملة للحياة، أو التمسك بالتفكير الإقصائي والانحيازات التوكيدية.

الافتراض الثاني: الإنجاب يعني فرض العبء الوجودي.

قبل مناقشة هذا الافتراض يجب الوقوف عند مصطلح “العبء الوجودي” قليلًا، لأنه يحمل في ثناياه جوهر الفلسفة العدمية في التعاطي مع الوجود في إطار المفهوم السائد الذي يختلف عن المفهوم الفلسفي المدرسي، ومن الجدير بالذكر ملاحظة الارتباط الوثيق في رؤية الوجود بصفته عبءًا مع الحالة النفسية والاجتماعية غير الصحية، إذ تتلاشى تلك الرؤية ببساطة عند معالجة الأسباب وتغير الأحوال. أما عن الرؤية الذاتية والمعزولة، فهي غالبًا ما تكون ناجمة عن ثغرة فكرية يبدو فيها الوجود على أنه نهاية أبدية، على الرغم من كونه محطة مؤقتة بالنسبة لما نعرفه، وبذلك يكون الوجود عبئًا لمن يريد أن يحمله فقط، وبكلمات أخرى، تعميم مصطلح “العبء الوجودي” يقصي من لا يرى الوجود كذلك، كما يقصي احتمال ألا يكون الوجود كذلك بالنسبة لمن سوف يُنجبون حتى.

إعلان

الافتراض الثالث: اللاإنجابية هي فعل أخلاقي.

يقتضي هذا الافتراض اعتبار رفض الإنجاب على أنه فعل أخلاقي بالمطلق، واعتبار الإنجاب فعل غير أخلاقي بالمطلق. لكن الاعتبارات تلك مغلوطة إن كانت حقًا جازمة بالمطلق، لأنها تنفي بذلك شرطية الفعل المنوطة بعوامل عديدة ومتداخلة لا يمكن اختصارها بمجرد توصيف بيولوجي أو نفسي لدوافع الإنجاب.

بكلمات أخرى، يمكن اعتبار الإنجاب فعل أخلاقي مثلًا لأنه يمرر احتمال ولادة فرد قد يسهم بتخفيف الألم أو إنقاذ الأرواح، أو حتى في تغيير العالم للأفضل، والتاريخ يشهد للعديد من العظماء الذين قدموا للبشرية ما لا يمكن نكرانه.

أما عن تحليلات دوافع الإنجاب فيما إذا كانت بدافع رغبة بيولوجية أو نفسية فلا يمكن عدّها افتراضات لأنها حقائق مثبتة علميًا بالنسبة لمعرفتنا الحالية، لكنها لا تشير لأكثر من ذلك، وليس هنالك أي رابط حقيقي يجعل من فهمنا لأنفسنا والطبيعة المحيطة بنا على أنه إشارة للتمرد على الطبيعة، هل يجب مثلًا الامتناع عن تناول الطعام لمجرد فهم فيزيولوجيا الجهاز الهضمي أو الدوافع الكامنة وراء رغبتنا بالأكل!.

رفض الإنجاب بغض النظر عن الافتراضات والقوالب، قد يكون دليلًا على الحس العالي بالمسؤولية، لكن القلق والخوف المفرط قد يحجب خداع العقل ومدى تطرف أفكاره.

وبالطبع، من المنطقي الامتناع عن الإنجاب إن لم يكن قرارًا مسؤولًا يقتضي تأمين حاجات الحياة الأساسية وفق أفضل الظروف الممكنة، ويقتضي أيضًا التخلص من عقدة الذنب المسبقة التي تسيطر على الفرد خوفًا من المصير المجهول، فالمستقبل وما يخفيه لا يخضع لسيطرتنا وأحداثه ليست من صنع أيدينا.

ختامًا، أرى في رواج العدمية و اللاإنجابية في أوساط مجتمعاتنا العربية التي تعاني من فوضى عارمة، حالة طبيعية ناجمة عن اختلاط القيم والمفاهيم، وتلك الحالة السائدة هي محطة أساسية لا يجب الوقوف عندها، وإنما دفعها بالمزيد من البحث والقراءة والتفكر، علّها تسهم في تشكيل نواة أصيلة وحركة فكرية جديدة ترفض التلقين والتلقي، أو التمسك والتقديس الأعمى لفكر أو فلسفة ما، لكنني لن أنجرف خلف آمالي هذه بسهولة ولن أرفض قراءة الواقع كما هو، فالبنية النفسية التي تبلورت من خلال مواجهة المصاعب الشديدة دون تهيئة مسبقة ساهمت لربما في خلق نسيج محطم من الأفراد غير القادرين على التفكير دون الأخذ بالإطارات الفكرية المعدّة مسبقًا، لذا ينجب البعض دون تفكير أو يرفض البعض الإنجاب دون تفكير أيضًا، وفيما قدمت محاولة لربما لم تكن مكتملة بما يكفي بعد لكنها خطوة في سبيل التفكير.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: EL

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

اترك تعليقا