دوائر السلطة وفضاءات التخيل: عن سوسيولوجيا الحكم والمقاومة في العالم الشبكي

على مدار العقود القليلة الماضية، تغيّرت البشرية تغيّرًا جذريًا، فلم تعد كما كانت في السابق تعتمد على الوسائل التقليدية للعيش والحياة، بل شهدت تحوّلات عميقة في داخلها، انتقلت بها من طورٍ معرفي إلى طورٍ آخر، وذلك بفضل التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث أدى النمو السريع لشبكات الإنترنت وانتشار تكنولوجيا المعلومات إلى حدوث العديد من التغيرات حول العالم. فقد بات من الواضح أن العالم دخل مرحلة جديدة من إعادة بناء المجتمعات بالكامل، حيث غيّرت التكنولوجيا الحديثة من بنية السلطة والمجتمع، وبدأت في إعادة تعريف العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. كما أنها ساهمت في تنامي العديد من الحركات الاجتماعية التي ساعدتها وسائل التواصل الاجتماعي على مواجهة السلطة ومقاومتها، وفي تعزيز مختلف أشكال حركات المقاومة، سواء أكانت مقاومة شرعية أو غير شرعية، أو مقاومة اجتماعية أو سياسية أو دينية أو غير ذلك. كما تسهم في تقليص قدرات القمع والاستبداد أو زيادتها، وهي أيضًا وسيلة فعّالة لدعم عمليات الحشد والتعبئة. (1)
ولم تقتصر آثار هذه التحوّلات على البُنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، بل امتدت لتتوغّل إلى وجدان الأفراد وحالتهم النفسية والذهنية. إذ تغيّرت أشكال التكوين العقلي والذهني للأفراد بفعل تطوّر وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات. فقد خلقت وسائل التواصل الاجتماعية والتكنولوجيا وعيًا جديدًا عبر تشبيك شبكات الأفراد العصبية مع الشبكات الالكترونية الرقمية. وتؤسّس هذه العملية لتواصل فعال بين فئات البشر المختلفة، وتخلق لهم مساحة اجتماعية تخيلية جديدة تتجاذب فيها الآراء وتتنوع فيها التوجهات. وهي بذلك تنتج أشكالًا جديدة ومستحدثة من علاقات السلطة والقوة، وتصنع أشكال تكوينية جديدة من الدلالة الاجتماعية والرمزية. فتلك الوسائل تعتمد على الأشكال الرمزية المتمثّلة في الأطر والرسائل التي تنشأ وتشكل وتنشر في شبكات التواصل الاجتماعي. وهو ما يؤدي إلى إعادة هندسة المجتمع وتشكيله ضمن دوائر تخيُّلية تعمل من خلال الفضاء السيبراني وشبكات التواصل الاجتماعي. (2)
وهذا ما يصعّب الأمر على السلطة السياسية من ناحية السيطرة، حيث تجد نفسها مضطرة لبذل جهد مضاعف للحفاظ على هيمنتها داخل هذا الفضاء التخيلي الواسع. إذ أن الاتصالات الرقمية تتشكّل في دوائر اتصالية متعدّدة الوسائط والأبعاد. وبالتالي، تكون السلطة بداخلها متعدّدة الأبعاد، تسعى إلى الهيمنة على قدرة الاتصال والوصول إلى الوسائط والملفات، وتقنن من إقامة علاقات تشاركية بين الأفراد من أجل الحفاظ على سيطرتها عليهم. فالسلطة لا تُفرغ من مضمونها حتى في ظلّ عالم تخلو فيه السلطة، أي سلطة الدولة في المجال الخيالي التكنولوجي، من الوجود الواقعي، فهي تسعى إلى هندسة الاجتماع البشري بما يتناسب مع توجهاتها، وتمارس سلطتها بشكل طاغٍ من خلال شبكات التواصل ووسائل الإعلام الجماهيرية. (3) وهي بذلك تخلق إنسانًا ذا بُعدٍ واحد، كما عبّر عنه هيربرت ماركيوز، تتشابك فيه معارفه مع معارف الآخرين في مسار واحد، وتصبح الدولة فيه مرشدتهم الأولى والأخيرة. فكما ذكرنا مسبقًا، فإن غاية الدولة الأساسية هي إخضاع الأفراد لخدمتها، وخاصة في النظم السلطوية والشمولية الحديثة.
ولكن، طالما توجد سلطة، فهناك سلطة مضادّة مقاومة لها، أو كما يقول فوكو: “لا توجد علاقات قوة دون وجود مقاومات فعّالة”، حيث نشأت حركات اجتماعية رقمية مناوئة للسلطة، وظهر العديد من الفاعلين الاجتماعيين كأفراد معارضين لهيمنة السلطة على الفضاء الإلكتروني. وقد استطاع العديد منهم بالفعل انتزاع مساحات واسعة من السلطة داخل الفضاء السيبراني، وإسقاط منظومة المراقبة والعقاب القهرية فيه، كما حدث في ثورة 25 يناير في مصر، أو في العديد من الثورات الأخرى. إذ ساعدتهم تلك التكنولوجيا على تطوير صورة تنظيمية موازية للدولة، تمثلت في فكرة المجموعات. فنجد أن لهذه المجموعات نوعًا من التنظيم الداخلي والذاتي الحاكم لحركتها، حيث كان مستخدمو الإنترنت منسجمين نسبيًا في مجموعاتهم تلك، مع فرق تعمل بمبادئ وقيم مشتركة وقواعد تنظيمية. وبالرغم من عدم رسمية هذه القواعد والقوانين، فإنها كانت تؤثر في سلوكيات الأفراد وكأنها قواعد قانونية ملزمة. وهذا التنظيم الذاتي هو الذي أفضى في النهاية إلى وجود تنظيم حقيقي على أرض الواقع، كما حدث في الثورة المصرية. وبالرغم من عشوائية المشهد الذي كان يجري على أرض ميدان التحرير آنذاك، إلا أنه كان مترابطًا بشكل نسبي، حيث كان الكل متكاتفًا مع بعضه البعض، يحاولون تحقيق غاية واحدة، وهي إسقاط السلطة السياسية. (4)
وقد ساهمت التكنولوجيا، بجانب قدرتها على خلق تنظيم ذاتي للأفراد، إلى إنشاء اجهزة إعلامية موازية للأجهزة الايدولوجية والإعلامية الرسمية للدولة. فبفضل العديد من المواقع الإلكترونية وصفحات فيس بوك وتوتير وغيره، استطاعت تلك المنصات نشر وعي بديل مضاد للوعي النمطي أو الصوروالقيم التي تكرسها السلطة وتسعى من خلالها إلى الهيمنة على عقول الأفراد.
إعلان
ومن أهم الأمثلة على ذلك، على المستوى الدولي والعالمي، هو موقع ويكيليكس، الذي قام بكشف العديد من الحقائق السياسية والاقتصادية التي كانت تُخفيها حكومات العالم، مثل الحقائق والجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان أثناء احتلالهما، والتي وضعتها في مأزق كبير أمام المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية العالمية. بالإضافة إلى أنه كان له دور كبير في اندلاع ثورات الربيع العربي، إذ قام في نهاية عام 2010 بتسريب العديد من الرسائل والتقارير الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، التي تعبر عن استيائها الشديد من سياسات حكم زين العابدين بن علي، ومن الفساد الكبير المنتشر في حاشيته، وفي البلاد بشكل عام، والتي ساهمت بدورها في تأجيج مشاعر الشعب التونسي، وتعزيز إدراكه لمدى رفض النظام الدولي لنظام زين العابدين. (5)
كما نشر الموقع العديد من الوثائق شديدة السرية عن العلاقات المصرية الأمريكية، مثل مقابلات وفد الكونغرس الأمريكي مع عدد من القيادات المصرية، ومناقشاتهم حول أوضاع البلاد، أو التقارير الصادرة عن الخارجية الأمريكية التي ترصد انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، والفساد السياسي والاقتصادي، وتردّي الأوضاع، واستياء الولايات المتحدة الأمريكية من العديد من القرارات المتخذة في فترة حكم مبارك، كمدّ قانون الطوارئ وسيطرة الحزب الوطني على الساحة السياسية، وتضيق الخناق على منظمات المجتمع المدني، وغيرها من القرارات والسياسات الأخرى. ومن المفارقات اللافتة للانتباه أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كانت تدعم هذه الأنظمة المستبدة، وتزودها بالمال والسلاح وكل ما كان من شأنه أن يساهم في الحفاظ على استقرار تلك الأنظمة. ولكنها، في الوقت ذاته، كانت ترغب في وجود بعض المنابر السياسية الحرة حتى لا يسقط النظام في هوّة الفساد بشكل كامل، أو ينهار تحت وطأة الثورات. ولذلك، كانت تدعم منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، مع الحفاظ على علاقات تعاونية بينها وبين الأنظمة السياسية العربية المستبدة، وخاصة مصر، نظرًا لوضعها الاستراتيجي وجوارها مع إسرائيل. (6)
وبالتأكيد، لم تقف حكومات العالم في مواجهة تلك الأزمة صامتة، بل سعت إلى محاولة استغلال تلك التكنولوجيا لصالحها، من خلال إقامة قواعد بيانات لرصد جميع أشكال نشاطات الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. كما عززت من فاعلية مراقبتها عبر المنصات والمواقع، عن طريق تتبع رسائلهم والأرقام الرمزية المميزة لأجهزتهم. ولكن، في الغالب، كانت الحكومات تفشل في مواجهة هذه الأزمة، نظرًا لقدرة الناشطين على التصدّي لألاعيب السلطة وآلياتها، من خلال تغيير هويات المستخدمين في المنصات والمجموعات، واستخدام أكثر من جهاز للدخول إلى هذه المنصات. لاسيما وأن أغلب مستخدمي هذه المنصات كانوا من الشباب، الذين لجؤوا إلى الفضاء السيبراني لتخيّل واقع مغاير لواقعهم البغيض، وخاصة من هم يعيشون تحت وطأة القمع والإستبداد.
ومن ثم، نجد أن علاقات السلطة والمقاومة قد تغيرت إلى حد بعيد في عالمنا السيبراني الحالي، ولم تعد أشكال المقاومة كما كانت في السابق، بل تعدّدت وتنوّعت. فالعالم لم يعد مجرد وجود واقعي محسوس فقط، بل تجاوز ذلك ليشمل وجودًا خياليًا غير محسوس، وهو لا يزال في حالة تطور وتغير مستمر.
مراجع:
1 – عبد الحميد بسيوني، “ثورة مصر وتكنولوجيا المعلومات: الصراع في الفضاء السيبراني من فيسبوك إلى ميدان التحرير”، (القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013)، ص216-219.
2 – مانويل كاستلز، هايدي عبد اللطيف (المترجمة)، “شبكات الغضب والأمل: الحركات الاجتماعية في عصر الانترنت”، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص25-30.
3 – المرجع نفسه، ص30-31
4 – عبد الحميد بسيوني، مرجع سبق ذكره، ص72-75.
5 – توم مالينوفسكي، “هل أسقط ويكيليكيس حكومة تونس”، مقالة من كتاب الثورة في العالم العربي: تونس ومصر ونهاية عصر، تحرير: مارك لينش، سوزان بجلاس، بليك هاونشيل، ترجمة: هاني حلمي، (القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2013)، ص82-87.
6 – عبد الحميد بسيوني، مرجع سبق ذكره، ص16-21.
إعلان