دروب النجاح – 3 خطابات فائزة بجائزة نوبل للأدب وماذا نتعلم منها؟
- 117 فائزًا بجائزة نوبل للأدب بينهم عربي واحد فقط هو نجيب محفوظ، فكيف استغلّ فرصة وقوفه أمام اللجنة السويدية وآخرين من أصحاب النفوذ الحاضرين خصيصًا ليشهدوا لحظة استلام أول أديب عربيّ لجائزة نوبل؟وكيف حصل عليها ومن هم المئة وستة عشر الآخرين؟ هذه قصّة يطول شرحها، سنتعرّف اليوم على ثلاثة منهم فقط وأهم الدروس المنتقاة من خطابات استلامهم للجائزة لعل وعسى نحذوا حذوهم يومًا ما.
سنبدأ من السّنوات الأخيرة، في سنة 2018م ويليها سنة 2019م حصل اثنان من عمالقة الأدب التَّخيليّ على جائزة نوبل، ولأنهم عاصروا زمننا والكثير من الأحداث الأخيرة التي عاصرناها، سيكون من السهل التّعلق بهم وفَهم دوافعهم والنظر في نوعيّة وأسلوب أعمالهم الأدبية الفائزة بنوبل.
الاثنان هما الرّوائي والكاتب المسرحي النمساوي بيتر هاندكه للعام الماضي 2019م، والرّوائية البولندية أولغا توكارتشوك لعام 2018م، هذا ومع إلقاء نظرة حتميّة بينهم وبين الكاتب العربي المعروف نجيب محفوظ لعام 1998م. والجدير بالذّكر أنّ أكثر نوع من الأدب حصولًا على الجائزة هو أدب الرواية الذّي يسير جنبًا إلى جنب مع الشّعر كمركز أوّل وثانِ، تليهم الدراما والقصص القصيرة بفارقٍ ليس كبيرًا.
أولغا توكارتشوك
حصلت أولغا توكارتشوك التّي عُرِفت كتاباتها بنغمتها الأسطورية على نوبل للأدب في عام 2018م لأسلوبها السّردي وخيالها المحفوف بالمعرفة، وهذا ما أتاح لتوكارتشوك أن تسرد رواياتها وتُظهِرَ لنا كيفيّة تخطي الحدود كأسلوبٍ حياتيٍّ ناجحٍ.
تتميّز أعمال توكارتشوك بتحدّيها لحدود التّصنيفات وإثارتها للجدل، تمامًا مثل آراءها اليساريّة الاشتراكية ودفاعها عن المرأة وانحيازها للبيئة عن الإنسان.
وتعدّ رواية “رحّالة” من أهم أعمالها غير القابلة للتّصنيف والتّي توضّحُ لنا نوعيّة الأدب الرّائجِ لهذا العصر، وهي الأعمال القادرة على تحقيقِ التّوازن والانتقال عبر الفئاتِ المختلفة بخفَّةٍ ومرحٍ فهو عملٌ خياليٌّ في مجمله، ولكن أيضًا يحمل في طيّاتهِ تمريناتٍ نظريَّةً وأنثروبولوجيا ومذكّراتٍ نسويّة.
لا يوجد نجاح فردي
صرَّحت أولغا توكارتشوك في خطاب استلامها للجائزة بعدَّة عبارات تستحقُّ الأخذ بعين الاعتبار، فكانت عبارتها الافتتاحية عبارة عن إشادة بفيلم The Wife الذّي يحمل في مضمونه كاتِبا حصل على الجائزة عن روايةٍ له حيث تتوالى الأحداث لتكشف لنا عن الكاتب الحقيقيّ للرّواية لتصبح زوجتُه، ومن ثمّ تُطمئِنُ الجمهور بأنها هي الكاتب الحقيقي لجميع رواياتها.
وبعدها تتطرّق للمغزى الحقيقيّ وراء تلك القصة، وهو أنّه لا يوجد نجاحٌ فرديّ لأيّ من قصصِ النّجاح التّي نسمع عنها، وأنّ الأكثر واقعية أن نشكر كلّ من ساعدونا خلال رحلة نجاحنا ومن تحمّلونا، ومن قالوا “لا” عندما وجبت ولم يخشوا جرح مشاعرنا، بدايةً بمن ساعدها في البحث ومن صحّح لها أخطاءها، وصولًا إلى من عالج تصلُّب رقبتها حتى استطاعت الاستمرار.
“واليوم مرت مائة وعشر سنوات بالضبط منذ أن فازت أول امرأة بجائزة نوبل في الأدب – سلمى لاغرلوف. أنحني لها عبر الزمن، ولجميع النساء الأخريات، جميع المبدعات اللواتي تجاوزن بجرأة الأدوار المحدودة التي فرضها عليهن المجتمع وكان لديهن الشجاعة لإخبار قصتهن للعالم بصوت عال وواضح. أستطيع أن أشعر أنهم يقفون ورائي.”
نتعلم من خطاب توكارتشوك أن الكاتب لا يفعل كل شيء بنفسه، فهناك ورائه من يقومون بالبحث، ومن يراجعون كتاباته ويصححون أخطاءه الإملائية والنحوية، ومن يأخذ آراءهم وإذا كان حوله حفنة من الجهلاء يقولون له “نعم” على كل شيء لن يصل إلى ما وَصَلت إليه.
وإذا لم تعتبر أولغا نجاحها من نجاح جميع نساء العالم وتأخذ بيدهم، فلمن تكتب؟ وكيف تتصدى لتحديات العالم وحدها؟
وفي النهاية لا ننسى المترجمين الذين يعتنون بهذا العمل المتكامل ليعيدوا إنتاجه بنفس الصورة الكمالية ولكن بلغة مختلفة تمامًا، فيأخذ منحنى آخر ويزيد انتشاره ويدوي تأثيره في أرجاء العالم.
بيتر هاندكه
مُنحت جائزة نوبل في الأدب لعام 2019 لبيتر هاندكه “لعمله المؤثر الذي ببراعته اللغوية اكتشف حدود وخصوصية التجربة الإنسانية.”
برغم تعرضه للعديد من الانتقادات بسبب ميوله السياسية وتعاطفه مع الديكتاتور الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش إلا أن أعماله سبقت الانتقادات وجلبت له العديد من الجوائز، وصولًا لجائزة نوبل للأدب.
لم يكن هاندكه أبدًا ممن يستطيعون التحدث بلباقة، والدليل على ذلك خطابه عند استلام جائزة نوبل الذي لم يسرف في السرد ولم يعطِ أيّ تعبير عن الشكر أو السعادة بهذا التكريم، ولعل ذلك يعود للمظاهرات التي اندلعت فور الإعلان عن اسمه تعبيرًا عن الرفض والاستنكار. فكان مقتضبًا ومختصرًا في خطابه الذي سرعان ما ذهب في طيّ النسيان.
وكانت رسالة تلك المظاهرات أن كيف يحصل على نوبل للأدب من هو مؤيد للديكتاتور المستبد الذي قتل مئات الأبرياء وهي في أساسها كانت نوبل للسلام؟ رجلًا بتلك العقلية والمبادئ المشوهة ماذا نظن من كتاباته؟ هل تبعث السلام والأريحية في البلاد أم تحث كل رؤساء العالم على قتل آلاف الأرواح لتحقيق السلام في البلاد؟
لن أجيب اليوم على تلك التساؤلات، سأتركها لك.
أنصحك بالبحث والقراءة وإعطاء أعمال الكاتب فرصة الإطلاع حتى يستطيع بناء رأي واضح وصريح بخصوص أعماله الأدبية دون النظر إلى اتجاهاته السياسية. يمكنك أن تُعجب بأديب يهودي لأعماله الجيدة التي لا تدحض معتقداتك الدينية وأن تظل متحفظًا تجاه معتقداته واتجاهاته الشخصية. ولكن دون الخوض فيها، فهذه ملكٌ له.
حقول الفراولة للأبد
لا أعلم ماذا قصد بجملته الاختتامية لخطابه عند استلام الجائزة إلا أنه عنوان أغنية لفرقة “بيتلز” المعروفة، وهي أغنية جميلة بحق.
في الحقيقة خطابه لم يكن ذا التأثير الكبير فهو لم يقف إلا دقائق على المنبر. متحدثًا عن مرته الأولى في القرن العشرين التي وقف فيها أمام ملك وملكة، وأن تلك هي المرة الثانية له. ومن ثم أعطى تحياته وشكره للحضور، وذكره لإوزة سلمى لاغرلوف الكاتبة السويدية، وهي أول امرأة حاصلة على نوبل للأدب، في روايتها “رحلة نيلس هولغرسون الرائعة في السويد”
“أمنيتي أن يطير الأوز في المستقبل خارج السويد، فوق كل مشهد ليس فقط في أوروبا، ومن ثم يحوّل حتى أصغر دولة إلى منطقة عالمية!”
نجيب محفوظ 1998
حقق نجيب محفوظ إنجازًا غير مسبوق في عالم الأدب العربي، والمصري تحديدًا. حيث كان أول فائز عربي، مصري الجنسية بجائزة نوبل للأدب ضمن 116 مبدع أجنبي.
أديب مصري خرج من جذور الحارة المصرية الشعبية الأصيلة، برصيد أعمال يصل إلى 36 رواية و55 كتاب و6 مسرحيات وعدد لا يحصى من القصص القصيرة. استطاع أن يترك بصمة في الأدب العربي عامة والمصري خاصةً، هو أبو الرواية المصرية الحديثة دون منازع، روايته الأولى “عبث الأقدار” وضعته على أول طريق العمل الروائي، وابتسمت له الأقدار بعدها.
نجيب محفوظ ابن حي الجمالية محفور في وجدان كل مصري ومصرية بأعماله. الكل تربى وعاش على سلسلة بين القصرين وقصر الشوق والسكرية سواء كانت من الفنان يحيى شاهين أو محمود مرسي.
ولكن هل هذا نجيب محفوظ الذي يراه عموم المصريين؟ الإجابة هي لا.
أنا لي وجهة نظر أخرى مخالفة وليس من باب الاختلاف من أجل الأختلاف فقط!
خطاب استلام جائزة نوبل
من خلال قرائتي لخطاب نجيب محفوظ لاستلامه جائزة نوبل، وجدته مليء بالتشاؤم، وبرغم اختتامه بـ”على الرغم من كل ما يدور حولنا، أنا ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية.” إلا أنني أريد أن أصرّح له إن الخطاب كان مليء بالنزعة الوطنية التشاؤمية والسوداوية. أين الاحتفاء بالأمجاد؟ أين السعادة، أين الفخر بالوطن وبنفسه ككاتب حقق لتوه إنجازًا عظيمًا يتصارع عليه الأدباء؟
لم أحبذ مطلقًا تعميمه لنظرة الغرب لنا كبلاد عربية متأخرة واعتقاده أن الحاضرين يستنكرون كيف فاز شخص مثله بنوبل للآداب. لم أحبذ أيضًا تواضعه الزائد الذي صوره في موضع شخص جاهل من بلاد متأخرة لم يكن يجب له أن يفوز بالجائزة. ولربما هذا يعود لوطنيته الشديدة وكرهه لبلاد الغرب. ولكن لم يكن يجب عليه أن يختزل فرصة عظيمة كهذه للتنديد بكل مساوئ ومآسي العالم الثالث ويجلب الحزن والكآبة في نفوس الحاضرين!
والجدير بالذكر أنه لم يقرأ خطابه بنفسه، حيث إنه لم يستلم الجائزة بنفسه أيضًا لخوفه من ركوب الطائرات، بل استلمها له صديقه الكاتب المصري محمد سلماوي.
في اعتقادي أن نجيب محفوظ بشحمه ولحمه كان يستطيع أن يكتب لونًا أفضل من هذا في مناسبة كتلك. أين التفاؤل الذي تتحدث عنه؟ بعض من التشجيع، والحماس، الفرحة أو النصائح أو الشكر لأي من عناصر النجاح، كانت لتساهم في مساعدة محبينه في الحذو على خطاه.
لم يكن هذا خطاب استلام لجائزة، بل كان خطابًا يصلح للسادات في اجتماع دولي لمنع اندلاع الحروب بين البلاد أو العكس، الحث على الحرب للدفاع عن المجاعات والجرائم وحل مشكلات العالم الثالث أجمع.
كان خطابه غريبًا عن المعهود في خطابات استلام الجوائز، وغلبته الواقعية القاتمة. اختار نجيب محفوظ التحدث باستفاضة عن الحضارتين الفرعونية ومن ثم الإسلامية اللتان نشأ منهما. ولم يخشَ الالتفات عن حقيقة نشأته من بلاد العالم الثالث. وتواضعه الشديد حتمًا أدى إلى استصغاره في كثير من الأحيان.
في النهاية سأترك لك عزيزي القارئ رابط الخطاب لتقرأه بنفسك، حيث لم تكن اللحظة مُسجلة كما في الخطابات الفائتة. ولا تتردد في التعليق ومشاركة رأيك معنا.