من حكايا القاهرة القديمة: قصة كفاح الجوزة.. وسفاح الملوخية!

في كل خطوة تخطوها داخل حارات وشوارع القاهرة القديمة فأنت تلج إلى قلب التاريخ، هذا الدُخان الذي تستنشقه وأنت تسير في الشارع دونما حذر، من الممكن أن يكون هذا الشارع الذي مررت به قد شهد الوالي وإلى جانبه الأغا وهو يُطعم أحدهم الحجر بما فيه من نار عقابًا على فِعله لفعلته!
وتلك النارجيلة التي تشربها في المقهى وفي المنزل المعروفة لدينا باسمي الجوزة والشيشة، قد تكون لا تعرف كم عانت حتى وصلت إليك في هذه اللحظة! وهل كان هذا هو شكلها منذ أن ظهرت أم طرأ عليها من التغيّر ما يجعلها لا تملك من الزمن العتيق سوى اسمه!

وهذه البقعة التي تقف عليها، لعل الحاكم ذات يوم قد أراق دماءً فوقها، وهذا الشارع عساه شهد من تمردات الجند ما يصعب إحصاؤها، وإذا مررت داخل أحد الأسواق لتكتشف أن أحد التجار يغش زبائنه، فلو يعرف هذا التاجر ما كان يفعله الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي في التجار الذين يغشون فلعله لا يجرؤ على فعلها مرة ثانية!

في كتابه “ملامح القاهرة في 1000 سنة” ستجد الغيطاني يحاول جاهدًا فعل شيءٍ ما، كإنقاذ ما تبقى من أطلال القاهرة القديمة بعد موجة التحديث التي غمرت الأرجاء، فقرر أن يمنحنا جزءًا مما يدور في ذاكرته التي هي في الأصل ذاكرة القاهرة القديمة بكل ما فيها من مقاهٍ وشوارع ومنازل وأسواق.

الدُخان.. مسيرة داخل الخياشيم كلَّلها النجاح!

“مقاهي القاهرة: عالم فريد متشابك العناصر، يحوي الملامح الإنسانية العامة، وله أيضًا سماته الخاصة جدًا.
في مقاهي القاهرة يجلس الناس حول المناضد متواجهين، يتبادلون النجوى والأحاديث والأشواق الإنسانية والمصالح المادية، وقضاء الحاجات وعقد الصفقات، وثمة من تلفه الوحدة؛ يجلس محملقًا في الفراغ، وقد يحاول قهر وحدته بحديثه إلى جار لا يعرفه، ربما بدأت بينهما علاقة قوية قد تستمر عمرًا، وربما لم تعش أكثر من حدود اللقاء”[1]

لم أجد كلمات أفضل من هذه تصف المقاهي وما يدور فيها، ولعل هذه الكلمات توضح لنا مدى الارتباط الروحي لكاتبها مع هذا المكان الذي يحمل نفس الاسم -مقهى- ويكون في أماكن مختلفة وشوارع بعيدة عن بعضها إلا أنه يمنحك نفس مشاعر الشجن والاحتضان وهذا على حد قول الكثير من رواد المقاهي.

إعلان

وارتباط المقاهي بالدُخان لا يُمكن فصله، فكما يتركب الماء من جزيئات أكسجين وهيدروجين يتكون المقهى من الجوزة والدُخان والطاولة والدومينو والقهوة والشاي وغيرهم. ويذكر الغيطاني أن وقت دخول الدخان لمصر كان في عام 1012 من الهجرة، وقد جرت وقتها الكثير من المشكلات بسببه حيث قام علماء المُسلمين بتحريمه، وكان مدخنوه يُطارَدون كما يُطارَد مدخنو الحشيش في العصر الحالي، ويُكمل الغيطاني حديثه مستشهدًا بالجبرتي: أنه بعد صدور قرار منع تعاطي الدخان كان الوالي ينزل هو والأغا إلى الشارع، فإذا وجد الوالي شخصًا يتعاطى الدُخان يعاقبه عقابًا أحيانًا ما يصل إلى إطعامه الحجر الذي يوضع فيه الدُخان بما فيه من نار!

الجدير بالذكر أن هذه كانت حالة الدُخان قديمًا عند بداية دخوله، أما في العصر الحالي فكما ذكرنا مُسبقًا قد صار علامة أساسية من علامات المقاهي في شتى محافظات مصر وليس القاهرة فقط، وحتى إذا تطرقنا إلى رأي علماء الدين في هذا الأمر فسنجد أنه عند بعضهم قد تحول من النقيض إلى النقيض، ولعلي في هذا الصدد أذكر أنني شاهدت صورة للشيخ محمود خليل الحصري ممسكًا بالسيجارة، وقيل أنه كان يُدخِّن قبل أن تصدر الفتوى بتحريمها، كما أنني رأيت العديد من الصور التي يظهر فيها العلامة أبو فهر محمود محمد شاكر وهو يُدخِّن السجائر، وهذا الكلام لا يعني مُطلقًا التقرير بإباحة الدُخان أو حتى عكسه فهذه ليست وظيفتي وليست هي المغزى من طرح الموضوع، ولكني فقط أرصد التباين بين موقف رجال الدين قديمًا وحديثًا باعتباره موضوعًا تاريخيًا في الأصل.

الجوزة.. “الحلو اللي بهدلته الأيام وجار عليه الزمن”!

الجوزة
تصوير: أحمد مصطفى

يقول الغيطاني: “النرجيلة مشتقة من لفظ النارجيل، وهو الاسم الذي يُطلق على ثمر جوز الهند، يمكن القول أن ترجمته الحرفية تعني الجوزة، وهو الاسم الذي تعرف به النرجيلة الشعبية في مصر، لأنها كانت مكونة فعلًا من ثمرة جوز هند مفرغة، وتثقب مرتين: ثقب يوضع فوقه الحجر، وثقب تنفذ من خلاله أنبوبة خشبية يتم من خلالها استنشاق الدخان الذي يمر خلال الماء الموضوع في الجوزة نفسها”.[2]

ويرجع سبب تغيُّرِ شكل الجوزة إلى ارتفاع أسعار ثمار جوز الهند، مما أدى إلى استبدالها بحلول عملية أخرى: مثل علبة من الصفيح أو الزجاج، وبالنسبة لما نعرفه حاليًا باسم “اللّي” فقد كان قديمًا عبارة عن عود خشب، وبالرغم من أن الجوزة لم تتخلَّ عن اسمها فقد تخلت كثيرًا عن شكلها؛ فقد تشاهد أحدهم اليوم قد صنع الجوزة من عُلبة البيرسول، وصنع اللّي للشيشة من البوص!
وهكذا تظل الجوزة صامدة ومُحافظة على نفسها على الرغم من ظهور وسائل التدخين المُستحدثة مثل الفيب والبايب، ولكنها تبقى ملجأَ المواطن البسيط والفلّاح الغلبان وأولئك الذين يرغبون في الموت على الطريقة الكلاسيكية القديمة.

فمن يُعيد لك المقاهي!

من نوادر المقاهي التي ذكرها الغيطاني في كتابه: وجود مقهى بالسيدة زينب يُسمّى “المضحكخانة”، وكان هذا المقهى يشترط على راغبي الدخول فيه قول دُعابة -أو نكتة-، فإذا حازت القبول المرجو وافقوا على دخول هذا الرجل للمقهى[3]، فتخيَّل لو عاد المضحكخانة من جديد فمن من أصدقائك سوف يكون زبونًا دائمًا ومن الذي سيطردونه شر طردة؟
ولأن النفس لا ترتاح إلا مع مثيلاتها؛ فالأنفس المُنهكة يجب أن تجلس مع أنفس مُنهكة أخرى لكي لا تشعر أن هناك خطأً ما، فكان هناك أيضًا في شارع محمد علي مقهى للمنجدين، وآخر في باب الشعرية لعمَّال الأفران البلدي، وبجانب سينما كايرو في القاهرة كان هناك مقهى خاصٌّ بالخُرس.

الحاكم بأمر الله.. سفّاح الملوخية!

تخيّل أنه يتم اقتيادك من منزلك وجلدك في الشارع، وفصل رأسك عن جسدك؛ لأن الخليفة قد مر من أمامك وقد أدرك-ربما بحاسة الشم- أنك تأكل الملوخية ففعل بك كل هذا!
هذا الذي تراه عبثًًا قد حدث في يومٍ من أيام القاهرة الحافلة بالحكايات والأحداث، حيث أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله قد أمر بمنع أكل الملوخية وذلك لزعمه أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت تحب تناولها، والحقيقة أن الملوخية لم تكن وحدها من الأشياء التي قام غريب الأطوار ذلك بمنعها، فقد قام بحرق محاصيل الكروم وعلَّته في ذلك منع تصنيع الخمور، وقام بمنع خروج النساء من المنازل والنظر من الشبابيك، ومنع تناول التمور، ومنع صيد السمك الذي لا قشر له.[4]

وقد كان الناس يرهبونه ويعملون له ألف حساب لفظاعة أعماله وقربها إلى الجنون، فمن الأمور التي ذكرت في بدائع الزهور لابن إياس: أنه كان يسير في الأسواق ومعه خادم أسود يُسمى مسعود، فإذا اكتشف غش أحد الباعة أمر مسعودًا هذا أن يفعل مع هذا التاجر الفاحشة في دكانه وأمام الناس كافة![5]
وقد مر ذات يوم على حمَّام الذهب وهو من الحمامات العامة في مصر فوجد فيه النساء وقد ترامى إلى أذنيه صوت صخبهم؛ فأمر بأن يتم غلق الحمام عليهم ففُعل حتى هلكوا داخله![6]

وقد ذكر ابن إياس أيضًا أنه في عامٍ 387 من الهجرة انخفض منسوب النيل وعمَّ الغلاء في البلاد وسارع كُلٌّ إلى تخزين الغلال في منازلهم، فلما بلغه ذلك أعلن أنه سوف يسير في الغد قاصدًا مسجد راشدة وسيعود، فإذا عاد ووجد بقعة في الأرض قد خلت من الحبوب فسيقطع رأس صاحبها في التو، فعاد فوجد ما أراده بالفعل وقد امتلأ المكان بالحبوب، وأصدر حينها تسعيرة تحدد أسعار الحبوب لمنع الاستغلال.[7]

السِحْلية التي اعتلت الخلافة!

أطلق عليه مُعلمه لقب السِحْلية نظرًا لطريقته في تعامله وتسلله بين الرعايا، إذ إنه يفعل ذلك تمامًا كما السحلية.[8]
وقد تقتنع بأنه يستحق بالفعل لقب السحلية عندما تعرف موقفه من ردود أفعال الأوساط الحاكمة بعد قيامه بقتل برجوان الخادم الذي تسلط على الحكم وأصبح يملك مقاليد الأمور، فقد شعر الأتراك بأنه قد تم طعنهم من أعدائهم اللدودين -البرابرة الكتاميون-، وقد خاف البرابرة الكتاميون على أنفسهم من هذا الشخص الذي كما يقول المثل الشعبي: “كان في جرة وطلع لبرة”؛ فبعد أن كان مُسالمًا للغاية لا يُرجى منه شيء قام بهذه الحركة المُفاجئة وقتل برجوان ليخلص له الحكم بدون وصاية.
إلا أنه قد سارع بتهدئة الأوضاع فأصبح يُثني على الجميع فتارةً يقول للكتاميين أنهم هم شيوخ دولته، وتارةً أخرى يقول للترك أنهم تربية والده العزيز، كما أنه قد أراد تهدئة الأوضاع بالنسبة للعامة حتى يأمن مكر الجميع فوعدهم بتلبية المطالب ورفع الكثير من الضرائب، وأن شكاواهم ستُرفع إليه مباشرة.

ولأن الشبل الصغير قد كَبُر وقد صار أسدًا ولم يدر أحدٌ به، وقد أدرك هو أنه صار كذلك؛ فبدأ في التصرف كما يتصرف الخلفاء والقادة الذين لا يحبون أن تستوي الرؤوس معهم؛ فقام بتحريض الأتراك على قتل الحسن بن عمار -زعيم الكتاميين- لكي يضمن عدم وجود منافس له، ولم يكتفِ بذلك بل قام بقتل معاونيه ورجاله، فخاف الكتاميون على أنفسهم وهرعوا إليه طالبين الأمان.[9]
ويُرجِع الدكتور محمد سهيل طقوش السبب في تصرفات الحاكم بأمر الله التي يراها الجميع دموية إلى ما لاقاه من حرمان لممارسة سلطاته الفعلية على أيدي برجوان والحسن بن عمار، فلم يجد وسيلةً لتوطيد حكمه وجعله الخليفة القوي مرهوب الجانب سوى السيف.

السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ
في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

نرشح لك قهوة الفيشاوي

[1]كتاب ملامح القاهرة في 1000 سنة لجمال الغيطاني. دار نهضة مصر. ص 3.
[2]المصدر السابق. ص 21.
[3]المصدر السابق. ص 12.
[4]بدائع الزهور في وقائع الدهور لإبن إياس. ج1. ص 199.
[5]المصدر السابق. ص 201.
[6]المصدر السابق. ص 199.
[7]المصدر السابق. ص 205.
[8]تاريخ مصر في العصور الوسطى. ستانلي لينبول. الدار المصرية اللبنانية. ص 260.
[9] تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام. محمد سهيل طقوش. دار النفائس. ص 264.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: إبراهيم أحمد إبراهيم

تحرير/تنسيق: خالد عبود

اترك تعليقا