حاكم مصر المفترى عليه

إذ أننا نمر بظروف سياسية ودولية فى غاية التعقيد، ولتشابه الأمس باليوم، فلا بد من الرجوع إلى تاريخنا منذ نشأة الدولة الحديثة على يد محمد على باشا، لنفهم ونقدر أهمية “أم الدنيا” فى نظر الخارج وتخوف الغرب بصفة خاصة من صحوة الدولة المصرية وتحديثها.

منذ أن تولى محمد علي حكم البلاد عام 1805، سعى إلى إخراج مصر من دائرة حكم السلطان العثماني، واستخدم الدبلوماسية للحصول على بعض الاستقلالية مقابل الخدمات التى كان يؤديها للباب العالى، خاصة مع مساندة الجيش المصري (فى البداية) للجيش التركي، وكان لمحمد علي عدة أبناء، أهمهم كانوا: ابراهيم باشا وأحمد طوسون باشا ومحمد سعيد باشا، وكان ابراهيم باشا، الأكبر سنا، ابن محمد على بالتبني، فقد كانت والدته أمينة ابنة عم أو خال محمد علي، وقد طلقت من أحد العثمانيين وهى حامل ثم تزوجت من محمد علي، فظل سر التبني قائم إلى وقت قريب.

لذلك فقد اهتم محمد علي بتمييز أبناءه الآخرين، ففى حين أنه أرسل إبراهيم لملاحقة المماليك فى الصعيد، عين ابنه أحمد طوسون وهو فى السادسة عشر من عمره قائدا للجيش المصرى فى أول حرب ضد الوهابيين بالحجاز، لكنه قتل هناك، مما اضطر محمد علي للذهاب بنفسه إلى الحجاز لخوض الحرب بها، أما إبراهيم باشا فقد أبلى بلاءا حسنا فى كل ما كلف به من محمد علي، فتولى عملية تأسيس جيشا مصريا حديثا بمعاونة صديقه الفرنسى الكولونيل سيف (الذى أسلم فيما بعد وأصبح سليمان باشا الفرنساوى). وكانت لإبراهيم باشا انتصارات عديدة فى الحجاز والشام واليونان، ووصل إلى أبواب اسطنبول لخلع الخليفة العثماني، لولا تدخل الأوروبيين واضطرار محمد علي لإصدار أوامره بالتراجع.

تولى إبراهيم باشا حكم مصر لفترة سبعة أشهر عندما مرض محمد علي، ثم توفى بمرض السل قبل وفاة محمد علي ، وتولى الحكم من بعده عباس حلمى الأول، ابن أحمد طوسون (ابن أمينة أيضا)، فانغلق وامتنع عن أى تعاون مع الخارج، وأوقف كل المشاريع التحديثية التى أسسها محمد علي وابراهيم باشا، مفضلا الإقامة بعيدا عن كل الناس فى قصره ببنها، حيث قام بإغتياله بعض العاملين بالقصر.

ثم تولى الولاية محمد سعيد باشا، ابن محمد علي من زوجته الثانية “عين الحياة”. فكان أكثر انفتاحا على الخارج، وكان إنجازه الذى اشتهر به التوقيع على حق إمتياز حفر قناة السويس لديليسبس. وعند وفاته عام 1863، تولى حكم مصر فى 18 يناير عام 1863 إسماعيل باشا ، ابن ابراهيم باشا، (الفرع الآخر من عائلة محمد علي)، وبدأ توريث الحكم الفعلى بلا تدخل من السلطان العثماني، فكان أبناء الخديوى إسماعيل من حكام مصر هم: الخديوى توفيق، الخديوى عباس حلمي الثاني، السلطان حسين كامل، الملك فؤاد الأول، ثم ابن فؤاد الملك فاروق ثم ابنه الملك أحمد فؤاد الثانى. وقد كان إسماعيل باشا وطنيا محبا لمصر، سار على طريق جده وأبيه فى طريق تحديث الدولة المصرية، ورغم ذلك لايزال البعض يطلق عليه الافتراءات بسبب ديون مصر التي بررت للإنجليز إحتلال البلاد، ولهؤلاء سأذكر بعض الحقائق عن إنجازات الخديوي إسماعيل (لاتقل عن إنجازات محمد علي )، وبعض الحقائق عن الديون المصرية.

إعلان

إنجازات الخديوي إسماعيل

  1.  أقام الخديوي إسماعيل بمصر حكومة إصلاحية، فقامت بأول عملية إصلاح قانوني وتشريعي، بعد أن كان القضاء لايزال يعمل بنظام قاضى الأرياف الذى لايعلم شيئا عن العالم الخارجي. وكان نتيجة هذا الاصلاح إنشاء المحاكم المختلطة بما يمكن للقضاء المصرى محاكمة الأجانب، فى حين كانوا يسلموا قبل ذلك إلى قنصليات بلادهم لمحاكمتهم عن جرائم ارتكبوها بمصر. كما قد تم سداد مبلغ 72 مليون فرنك تعويضات للجاليات الأجنبية التى كانت تتحايل على الدولة بإستغلال الفراغ التشريعي القائم قبل التعديلات وقيام المحاكم المختلطة.
  2. أقام الخديوي إسماعيل نظام مالى جديد يسمح بالمحاسبة الضريبية العادلة وفقا لنظام تصاعدى. وأسس موازنة للدولة منفصلة عن موازنة الدايرة (القصر).
  3.  أصر الخديوي إسماعيل على التخلص من تجارة العبيد نهائيا، حتى أنه فرضها على كل الأقطار الأفريقية الواقعة تحت حكم البلاد. كما أصر على تطبيق المساواة بين كل المواطنين أيا كانت خلفيتهم الدينية، فأرسى مبدأ الوحدة الوطنية لأول مرة فى مصر.
  4.  قام باعلاء شعار “مصلحة الشعب وسعادة الشعب”، مما اضطر الدول الأوروبية إلى قبول مبادىء الحكومة المصرية عندما كانت تصطدم بمصالحهم التجارية.
  5.  أسس الخديوي إسماعيل أول برلمان مصرى (مجلس نواب الشعب)، والذى بدأ أول أعماله باعتماد ميزانية الدولة فى يوليو 1871.
  6. واجه الخديوي إسماعيل مشكلة تفتيت الملكية الزراعية عن طريق شراء أراضى الغير قادرين على زراعتها والتعايش من عائدها.
  7. قرر الخديوي إسماعيل إلغاء نظام السخرة نهائيا، بما فى ذلك عمالة السخرة فى حفر قناة السويس. وفى ذات الوقت استرجع من شركة القناة 80% من الأراضى التى كانت قد تملكتها بموجب حق الإمتياز. وقد تحملت مصر فى ذلك الوقت تكلفة إلغاء هذين البندين مبلغا قدره 124 مليون فرنك. (يقدر بمليارات الآن). ووافق على سداد هذا المبلغ الضخم حتى لاينتقص شيئا من سيادة مصر على أرضها، ومن كرامة العامل المصري.
  8.  حصل الخديوي إسماعيل من تركيا على حق توريث الحكم لأبناءه دون أى تدخل منها كما حصل على لقب الخديوي، والذى يعنى الملك المهيمن، وتم ذلك عام 1866. وقد اضطر أيضا لسداد مقابل هذا الاستقلال الجزئي، أما عن الديون المصرية، فأعداء تحديث مصر يقولون أن سببه كان البذخ فى احتفالات إفتتاح قناة السويس، إلا أن أرقام تلك المصاريف تذوب عندما ننظر إلى كل الإنجازات المذكورة أعلاه والتعويضات المسددة لشركة القناة.

يضاف إلى ذلك كله الآتى:

  • تم انشاء العديد من قنوات الرى والسدود، وتم إعادة إحياء ترعة المحمودية وتطهيرها، وتم استصلاح ألاف الأفدنة، طبعا بالأضافة إلى ترعة الإسماعيلية.
  •  تم إنشاء شبكة خطوط سكك حديدية للمسافات البعيدة.
  •  تم إنشاء نظام البريد وجميع مبانى البريد فى كل التجمعات السكانية.
  • تم إنشاء عدد كبير من المدارس ولأول مرة العديد من مدارس البنات.
  • تم إنشاء العديد من المصانع، وخاصة مصانع الطوب.
  • تم انشاء المتحف المصرى، والأوبرا المصرية.
  • تم انشاء حى وسط القاهرة (الخديوية) بالأستعانة بمهندسى باريس (معاونى هوسمان).
  • تم انشاء مدينة الخرطوم (العاصمة الحالية) بالسودان. كرهت أوروبا هذا الحاكم المصلح المتمسك بمصريته. فكان الخداع الذى قامت به البنوك الأوروبية لحساب فوائد تراكمية للديون، بما سمح لها بفرض الوصايا المالية على مصر.

وعندما ضجر اسماعيل باشا من هذه الوصايا، حاول تنظيم تحرك من الجيش لإسترجاع كامل استقلال البلاد، فما كان من الإنجليز بمعاونة شركة قناة السويس إلا الضغط على السلطان العثمانى لخلع إسماعيل باشا، وتم ذلك عام 1879، وعزل إسماعيل باشا وتم نفيه خارج البلاد، واختارت بريطانيا ابنه توفيق الموالى لهم لحكم مصر. وفى عام 1882 جاءت بقواتها لاحتلال مصر. فلنحذر من هؤلاء الذين يشوهون صورة حكامنا ويبررون التصرفات الاستعمارية، فالتاريخ يتكرر أحيانا.

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك

كريم البكري يكتب للمحطة الدماغ التي تبحث عن كل ما ھو « إسلامي »

الكردي الذى حكم مصر

مراجعة فيلم After the dark استخدام ذكائنا للنجاة في حياتنا

 

إعلان

اترك تعليقا