جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2021

  • قررت الأكاديمية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام إلى العالِمين (بنيامين ليست) و(ديڨيد ماكميلان)؛ تقديرًا لجهودهما في ”تطوير التحفيز العضوي غير المتناظر“. فما هو التحفيز العضوي “غير المتناظر”؟ ولم يستحق هذان العالمان جائزة نوبل؟

ما هو التحفيز العضوي (Organocatalysis) وما هي المحفزات العضوية (Organocatalysts) أولًا؟

كما يعرف الجميع، الكائنات البيولوجية المعقدة هي عبارة عن تجمعات من الخلايا التي تقوم بأداء الوظائف الحيوية التي تبقينا على قيد الحياة. التفاعلات البيوكيميائية التي تحدث داخل الخلايا تحتاج إلي مواد تدعى ”الإنزيمات“. هذه المواد هي عبارة عن بروتينات عضوية تسرع أو تحفز التفاعلات البيوكيميائية داخل الخلايا. يا ترى بدون وجود هذه الإنزيمات كم ستستغرق هذه التفاعلات؟ دقائق، ساعات، أيام، شهور؟

في أحد الدراسات المنشورة علي دورية (PNAS) قام عالمي الكيمياء والفيزياء الحيوية (تشارلز لويس) و(ريتشارد ولفندن) بحساب المدة التي سيستغرقها أحد التفاعلات البيوكيميائية الذي يتم من خلاله تخليق جزيئات الهيموجلوبين (البروتين الذي يحمل الأكسجين من الرئتين إلى خلايا الجسم والموجود داخل كرات الدم الحمراء) وجزيئات الكلوروفيل (الصبغيات التي تعطي النباتات لونها الأخضر وتشارك في عملية البناء الضوئي والتي تعد أهم عملية حيوية علي كوكب الأرض) في غياب الإنزيم الذي يحفز أو يزيد من سرعة هذا التفاعل ووجدوا أنه في غياب هذا الإنزيم، هذا التفاعل سيستغرق 2.3 بليون سنة. في وجود هذا الإنزيم التفاعل يستغرق أجزاء من الألف من الثانية فقط [1]. بدون الإنزيمات، لا حياة.

الإنزيمات هي محفزات عضوية حيوية تسرع التفاعلات البيوكيميائية داخل أجسام الكائنات الحية، لكن ماذا لو أردنا إجراء تفاعلات كيميائية مشابهة لهذه التفاعلات البيوكيميائية خارج خلايا أجسام الكائنات الحية في مختبرات الكيمياء بهدف تصنيع الأدوية مثلًا؟ أي نوع من المحفزات سنستخدم؟ فبدون المحفزات لا يمكننا إجراء هذه التفاعلات.

في الماضي اعتمد علماء الكيمياء العضوية أثناء إجراء عمليات التخليق الكيميائي للمركبات الكيميائية (العملية التي يتم من خلالها إجراء تفاعل كيميائي واحد أو أكثر بهدف تحويل مواد أولية متفاعلة إلى مواد أخرى مختلفة ناتجة) في مختبرات الكيمياء بشكل كبير على نوعين من المحفزات: الإنزيمات العضوية الموجودة داخل أجسام الكائنات الحية، المعادن غير العضوية مثل النيكل والحديد والبلاتينوم والبالاديوم.

إعلان

الإنزيمات غالبًا ما تكون صعبة التخليق خارج أجسام الكائنات الحية، فكان العلماء يحصلون عليها من خلال فصلها باستخدام طرق معينة من مصادرها الحيوية مباشرةً. لكن مشكلة الإنزيمات هي أنها تعمل بكفاءة عالية جدًا داخل أجسام الكائنات الحية، لكن تحت الظروف المختبرية (عندما تتطلب عملية التخليق الكيميائي تبريد أو تسخين شديد أو استخدام مذيبات معينة مثلًا)، لا تعمل الإنزيمات بالكفاءة المطلوبة ولذلك فمدى الإنزيمات كمحفزات غير حيوية خارج خلايا الجسم ذات مدى محدود. المعادن في الجهة المقابلة متوفرة في طبقات الأرض وعلى النقيض من الإنزيمات فهي تعمل كمحفزات عالية الكفاءة خارج أجسام الكائنات الحية. لكن مشكلة المعادن هي أنها تتسبب في خروج مواد سامة خطيرة وملوثة للبيئة مع نواتج سلسلة تفاعلات عملية التخليق الكيميائي، وأيضًا هذه المعادن غير مستقرة كيميائيًا حيث تتأثر بالرطوبة وأكسجين الهواء.

مع الزمن تمكن العلماء من التعرف علي جزيئات عضوية بسيطة، ورخيصة، وصديقة للبيئة نسبيًا، متوفرة ويمكن تحضيرها بسهولة في خطوات بسيطة وسريعة إن لم تكن متوفرة بشكل مباشر، مستقرة تحت تأثير الظروف البيئية وتستطيع تحفيز العديد والعديد من التفاعلات الكيميائية العضوية المعقدة خارج خلايا أجسام الكائنات الحية بكفاءة مماثلة لكفاءة الإنزيمات كمحفزات حيوية داخل الخلايا (Enzyme catalysts) والمعادن غير العضوية خارج الخلايا (Organometallic catalysts)، وأطلقوا عليها اسم المحفزات العضوية (Organocatalysts) [2].

ما هو التحفيز العضوي “غير المتناظر” (Asymmetric Organocatalysis)؟

المحفزات لا يجب أن تزيد من سرعة التفاعلات الكيميائية وحسب، بل يجب أن تحفز هذه التفاعلات بطريقة غير متماثلة، فالمعادن والإنزيمات تحفز التفاعلات بطريقة غير متماثلة لكن هناك مشاكل أخرى تحد من استخدامهم ذكرتها بالأعلى، المحفزات العضوية تحفز التفاعلات الكيميائية بطريقة غير متماثلة بنفس الكفاءة وبدون هذه المشاكل، فما هو التحفيز غير المتناظر؟

الجزيئات الكيميائية العضوية لها هندسة فراغية. قد يحتوي جزيئين من الجزيئات الكيميائية علي نفس نوع وتسلسل الذرات المترابطة لكن الترتيب الفراغي أو الهندسة الفراغية لهذه الذرات يكون مختلف (لهما صيغة فراغية مختلفة) وبالتالي يتم اعتبارهما جزيئين مختلفين بالرغم من أن فيهما نفس نوع وتسلسل الذرات لأن اختلاف هندستهما الفراغية يكسبهما خصائص مختلفة تمامًا عن بعضهما، ونطلق عليهما مصطلح (Enantiomers). على سبيل المثال في هذه الصورة:

تجد جزيئين لهما نفس نوع وتسلسل الذرات المترابطة لكن الاختلاف في الهندسة الفراغية لذرة الكلور [Cl] ومجموعة الهيدروكسيل المكونة من ذرة أكسجين وذرة هيدروجين [OH]، في الجزيء الأيمن تجد مجموعة الهيدروكسيل متصلة بذرة الكربون بخط متقطع، في الكيمياء الفراغية (Stereochemistry) هذا يعني أنها مرتبطة بذرة الكربون من الناحية الخلفية، في حين ذرة الكلور مرتبطة بذرة الكربون المجاورة من الناحية الأمامية بخط متصل. في الجزيء الأيسر العكس، الهيدروكسيل من الناحية الأمامية والكلور من الناحية الخلفية.

عند إجراء عمليات التخليق الكيميائي، يحصل العلماء في نواتج التفاعل علي جزيئات كيميائية من هذا النوع. جزيئات لها نفس نوع وتسلسل الذرات المترابطة لكن بأشكال فراغية مختلفة. شكل فراغي معين من هذه الأشكال الفراغية هو المطلوب فقط وهو ما يصلح لعمليات تصنيع الأدوية وغيرها من المواد الأخرى.

في الكيمياء الفراغية، هناك مفهوم يطلق عليه مفهوم اليدوية (Chirality)، الجزيء الكيميائي قد يكون (كايرالي Chiral) أو (غير -كايرالي Achiral)، الجزيء الكيميائي الكايرالي هو جزيء يحتوي في بنيته الذرية علي ذرة كربون متصلة بأربع مجموعات مختلفة من الذرات. المركب غير – الكايرالي هو مركب لا يحتوي علي أي ذرات كربون متصلة بأربع مجموعات مختلفة من الذرات. على سبيل المثال في هذه الصورة:

في الجزيء الأيمن ذرة الكربون متصلة بذرة هيدروجين وذرتى بروميد ومجموعة ميثيل مكونة من ذرة كربون متصلة بثلاث ذرات هيدروجين [CH3]، وعليه هو جزيء غير–كايرالي لأن هناك ذرتان متماثلتان مرتبطتان بذرة الكربون، في حين الجزيء الأيسر جزيء كايرالي، بدلًا من ذرتي البروميد هناك ذرة بروميد ومجموعة هيدروكسيل [OH]، متصلين بذرة الكربون وعليه فذرة الكربون هكذا متصلة بأربع مجموعات مختلفة من الذرات.

المحفزات العضوية كغيرها من المركبات الكيميائية العضوية قد تكون كايرالية أو غير–كايرالية. عندما تكون كايرالية يمكنها أن تحفز التفاعلات الكيميائية بطريقة فراغية انتقائية (Stereoselective)، بمعنى أنها تجعل التفاعلات الكيميائية تنتج كميات كبيرة من الأشكال الفراغية التي نحتاجها نحن فقط وكميات أقل من الأشكال الفراغية التي لا نحتاجها [2]،[3].

بعض الأمثلة على المحفزات العضوية.

يوجد أنواع متعددة من المحفزات العضوية، سأذكر فقط المثالين اللذين حصدا جائزة نوبل لهذا العام في الكيمياء:

– البرولين [Proline] (عام 2000، بنيامين ليست) [4].
– الإيميدازوليدينون [Imidazolidinone] (نفس العام ديڨيد ماكميلان) [5].

عام 2000 استخدم العالم بنيامين ليست وفريقه البرولين في تحفيز أحد التفاعلات الكيميائية الذي يطلق عليه تفاعل ألدول (Aldol reaction). وفي نفس العام استخدم العالم ديڨيد ماكميلان وفريقه الإيميدازوليدينون في تحفيز نوع آخر من التفاعلات الكيميائية الذي يطلق عليه تفاعل دايلز-ألدر (Diels-Alder reaction) للحصول على نواتج لها أشكال فراغية مناسبة بكميات كبيرة تصلح لعمليات التصنيع المختلفة.

هذه الصورة مأخوذة من ورقة ليست:

تمثل تفاعل ألدول (تفاعل يتم فيه تكون رابطة أحادية بين ذرتي كربون في جزيئين مختلفين وهو ما ينتج عنه دمج الجزيئين مع بعضهما البعض) بين كيتون (الكيتون هو جزيء عضوي يحتوي على ذرة كربون متصلة برابطة ثنائية بذرة أكسجين) وألدهيد (الألدهيد هو جزيء عضوي يحتوي علي ذرة كربون متصلة برابطة ثنائية بذرة أكسجين ورابطة أحادية بذرة هيدروجين)، وعلى السهم يوجد جزيء البرولين كمحفز عضوي للتفاعل بينهما. والناتج هو المركب ذو الشكل الفراغي الذي نحتاجه بكمية كبيرة.

هذه الصورة مأخوذة بتصرف من ورقة ماكميلان:

تمثل تفاعل دايلز-ألدر (تفاعل يتم فيه تكون حلقة مكونة من ست ذرات كربون بين اثنين منهما رابطة ثنائية) بين ألدهيد غير مشبع (أي يحتوي على روابط ثنائية بين ذرتي كربون) وديين (جزيء كيميائي يحتوي علي رابطتين ثنائيتين مفصولتين برابطة أحادية)، وعلى السهم يوجد جزيء الإيميدازوليدينون كمحفز عضوي للتفاعل. كما ترون في نواتج التفاعل هناك ناتجين متماثلين في نوع وتسلسل الذرات المترابطة ونسبة أحدهما إلي الآخر بالأسفل (er=enantiometric ratio) هي (98:2). يعني أحدهما تم إنتاجه بكمية كبيرة مقارنة بالآخر.

الآلية التي يحفز من خلالها المحفز العضوي الكايرالي تفاعل غير متماثل آلية معقدة جدًا لا يمكن شرحها هنا. أنت ترى في هذه الصور مجرد المواد الابتدائية والمواد النهائية وعلى السهم المواد التي تم استخدامها لإجراء التفاعل فقط. لكن هناك الكثير من الخطوات المحذوفة والتي حصلت حتي تحولت المواد الإبتدائية إلى المواد النهائية.

بعد أن نشر هذان العالمان هذه النتائج في عام 2000، شهدت الأعوام بعد عام 2000 تطورات وتقدمات كبيرة في مجال التحفيز العضوي غير المتناظر، نتائج هذان العالمان فتحت الطريق أمام تطوير واكتشاف المزيد من المحفزات العضوية من فرق بحثية مختلفة في كل أنحاء العالم وانتشر استخدام المحفزات العضوية في كل مكان وفي العديد من المجالات.

بعض تطبيقات المحفزات العضوية.

يتم تخليق عدد كبير من الأدوية باستخدام المحفزات العضوية، على سبيل المثال بعض أدوية ارتفاع ضغط الدم والڨيتامينات مثل ڨيتامين E والأدوية النفسية المضادة للقلق والاكتئاب والأدوية المضادة لبعض الڨيروسات. كل شركات الأدوية الكبرى تستخدم الآن المحفزات العضوية من أجل الحفاظ على البيئة. يتم إنتاج العطور ومستحضرات التجميل المختلفة بواسطة المحفزات العضوية. يتم تصنيع البلاستيك والبوليمرات التي تدخل في صناعة العديد من الأشياء بواسطة المحفزات العضوية. يتم تصنيع المواد الحافظة ونكهات الغذاء بواسطة المحفزات العضوية. يتم تصنيع المواد الكيميائية الزراعية مثل مبيدات الآفات ومبيدات الأعشاب ومبيدات الفطريات ومبيدات الحشرات والأسمدة بواسطة المحفزات العضوية. آلاف المواد التي نستخدمها في حياتنا اليومية أساسها التحفيز العضوي غير المتناظر. وفوق ذلك فهذه المحفزات آمنة ورخيصة وعالية الكفاءة ومتوفرة. [6]

لذلك،  استحق هذان العالمان -عن جدارة- جائزة نوبل.

مصادر:
[1] https://www.pnas.org/content/105/45/17328
[2] https://pubs.acs.org/doi/10.1021/ja908581u
[3] https://www.nature.com/articles/s41467-020-17580-z
[4] https://pubs.acs.org/doi/full/10.1021/ja994280y
[5] https://pubs.acs.org/doi/10.1021/ja000092s
[6] https://chemistry-europe.onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/slct.202004196

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا