حـين يصنع الكتاب تاريخًـا: تخليص الإبريز في تلخيص باريز
قليلةٌ هي الكتب التي تُحدث تغييرًا جليًا في عادات الشعوب وتقاليدها، وأقل منها تلك المراجع المسؤولة عن ثورة فكرية وثقافية، وسبيلًا للحداثة والتمدّن، فما بالك بكتابٍ صار نبراسًا للفكر، وإيذانًا بنهضة وخطوة أولى في سبيل التقدم والرقي، ولا شك أن كتاب رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” (1834) يحتل هذه المرتبة المتميزة والفريدة في تاريخ الفكر العربي المعاصر.
أدرك محمد علي (1770-1849) حاجة مصر الماسة إلى جيش قويّ وأسطول بحري حديث، بالإضافة إلى ثروة زراعية وصناعية تستلزم الإلمام بعلوم العصر، والتي كانت السبب الأول في ازدهاره وتقدمه، وقرر محمد علي إرسال بعثات تعليمية لأهم مراكز الاستنارة في أوروبا، وأهمها في فرنسا، التي كان من نصيب الشيخ رفاعة أن يكون إمامًا لأول بعثة منها عام 1826، والتي يُعد كتابه أهم سجلٍ لها، وشاهدًا على أثرها.
وكان الشيخ حسن العطّار (1766-1835)، أهم الداعين لضرورة الأخذ بالمعارف الحديثة في جامعة الأزهر العتيقة، هو من أوصى بتعيين الطهطاوي إمامًا لتلك البعثة المكونة من 44 عضوًا، وأوصى الشيخ العطار تلميذه النابغة بضرورة تسجيل كل ملاحظاته بكل دقة، والتعليق عليها طوال تلك السياحة الفكرية والعلمية التي استمرت خمس سنوات.
ولعل أهم الخصائص الفكرية والشخصية التي أهّلت كاتبنا للدور التاريخي المنوط به، يمكن إيجازها في أربع صفاتٍ أساسية كالتالي:
أولًا: الإيمان الراسخ بالأهمية التاريخية لتلك البعثة، وقدرته المرموقة على القيام بدور في الدعوة إلى التقدم والارتقاء، فكان الشيخ السادات -أحد أساتذته بالأزهر- قد وصفه بأنه “أبو العزم”.
ثانيًا: لعل الشيخ رفاعة كان أكثر أفراد بعثته نضجًا وعلمًا قبل السفر إلى فرنسا، فكان قد أمضى سنواتٍ بالتدريس في الأزهر الشريف، وكان أستاذًا للحديث والفقه، بالإضافة إلى كونه مؤلفًا وشاعرًا، ممسكًا بناصية اللغة العربية.
ثالثًا: أخذ الطهطاوي عن الجبرتي -الذي ربطته به صلة قرابة- وعن رائد علم الاجتماع العربي ابن خلدون القدرة على الملاحظة والاستنباط العلمي في تحليله لأنماط السلوك المختلفة، وقراءة الحضارة الغربية.
رابعًا: امتياز أسلوبه الأدبي، الذي مكّنه من صياغة تجاربه، والانفتاح على مناهج البحث العلمي المعاصرة، في لغة سهلة جعلت من الكتاب تحفة أدبية، وأفردت له مكانًا متميزًا في الفكر والأدب العربي.
فإذا حاولنا تقييم أعمدة هذه الدراسة الرائدة لهذا المفكر الكبير، فيمكننا رصدها تحت خمسة محاور رئيسة:
- من الممكن اعتبار كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” مدخلًا لأول دراسة اجتماعية ممنهجة لمجتمع غربي باللغة العربية، فقد تعرّض الكاتب لشتى أنماط المجتمع الفرنسي من مأكل ومشرب وملبس وتعليم بل وترفيه.
- حيث أن رفاعة الطهطاوي لم يكتفِ بكونه إمامًا للبعثة، بل طلب أن يكون دارسًا مثل أقرانه لكافة فروع العلوم التي طُلب إليهم تحصيلها، فسعى الطهطاوي جاهدًا أن يقدّم تعريفات باللغة العربية لتلك الأفرع والتخصصات الدقيقة، من رياضيات وطبيعة وكيمياء وجيولوجيا وعلم التشريح والطب، كما عمل بعد عودته على إدخالها ضمن المناهج الدراسية باللغة العربية في المدارس والكليات بمصر.
- عكَس الكتاب اهتمام الكاتب بالتعليم والمدارس والكليات، بل وطرق التدريس في فرنسا، وكان من مآثره -بعد العودة إلى أرض الوطن- أن قام بإدارة مدرسة الألسن وتحويلها إلى جامعة تضم كليات للآداب والحقوق والتجارة، إلى جانب اهتمامها الأصيل بالترجمة واللغات الأوروبية المختلفة.
- علّق الطهطاوي على تعليم المرأة في المجتمع الفرنسي، بل ودخولها إلى المجال العام، رأسًا برأس مع الرجل كمواطنة تشارك الرجل حقوقه وواجباته، مثالٌ لا يجب التهوين من شأنه، وكان بذلك من أوائل الدعاة لتعليم المرأة المصرية، حتى أنه قام بتأليف “المرشد الأمين للبنات والبنين”، والذي تم تدريسه بمدارس البنين والبنات على حدٍ سواء، كما رأى الطهطاوي في المكتبات العامة والمتخصصة مؤسسات، يتعين على الدولة الاهتمام بإنشائها وتوزيعها في جميع أرجاء البلاد.
- من أهم إنجازات هذا المرجع الفريد أن المؤلف أوجز تاريخًا مختصرًا لنشوء الدولة المدنية بفرنسا منذ الثورة الفرنسية وتطورها، ومكتسباتها لحقوق المواطنة، وإعلائها شأن الصحافة الحرة والتشجيع عليها.
قام رفاعة الطهطاوي بعد عودته لأرض الوطن بترجمة الآلاف من المراجع والإشراف على ترجماتها، بل وكان عنصرًا فاعلًا في نشر كتب التراث القديمة، وساهم في نشأة الصحافة العربية في مصر وتطورها، ويظل رفاعة الطهطاوي نموذجًا ورمزًا للمفكّر الموسوعي، الذي وهب عمره بأكمله لرفعة الوطن عن طريق الكتابة والقلم، فدأب الطهطاوي على الإنتاج والنشاط إلى أن نال منه المرض ووافاه الأجل المحتوم في 27 مايو 1873.
ويصف أحمد أمين في “زعماء الإصلاح في العصر الحديث” جنازة إمام التنوير في مصر قائلًا:
اهتزّت مصر لموته، واحتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس، وازدحمت الشوارع بالناس، يردّون بعض جميله؛ يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم.