تحديات نشر أدب اليافعين: بين الأبطال الصغار وعودة شخصيات البالغين
في صغري كانت جدتي تحكي لي الحكايات الشعبية، بما تحمله من تيمات خيالية سحرية، وكانت الحكايات مليئة بالمغامرات والدروس القيمة التي تعلمت منها الكثير عن الصبر، والشجاعة، والإيثار. معظم هذه الحكايات كان أبطالها بالغين، مثل الشاطر حسن وست الحسن والجمال، والمحاربين والساحرات، والملوك والأميرات، والأبطال الذين يواجهون التحديات والمخاطر والصعاب. ورغم أنني كنت طفلًا في ذلك الوقت فإنني أحببت هذه القصص وتعلقت بها، وقد ساهمت إلى حد كبير في تشكيل تفكيري وحبي لأدب الخيال.
مع مرور الوقت كبرت وصرت كاتبًا، وقد أحببت الكتابة للأطفال واليافعين، فأنا أعرف قيمة هذه الحكايات بالنسبة للصغار، ولكني أدركت أن هذا النوع من القصص قد صار نادرًا في أدب اليافعين الحديث، فيميل السوق الآن إلى تفضيل القصص التي تضم شخصيات صغيرة السن. تجربتي مع نشر روايتي “ريم” أوضحت لي هذه الحقيقة بشكل قاطع.
تجربتي في نشر رواية ريم
لم تكن ريم أول رواية أكتبها، ولكنها أول ما نشرته، وهي رواية تجمع ما بين الواقع والخيال في عالم فريد، وبها شخصيات من أعمار مختلفة، ولكن الرواية موجهة في الأساس إلى القراء اليافعين، مما جعلني أواجه صعوبة في نشرها، فالأدب العربي يميل إلى نشر الروايات للكبار والحكايات البسيطة المصورة للأطفال، ولا يوجد اهتمام كبير بأدب اليافعين، كما أن أدب الأطفال العربي يميل إلى كونه أدبًا تعليميًّا وتوجيهيًّا، فيركز على نقل القيم والمبادئ المهمة للأطفال.
لاحقًا ترجمت رواية ريم إلى اللغة الإنجليزية تحت اسم Reem: Into the Unknown وبدأت رحلة البحث عن وكيل أدبي أو ناشر، ولكني اكتشفت حينها أن نشر الرواية بالإنجليزية أكثر صعوبة، فرغم أن هناك سوقًا كبيرًا لأدب اليافعين في العالم الغربي فإنه يميل بشدة إلى تفضيل القصص التي يكون أبطالها أطفالًا أو مراهقين، ورغم أن روايتي تضم شخصيات أطفال مثل ريم وأسامة، فإن الشخصية الرئيسية كانت سيف، وهو رجل بالغ. هذا التحدي لم يكن متوقعًا بالنسبة لي، حيث كنت أرى أن القصة تدور في عالم خيالي يتسع لتجارب متعددة الأعمار.
ورغم هذه التحديات استطعت نشر رواية ريم باللغتين العربية والإنجليزية ولاقت أصداء جيدة لدى القراء من مختلف الأعمار.
تجربتي مع كتابة أدب الأطفال واليافعين
أثناء تجربتي مع كتابة أدب الأطفال واليافعين، كتبت العديد من القصص التي تتضمن أبطالًا صغار السن، لكنني كتبت أيضًا عن أبطال بالغين، على سبيل المثال قصة الكنز المسحور، التي نشرتها باللغة الإنجليزية على مدونة أدب الأطفال العالمية World Kid Lit. تدور القصة حول أخوين، أنس الصياد الفقير وصفوان التاجر الثري، وتقدم القصة للأطفال دروسًا مهمة حول الإيثار ومساعدة المحتاج وعواقب الطمع، مما يُثري تجربتهما ويعلمهما القيم الإنسانية الأساسية. ورغم أن الأخوين بالغان، فإن القصة تظل جذابة للأطفال، لأنها تمنحهم نافذة على عالم الكبار بطريقة مشوقة وآمنة. الفانتازيا – كما يرى العديد من التربويين – هي وسيلة لخوض التجارب الخطيرة في بيئة آمنة، وهذا ما يجعل الأطفال يتعلقون بتلك القصص التي تساعدهم على فهم العالم من حولهم من خلال منظور شخصيات أكبر منهم عمرًا وأكثر خبرة.
إدراج الشخصيات البالغة في أدب الأطفال ليس شيئًا جديدًا، بل هو جزء من التراث الأدبي. في الماضي، كانت الشخصيات البالغة جزءًا من مغامرات الأطفال، مثل سندريلا والأميرة النائمة. لكن في العصر الحديث، يبدو أن هناك توجهًا نحو التركيز على الشخصيات الصغيرة التي تتراوح أعمارها ما بين 10 إلى 17 عامًا، وهو أمر قد يحد من إمكانيات الأدب في تقديم تجارب متنوعة. الأطفال بطبيعتهم فضوليون تجاه العالم الذي يعيش فيه الكبار، وقراءة قصص عن شخصيات ناضجة قد تساعدهم على اكتشاف أفكار جديدة وتعلم دروس حياتية مهمة.
القيود المفروضة على أدب الأطفال
أدركت مع الوقت أن هذه النظرة التي تركز على أبطال صغار في الأدب الموجه لليافعين قد تكون مقيدة للكاتب بعض الشيء. لقد كبرنا جميعًا ونحن نقرأ ونستمتع بقصص تتضمن شخصيات بالغة، مثل سندباد، وعلاء الدين، وسندريلا، وهي قصص خالدة تُعتبر جزءًا أساسيًّا من التراث الأدبي العالمي. هذه الشخصيات البالغة لم تمنع الأطفال من التعلق بالقصة، بل ربما زادت من جاذبيتها.
أحد الأمثلة البارزة على نجاح القصص التي تحتوي على شخصيات بالغة رواية الهوبيت لجون آر. آر. تولكين، حيث نرى بيلبو باجينز، وهو بطل بالغ في عالم خيالي مليء بالمخاطر والمغامرات. رغم أن بيلبو ناضج في عمره، فإن الأطفال يحبون هذه القصة ويميلون لمشاهدة الأفلام المقتبسة منها. هذا يؤكد أن الفانتازيا لا تتقيد بأعمار الشخصيات، بل بالأفكار والتجارب التي يمكن أن تقدمها للأطفال.
ومن الأمثلة الأخرى على أدب اليافعين الذي يحتوي على شخصيات بالغين رواية “أميرة وزن الريشة The Light Princess” للكاتب جورج مكدونالد التي ترجمتها إلى العربية، فالقصة تتناول حياة الأميرة منذ مولدها، ومرورًا بطفولتها، ولكن التركيز الأكبر كان على حياتها وهي شابة ناضجة يقع الأمير في حبها، مع وجود شخصيات بالغة أخرى مثل الملك والملكة والأمير، وهم يلعبون دورًا محوريًّا في تشكيل الأحداث وتوجيه الحبكة، وقد لاقت الترجمة ردود فعل طيبة من القراء الصغار والكبار على حد سواء.
علاوة على ذلك يمكن أن يبدأ الكاتب حكايته بأبطال صغار ونتابع رحلتهم وتطورهم حتى وصولهم إلى مرحلة النضج، وتعتبر رحلة تطور الشخصيات في أدب الأطفال عنصرًا أساسيًّا يساهم في تقديم دروس قيمة للأطفال. تتجلى هذه الفكرة في العديد من الأعمال الأدبية، مثل سلسلة “إيرثسي” أو “بلاد البر والبحر” كما ترجمتها د. منى النموري. في هذه السلسلة، نرى كيف يتحول الأبطال من صغار إلى بالغين.
على سبيل المثال، في بداية الرواية الأولى “ساحر من إيرثسي” يظهر جيد كطفل يتمتع بهبة سحرية ويسعى وراء القوة. ومع تطور الأحداث، يتحول إلى شخص بالغ ناضج يتحمل مسؤولية هذه القوة. بينما تتطور تينار من كاهنة صغيرة تعيش في عالم مغلق في الجزء الثاني “مقابر أطوان” إلى شخصية مستقلة وقوية تدرك قوتها وقدرتها على تغيير مصيرها.
هذا التطور لا يعبر فقط عن مرور الزمن، بل هو أيضًا تعبير عن رحلة النمو الشخصي التي يمكن للأطفال التعرف عليها ومقارنتها بتجاربهم الخاصة. لذا تعتبر هذه الرواية نموذجًا مثاليًّا يوضح كيف يمكن لأدب اليافعين أن يتجاوز حدود الشخصيات اليافعة ليشمل تجارب الكبار، مما يثري خيال الأطفال ويوسع آفاق تفكيرهم.
دور البالغين في حكايات الأطفال
إن الشخصيات الناضجة تمثل حكمة الحياة وتجاربها التي تعزز القيم الإنسانية المهمة، ومن خلالها يتعلم الأطفال دروسًا قيمة حول التضحية، والحب، وأهمية العلاقات الإنسانية. وأنا أتفهم أن الرغبة في جعل أبطال قصص الأطفال في نفس عمر الأطفال الصغار هي لجعل الأطفال يتفاعلون مع الأبطال ويضعون أنفسهم موضع البطل، كما يمنح الأطفال مساحة للاستقلالية واستكشاف عوالمهم الخاصة، ولكن في الوقت ذاته فإن الأدب الذي يتضمن شخصيات بالغة قد يتيح للأطفال فهمًا أعمق للعالم المحيط بهم. الأطفال ينجذبون إلى هذا النوع من الأدب، حيث يساعدهم على رؤية البالغين كشركاء في الحياة بدلاً من كونهم خصومًا، مما يساهم في خلق علاقة إيجابية بين الأجيال.
في النهاية، أعتقد أن هناك حاجة لإعادة النظر في هذا التوجه المعاصر لأدب اليافعين، والتركيز أكثر على تنوع الشخصيات سواء كانوا أطفالًا أو بالغين. القصص التي تتضمن شخصيات بالغة تمنح الأطفال فرصة للتفكير في الحياة من منظور مختلف، وهي أداة قوية لتعليمهم الشجاعة، والمسؤولية، والحكمة. القصص لا تكون عن العمر بقدر ما تكون عن التجارب التي تتيحها تلك الشخصيات، وهذا هو جوهر الأدب الذي يربط ما بين القارئ والحكاية.