تأثير الهالة بعد الموت
تأثير الهالة ومايكل جاكسون والفَناء
لوحِظ منذ أمدٍ بعيد ميلُ الأفراد إلى تشكيل وجهات نظرٍ شمولية عمَّن حولهم؛ أي أن الواحد منهم يرى الآخر على أنّه ذو شخصية طيّبة بحتة أو سيّئة بحتة، وهذا ما يُعرف باسم “تأثير الهالة”. ويعود سبب التسمية إلى أن المختصين لاحظوا أنّ صفةً واحدةً في شخصية الفرد- سواءٌ كانت سيئةً أو جيدة- تطغى على الصفات الأخرى كالنجم الساطع، وهذا ما يؤدي إلى تحيُّزنا للانطباع الأول. وقد نفترض أن يُطلَقَ على هذا التأثير لقب “قرون الشيطان” أو “الشاعوب”- وهي أداة زراعية تشبه الشوكة- إلا أنّ هذين اللقبين ليسا مقبولين لآذانِ السامعين.
ويتجلى تأثير الهالة بوضوحٍ في السيناريو التالي: عندما طُلِب من المشاركين في دراسةٍ ما أن يقوموا بتقييم أحدِ الأشخاص على أساس جوانب مختلفةٍ تمامًا عن بعضها البعض، لوحِظ وجود ارتباطٍ وثيقٍ بين تقييم المشاركين للجَوانب كلها رغم اختلافها. فقد وضَّح إدوارد لي ثورندايك تأثير الهالة في القرن العشرين عندما لاحظ وجود ارتباطٍ مُتبادل ووثيق في تقييم الضبّاط العسكريين للصحة البدنية للجنود، وتقييم الذكاء الذي يتمتعون به، وتقييم مهارات القيادة التي يحوزونها، وتقييم شخصياتهم، رغم انعدام العلاقة بين جوانب التقييم هذه. وفضلًا عن توسيع نتائج أبحاث ثورندايك، قام غيره من الباحثين بإجراء تجاربه من جديد، وتوَصلوا للنتائج ذاتها.
كما ولاحظنا أنّ تأثير الهالة يُمسي راسخًا وبارِزًا عند وصول المرء لمُنعطفٍ حادٍ في حياته، أي الموت. فعندما يموت شخص ما، يتغير انطباعنا عنه بشكل درامي ليميل باتجاه الطيبة التامّة. ورغم أنّه من الشائع التحدث بالسوء عن شخص ما أثناء حياته، إلا أنّه لمِن النادر التحدث بالسوء عن شخص ميِّت حتّى وإن كان ذلك بذكر بعض الجوانب السيئة فقط. فمهما كان الفرد سيِّئًا قبل موته، يبدو أن الأحياء يركِّزون على الشيء الذي جعل منه شخصًا مُحبَّبًا ولو بشكل طفيف ليتمسكوا به أثناء تمجيدهم لِكيانه الراحل عن الحياة، وذلك بغض النظر عن أنّه فارق الحياة منذ زمن غابر، أو أنه كان ذا كيانٍ هامشيّ. وبذلك فنحن نرتكب جريمةً أدبية لِخلطنا بين التشبيهات اللغوية واستخدامِنا لمصطلح “تأثير الهالة” لوصفِ ظاهرةٍ نفسية تطرأُ عندما يمر الفرد بنقلةٍ نوعيَّة من الحكم على الناس بأنهم سيئون تمامًا أثناء حياتهم إلى رؤيتهم تحت ضوءِ القدِّيسِ الشريف فور مفارقتهم للحياة.
ولنأخذ المُغني مايكل جاكسون مثالًا على تأثير الهالة. فقد أعاد الإعلامُ- وغيره- تنصيبه على عرشِ موسيقى البوب عند موته، وقاموا بالإشادة به على أنه الرجلُ الذي غيَّر طريقة تصوير فيديوهات أغاني البوب. ومِن المعروف أنّ الأغاني التي أصدرها قبل موته تعرضت للحجب الإعلامي إثر ادِّعاء وسائل الإعلامِ أنه متحرش بالأطفال وتوجيه الانتقادات لنمط حياته الشاذ عن المألوف. ورغم أنّه لُقِّب بلقبِ “جاكو المجنون” قبل موته، إلا أنّه أُطلِق عليه لقب “ملك البوب” بِكلِّ مودةٍ بعد موته. وسنجِد تضاربًا بين اختيار جوانبَ مُبهَمة من مراحل حياته المُضطربة ليتمّ نشرها أثناء حياته والاحتفاء بإنجازاته بعد موته. ولكن لا تعتقد أننا نُدِين أو نقلل من شأن الحُكم الإيجابي على شخصية الفرد بعد موته، نحن نجده بكل بساطةٍ أمرًا مثيرًا للاهتمام، ونَجد أنفسنا نتساءل عن سبب منحنا الفرد هالةً إيجابية بعد موته، رغمَ أننا- وعلى نحوٍ مُتوارث- تحدثنا عنه بالسوء أثناء حياته للأخطاء التي ارتكبها، لنكون بذلك وكأننا ربطناه برزمة قش وأعدمناه حرقًا! ألا يتوجب علينا التعلم من أخطاء الفرد كما نتعلم من إنجازاته؟
لا يحق لنا لوم وسائل الإعلام على التأثير المغلوط الذي تزرعه في عقولنا لسببين:
الأول: نحن نؤيد وجهة النظر القائمة على أنّ وسائل الإعلام تروِّج الأخبار التي يتفاعل معها المُتَلقي.
الثاني: يمتد تأثير الهالة ليشمل ما هو أعظم من حالة مايكل جاكسون ووصف العامة لحياته بعد أن مات.
فقد لاحظنا الضيق الذي يشعر به الأفراد عندما ينوي الواحد منهم أن يتحدث بالسوء عن شخص ميّت، حتى لو كانت هذه مجرد نية لم يتصرف بناءً عليها، ولو كان ما ينوي قوله صحيحًا. وقد يتهكم أحدنا مفسرًا عدم رغبته بالحديث بالسوء عن شخص ميت كالتالي: “أنا لا أتحدث بالسوء عن شخصٍ ميت لأنني لا أريد أن يتذكر أحبابي الجوانب السيئة في شخصيتي بعد موتي”، ولكن هذا الادعاء مغلوط؛ فإن كان الخوف من الكارما- مفهوم هندوسي يقابل جملة “كما تدين تُدان”- هو ما يدفعنا إلى التحدث عن الموتى وكأنهم كانوا قدّيسين في حياتهم، فمن المتوقع إذن أن يتحدث الفرد عمن حوله بالخير فقط أثناء حياتهم كذلك خوفًا من أن يُتَحدَث عنه بسوء، ولكنّ الأمر لا يسير وفق هذه الآلية، فلماذا يطرأ هذا التحول الجذري؟ لماذا لا نُمانِع النميمة والتحدث بسوءٍ عن أقراننا، ومن ثم تنقلب الآية عند مفارقتهم الحياة؟ ولماذا شوهت وسائل الإعلام سمعة مايكل جاكسون أثناء حياته، ومن ثم أمسى محبوب الجماهير بعد موته؟
ونحن نفترض أن تأثير الهالة هذا- أي ميلنا إلى الرفع من شأن أصدقائنا المتوفين إلى أن يبلغوا مكانةً راقيةً من الفضيلة والعفة- يعكِس خطأً وجوديًّا ارتكبه أجدادنا، والذي شقَّ طريقه إلى العُرف الاجتماعي المُعاصر. فعندما يذكر شخصٌ ما اسم شخصٍ مُتَوَفى، فسيجد نفسه- وإن كان مُلحِدًا مخلِصًا لمَذهَبِه- ينطق عبارة “رحِمه اللّه” بشكلٍ لا إرادي، حيث ينطق الفرد بهذه العبارة إن كانت المحادثة عن الميت ذات علاقة بجوانب سلبية من حياته، فيبدو وكأن المتحدث يقول للميت: “لا تخرج من قبرك على هيئة شبح لتُطاردني إن لم ينل حديثي إعجابك”. فيبدو أنّ ميل الإنسان لعزو السلطة والسيطرة إلى كيانٍ خارقٍ للطبيعة ذي معرفةٍ مُطلَقة- أي إلى الرب- يساوي ميل الإنسان إلى عزو السلطة والسيطرة للبشر الفانين، حتى وإن لم نكن متيقنين من أنهم رحلوا للجنة.
فَيستحوذ دماغ الإنسان الذي تطور عبر ملايين السنين من العيش في فئاتٍ مجتمعية تتبع المبدأ الميكافيلي- أي أنّ الغاية تبرر الوسيلة- على بعض التحيّزات المعرفيّة الشعبية؛ كالاستنتاج المبنيّ على مُعتَقَداتِ الآخرين ورغباتهم ونواياهم. فمِن المعروف أنّ كل المخلوقات تمتلك القدرة على الإنصات للأصوات من حولها، بينما لا تستطيع الكائنات غير الحية- أو الميتة- أن تنصِت لما يحدث في العالم. وبناءً على ذلك، نرى أنّ الدماغ المُتحرر من التحيّزات التي نشأت أثناء التطور البشريّ يتوَّجب عليه تجنب استنكار الأحياء وتجنُّب التوجس من الأموات؛ فاحتمالية سماع الأحياء بالسوء الذي تتناقله أنتَ عنهم- والذي قد يكون مجرد إشاعاتٍ تتناقلها الألسن- أكبر من احتمالية سماع الأموات بذلك.
ونلاحِظ في المُقابِل ميلَ الدماغ إلى الزلل وتشغيل صفارة الإنذار عند تفكيره بكيانٍ غامض وغير معروف إنْ تطوّر هذا الدماغ في بيئةٍ ترفع من شأن الأفراد الذين يمتلكون القدرة على توقع تبعات الأفعال وتمييزها عن المُسببات، والذين يستطيعون استقراء نَوايا الآخرين وأهدافهم؛ فجهل الفرد بماهية الموت يجعل من أذهانِ الموتى الذين انتقلوا للحياة الآخرة مفهومًا غامضًا. ولنأخذ السيناريو التالي مثالًا: يفترِض الأفراد فور رؤيتهم لحيوان ساكن أنّه نائم بدلًا من افتراض أنّه ميّت. وافتراض موت حيوان ضخم ساكِنٍ قد يؤدي إلى فقدان الفرد لإحدى ذراعيه إن كان نائمًا؛ وأمّا التصرف العالمي في هذه الحالة، فهو وخز الحيوان بعصا، وهو ما قد يكون ناجِمًا عن تحيز تطوّرَ عبر الزمن. فقبلَ استيعاب أسلافِنا لِحقيقة أنّ الوظائف البيولوجية والنفسية للجسد تتوقف عند الموت، كان من غير المُحتمل أن يلتهم أسدٌ نائمٌ الأفراد الذين افترضوا أن الدماغ يحافظ على نشاطه بعد الموت.
ويرى البعض أنّ هذا التحيّز نحو استنباط الأسباب من كل شيء، وافتراض وجودِ قوة تتحكم بكل شيء، هما ما أدّيا بنا إلى ابتكار مفهوم الإله. ونحن نوسع هذه النظرية لتشمل فكرة أن هذا التحيّز قد يكون مسؤولًا عن تأثير الهالة، إضافةً إلى اشتمالها على افتراض سماع الأموات لحديث الأحياء؛ ففكرة وجود ميّت ممتنٍّ للأحياء قد لا تكون شديدة التطرف إن امتلك الأموات القدرة على سماع مدحنا إياهم.
ورغم أن لكلِّ قاعدةٍ استثناء- كذوي الشخصيات المُشينة وسيئة السمعة أمثال هتلر وصدام حسين- يبدو أن ميلنا الإنساني نحو الحكم على الفرد بأنه ذو شخصية سيئة بحتة أو طيّبة بحتة يؤدي بنا إلى الابتهاج في ظلِّ عَظَمَة الفرد بعد موته إن كان تأثير الهالة لديه مُشعًّا- ولو على شكل بصيصٍ بسيط أثناء حياته. فهذا التأثير شديد الوقع على الفرد لدرجةِ أنّه لو أُطلِق عليه لقبُ “تأثيرِ الشاعوب” لما تمكنا من أن نتلاعب لفظيًّا بلقب “تأثير الهالة”. وربّما تعكس عبارة “التاريخ يترأف بأصحابه” شيئًا من الطبيعة البشرية واللامَوضوعية في الحكم على الناس، فضلًا عن الإيمان بالخُرافات، ولَربما تعكس شيئًا من الطبيعة التي جُبِل عليها الإنسان؛ فبعد موت الفرد، غالبًا ما يتم تبجيل الأمور التي استحق الثناء عليها أثناء حياته.
ولكن ما الذي سنَكتشفه إن قمنا بتحليل قصة رجل الأعمال برنارد مادوف من منظور تأثير الهالة؟
نرشح لك: وسوسة الشيطان: قراءة في كتاب تأثير لوسيفر لفيليب زيمباردو