تأثير اتساع الفجوة بين الفنون والأخلاق ..

أبحاث معاصرة تنتصر لروسو وسانتيانا

منذ بواكير التفكير الفلسفي، لم يتوقف الحديث عن وجود علاقة افتراضية بين الفنون والأخلاق، فوقع جدل تاريخي بين فريق دفع بأن الرسوم البدائية على جدران الكهف تتجاوز مسألة اللعب واللهو وأن لها قيمة جليّة، وفريق آخر يصرخ محذّرًا من تأطير الفن وتكبيله بالخصائص الأخلاقية.

السجال وضع منظرّي الفن أمام اتجاهين، حول جدوى المزايا الأخلاقية في الإبداع، وما إذا كان لزامًا على العمل الفني أن يرتقي بوعي القارئ أو المشاهد وينصرف إلى التركيز على الهموم الإنسانية الكبرى، وفريق آخر يغلب أي عامل آخر على المضمون الأخلاقي، فمهد الأخير لنظرية “موت المؤلف”، التي تجلت في عصر ما بعد الحداثة.

الفن الأخلاقي

وصلت النظرة الأخلاقية إلى الذروة، عند كثير من النقاد والفلاسفة الذين يضعون الأخلاق فوق الجمال، ولا يرون في أساس الفن إلا أنه عمل أخلاقي، بما يتضمنه عند الخلق والإبداع، محذرين من أنه إذا تحول الفنّ إلى أداة لتحطيم الخير والصلاح، وجعل الخير شرًا، فإنه لايكون في نظرهم إلا فنًا مزيفًا وعملًا مشينًا يتطلب الرفض والإدانة.

لم يكن جان جاك روسو معروفا بعد، حينما قرأ خطاب من أكاديمية ديجون، عن بحث مرصود له مكافأة مالية لمن يجيب عن السؤال التالي: “هل إحياء النشاط في العلوم والفنون سيؤدي إلى تعزيز السلوك الأخلاقي”، فأضاف روسو: “أم يحط منه”، لتكون تلك إضافته التي ضمنت له فوزًا كاسحًا على 10 متقدمين آخرين.

جان جاك روسو

روسو عملاق عصر التنويرعصر التنوير، يرى أن البوصلة الأخلاقية يجب أن تكون حاكمة لكل شئ، وفي بحثه الذي قدمه في العام 1750 /1751 م، والذي كان بمثابة تمهيدًا لوضع واحداً من أبرز كتبه وأكثرها إثارة للجدل، وقد جاء مضمونه ليحمّل فيه العلوم والفنون مسؤولية إفساد الإنسانية، وانتهى إلى أن تقدّم الفنون جعل النخب تقوم في المجتمعات فحقرت العامة.

إعلان

الفيلسوف الأمريكي رالف بارتون بيري ، دومًا ماكان ينحاز إلى إخضاع الفن للنقد الأخلاقي، وكان يرى في الأخلاق مكافئ للقانون الذى يتحكم فى المجال الكامل للاهتمامات، والذي يكون فيه الفن وكل شيء طيب آخر ممكنًا، ليتصالح مع فكرة أن الفن الجيّد يجعل من شر الحياة مقبولًا، محذرا من العكس، من الفنون أو الإبداع الذي يجعل الشر أكثر جاذبية من الخير، ليضرب مثلًا بالموسيقى، والتي قال إنها قد تملك سحر يؤنس الصدر المتوحش، ولها ألوان أخرى من السحر الذي قد يحبط الإنسان المتحفز.

وكذا “جورج سانتيانا” الذي كان يؤيد التصور الأخلاقى للفن، و قال إنه قد يجعلنا أناسا أفضل، ويهذب مشاعرنا ويجعلنا أقل عنفا وأكثر إنسانية.

معارضون لأخلاقية الفن:

على النقيض مما سبق، فالفيلسوف الألماني هيغل، يرفض أن يتم وضع الأخلاق أو القانون ومايمليه كل منهما في منزلة “الفن”، ولطالما تم وضع وجهات نظره كضد واضح من فلسفة أفلاطون التي تعلي من الأخلاق، حاسمًا أمره بأن الإبداع يسمو على القوانين الأخلاقية، فهو أشدّ رحابة وديمومة من أن يقيد في مملكة الأخلاق.

ناقد الفن الإِنْجلِيزي كلايف بل، رأى أن استخدام الإرشاد والأخلاق فى الفن مثل استخدام التلسكوب فى قراءة الصحف، فالتلسكوب مع بعض الصعوبات يمكن أن يستخدم فى هذا الغرض –ولكن هذا لم يكن ما من أجله صنع التلسكوب.

أما الفيلسوف الأمريكي جون ديوي قال إن الفن قد يمارس دور أخلاقي، قد يلتزم بالتعليم والإرشاد، ولكن ليس بواسطة العظة الجليلة المباشرة، قد يمكنه ذلك ولكن ليس بالعظة وإنما بواسطة “الوجود”.

واقعنا المعاصر

الأبحاث التي أجرتها جهات موثوقة في أيامنا، ربما تنتصر لوجهات نظر “الأخلاقيين” وما دفعوا به سابقًا، عن أن الفنون التي لا تراعي الأخلاقيات، ولا تضع في اعتبارها دورها الإيجابي؛ سيكون لها تأثير سلبي فادح على الأفراد والمجتمعات.

حين تنعدك الأخلاق في الفنون
حين تنعدك الأخلاق في الفنون

فنون بأشكال مختلفة، درامية، روائية، نحت أو شعر، تركز على مضامين صارخة، عنف، جنس، تحريض، تردي، ما هو تأثير التعرض لها على فترات طويلة؟

يجيبنا بحث استثنائي، استغرق 22 عامًا كاملة، أجرته منظمة “الائتلاف الدولي ضد العنف”، ورصدت ما بين (25% و50%) من أعمال العنف في سائر أنحاء العالم سببها الأول والرئيسي، الفنون الهابطة و الأعمال التلفزيونية والسينمائية الرديئة المحرضة على العنف.

وماذا يحدث عندما ينساق الشباب وراء أنماط موسيقية شائعة حاليًا، تعتمد على إيقاعات تستخدم أصوات آلات المصانع الثقيلة وضجيج الطائرات العملاقة؟

تجيبنا دراسة الأكاديمية الملكية البريطانية في العام 2017، وقد سجلت 875 ألف حالة انهيار عصبي، و75 ألف حالة وفاة بين فئة الشباب المراهقين، بسبب مايتعرضوا إليه من فنون موسيقية تعتمد على الصخب والعنف والضجيج الشديد.

أكاديمية العلوم المصرية، أصدرت مؤخرًا نتائج بحثية خاصة بعلوم السلوك في منطقتنا العربية، ربطت بين الفنون وظواهر أكدت أنها تهدد النسيج الاجتماعي، بسبب مضامين فنية أكدت أنها لم تعد تركز إلا على كل أشكال العنف اللفظي والبدني، متسائلة عن سبب غياب الصيغة التوافقية بين الفنون والأخلاقيات.

لوحات كندا

طرحت الجارديان العريقة ذات مره سؤالًا مفاده: هل تعاني من ارتفاع ضغط الدم؟ ربما يقع اللوم على ذوقك في الفن، ليحقق الناقد الفني والثقافي ” أندرو ديكسون”، متأكدا من صحة قصة سردها في الصحيفة الإنجليزية، عن الأثر المباشر لفنون قد لا تراعي تأثيرها على المتلقي، حينما قامت أحد المستشفيات في كندا بإنزال العديد من اللوحات على جدرانها لأنها كانت تجهد المرضى.

اقرأ أيضًا فرانكشتاين، عندما يتحول الملاك الساقط إلى شيطان خبيث

مصادر:

https://www.theguardian.com/artanddesign/artblog/2007/jan/03/canartbebadforyourhealth1 الجارديان عن التأثير السلبي للوحات في كندا.

دراسة الفن بين المغالطة الجمالية والأخلاقية .. آراء الفلاسفة سقراط وروسو https://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=31110

Wendel Bristow: Ethics and Aesthetics An Essay of Value – Philosophy and Pgenomenological Research, Vol. VI. NO,I, September 1945, P. 103. المقال الخاص برأي سانتيانا عن علاقة الفن بالجمال والخير.


إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أسماء سعد

تدقيق لغوي: دعاء أبو عصبة

تدقيق علمي: دعاء أبو عصبة

الصورة: مريم

اترك تعليقا