بلاد الثلاثاء: جدارية الآلام السوريَّة

في سنة 1869م ظهر للوجود كتابُ “سأم باريس” (Le Spleen de Paris) للأديب الفرنسيِّ شارل بودلير يرسم على صفحاته لوحات هذه المدينة المضيئة والسحريَّة بكلّ ما تعيشه من تناغم وتناقضات وما تثير من أهواءٍ عن طريق شعره النثري، أما في سنة 2020م فأقبلَ على الساحة العربيَّة ديوان الفلسطينيِّ خالد سليمان الناصري يعانق من خلاله العنف والغرابة والعبث في أرض أكبر من مجرد مدينة أوروبيَّة، يُحَمِّله عنوان “بلاد الثلاثاء” البلاد التي ليس فيها ضجر لأنَّها موتٌ ونهاياتٌ لا ميلاد جديد بعدها.

بلاد الثلاثاء
الديوان الشعري النثري لخالد سليمان الناصري

فإذا كان بودلير يصوّر لنا باريس بجمالها وبشاعتها من خلال شعرٍ متكلّمٍ بالنثر والحكي والتَّصوير في نفس العَمَل الَّذي يحملُ عنوانًا آخر هو “قصائد نثريَّة قصيرة”؛فإنَّ الثَّاني لا ينحتُ غير الوَجع والقهر المُنتَشِر بأنفاسهِ القاتِلة في بلاده السوريَّة والعالَم العربي بتنويعاتٍ مُختلفةٍ من قصائد نثريَّةٍ طويلة، وثانية قصيرة، وأُخرى أشبَه بيومياتٍ شعريَّة سريعة: فهي كَسِيَرٍ ومُذكَّراتٍ فنيَّة، وأيقونات حزينة مُتحدِّثَة، نَراهُ يجمعها جميعًا ولَو على قِلَّتِها في منجزٍ أدبيٍّ أصدرته “المدى” أكثر تحرُّرًا من سأم باريس.

الشاعر الحزين..

يكتب” بودلير “عن العاصمة التي يصفها كمْ أنَّها “مدينة مرعبة” في “حياة مرعبة” ، أمَّا الشَّاعر الإسباني” فريدريكو لوركا” فهو يردّد في محاضرة ألقاها في كوبا والأرجنتين بأنَّ:

إسبانيا هي البلد الوحيد حيثُ الموت مشهد طبيعي/وطني فهي أمَّة موت، أمًَة مفتوحة للموت.

لكن بعد عقود وسنين طويلة يُشير إلينا” النَّاصري” بأنَّ سوريا هي البلاد التي “تَحدُثُ الحُرُوبُ فيها كلّ ثلاثاء”، وسيكتشفُ القارِئ أنَّ الحَربَ لا تنمو أو تستيقظ يوم الثلاثاء فَحسب بل ستكونُ حاضُرَةً كلَّ يومٍ إلى نهاية الأسبوع، كما أنَّ العجيب والشَّاذ في مَنطِق هذا الوطن هو الشَّارع الَّذي لا مَوتى جُدُد وقذائفٌ في صباحه؛ لا الشوارع الأخرى المُنتفِخة بهواء الموت.

إعلان

“في شارعٍ آخَر

لم يَحدث شيء”

نحنُ نجد أنَّ المَجازِر والقَصف ومُخلَّفاتهما هي الحالة الطبيعيَّة لتلك المساحات المفجوعة من الشرق عكس الأحياء التي تَعرفُ الهُدوء السِّلميّ والضَّجر الكئيب نتيجة حدوث لا شيء.

إنَّ الدِّيوان الشِّعريّ إذَن تأريخ لهذه الصًُور التَّراجيديَّة، وتعرِيةٌ لبعض القِصص مع استعراض للموتى: أحلامهم وجثثهم، يقوم الشاعر بواسِطتها برفع صوته الصَّارِخ ليثور ويُحدِث الفوضى في مُدُنِ الفوضى ويَروي لنا في مسودات شعريَّةٍ لا تعرف التجميل ما وقع لمن ظلُّوا ولمن رحلوا في هذه الأرض الملعونة.

وأنا كُلَّما صحتُ: الحربَ الحربَ

سقطَ في آخرِ الشارع رأسٌ، وتدحرجَ تحتَ أقدامِ الأُمُّهات.

نستطيع التعرُّف من خلال أحَد القصائد المُعنْوَنة بـ“على قبر بودلير” على فكرة ترفض دعوى المحاكاة، فالشاعر ليس مُجرَّد مقلِّد للطبيعة أو مقدِّمٌ للمُتعةِ الحِسيَّة بل هو مُقاوِمٌ وثَائرٌ لا يكتفِ فقط بالهدم بل البناء والإصلاح.

كما أنّهُ يربط التَّجربة الشعريَّة مع الميتافيزيقا والمُطلَق عندما يولد الشاعر شاعرًا. ويجدر بنا حسب هذا الادعاء تذكُّر العبارة اللاتينيَّة الشائعة التي تؤكِّد أنَّ “الشاعر يولد ولا يُصنَع”.

يُخلَقُ الشَّاعِرُ في الطُّفولةِ، قبلَ أن يستطيعَ النُّطقَ عندما يُترَكُ وحيدًا وعاريًّا في غرفةٍ مُوحِشَةٍ وبارِدةٍ، حيثُ يَرى بتلاتِ زهرَاتٍ بيضاءَ، بَدأنَ في النُّموِّ في هواءِ الغُرفةِ، و عندما يريدُ أنْ يُخبِر أُمَّهُ عن رؤيتِهِ تلك، يبدأُ بالكلامِ باللُّغةِ الوحيدةِ التي يملكُ، وهي البكاء، لكن أُمَّه لا تفهمهُ، والدليلُ على ذلك أنَّها تقومُ بتغطيتِهِ أو بملاعبته أو بإرضاعِهِ، لكنها أبدًا لا تقومُ بريِّ زهرَاتِه البيضاء؛ أغلبُ الأطفالِ يتوقَّفونَ عن البُكاء بعد احساسِهِم باللَّا جدوى، أمَّا الَّذي يُواصِلُ البُكاءَ، فهو الَّذي سيُصبحُ شاعرًا.

لقد جَعلَ الفلسطينيُّ السوريَّ من نفسه الرَّضيع الباكي في يوم من أيامه القديمة الذي لا تفهم منه والدته سبب الصراخ، فتعتقد أنَّه يطلب الطعام، هو المهتَّمُ بالأزهار التي تُرادِف الوطن؛ نستطيع الادِّعاء أيضًا أنَّ الأم في باطن القصيدة مثيلٌ للسُّلطة والمُجتَمَع الَّلذان لا يستطيعُ كليهما فَهم الشَّاعر الَّذي فيه روح الطُّفولة، فيقرِّرا قَمعه أو إغراءَه أو تَجاهله.

لكن من يسقي الوطن غير فنَّانيه ومثقَّفيه حتى لو دفعوا ثمن ماء الحياة الذي أحضروه له حتى لا يعطش؟ لا يجب على الشاعر عند” الناصري” الاستسلام أو التوقَّف فلكي تكون شاعرًا يجبُ أن تكونَ هكذا للأبد.

الشَّاعِر الغَاضِب..

تُزعجنا النصوص بطريقةٍ نحبَّها؛ بعَددٍ قليل من ملاحظات الشَّاعر المتضَمَّنة داخل أشعاره فيقوم أحيانًا بزجِّ حياته داخلها، حيثُ لا ينقُل إلينا مجرَّد قصائد من دون فائدةٍ بل أصول وتعليقات شعريَّة تُحيلنا إلى فهم أشياء من كتاباته من دون شرحها، فهو يعي جيدًا طبيعة الشعر الذي يتجاوز الأفهام والإرشاد، غير أنّه يقدِّم شخصه ويمنحنا نفسهُ في كلِّ مجازٍ ووَصفٍ وسردٍ لأنَّه لم يمُت بعد في نصوصه. وبهذا فنحن لا نعثر على ملاحظاته في الهوامش أو أسفل الصفحة بل داخل تجربته الأدبيَّة المُلتصِقة بها؛ فالشَّاعر لا يرضى بالصَّمت لأنَّ الشعر ضدّ الصمت صوتًا وحرفًا.

لا يشبه شاعر الثلاثاء بعض الأدباء والكتَّاب الذي زعموا أنَهم يكتبون خواطرهم كلّ يوم تقريباً، فهو لم يكتب لفترة طويلة كما يعترف: “منذ أشهر لم أكتبْ شيئًا! أشعرُ بالعجزِ، وأشعرُ أنَّي أُفْرِغْتُ تمامًا؟”

ذلك لأنَّ الواحدَ مِنَّا يَكتبُ قصائدهُ حين يكون مُمتلئًا ويعيشها حينما يستدعي الأمر ذلك، فليس الشعر زينة كلاميَّة واستظهار للمشاعر فقط مع اختراع أحاسيس ليست فينا، وليس روتينًا يوميًا يراودنا، وإنَّما فعلٌ غائيٌّ يجيء لازمًا في أوقات محدَّدةٍ تُجبرُنا على الإمساك بالقلم أو فتح الفاه، كما أنَّه حاجة المبدع وضرورته، والشعر نفسه المحرِّك الذي يقود أفكارنا هو من دفَعَ الناصري حسب قوله إلى (نبش قبر بودلير) عندما أنفق وقته في الجلوس بقربه.

لقد جعلت الحربُ الشاعرَ ليس شاعرًا فحَسب لكن مفكِّر سيوراني، يرى في الولادة نقمة وافتتاحية كل ألمٍ يتبع طريق أبي علاء المعري الذي ذكره في الديوان مرتين؛ هذا النابغة الذي ألقى في لزومياته حوارًا متَخيَّلًا بين أحشاء الأم والجنين:

“نادى حَشَا الأُمّ بالطّفل الذي اشتملت عليه: ويحكَ لا تظهرْ ومُـتْ كَمَدا!

فإنْ خرجتَ إلى الدّنيا لقِيتَ أَذىً من الحوادثِ, بَلْهَ القيظَ والجَمَدا

وما تَخَلّصُ يوماً من مكارِهِها وأنتَ لابُدَّ فيها بالغٌ أمَدا

وإنْ سَعدِتَ, فما تَنفكُّ في تَعَبٍ, وإنْ شقيتَ, فمن للجسمِ لو هَمَدا؟

فلو تكلّمَ ذاكَ الطّفلُ قالَ له: إليكَ عنّي! فما أُنشئتُ مُعتمِدا!

فكيف أحمِلُ عَتْبًا؟ إنْ جرى قَدَرٌ عليَّ، أدركَ ذا جِدِّ ومَنْ سَمَدا”.

إنَّ الاحتفاء باللا ولادة وكره الانجاب ليس مصدره فلسفة أو حكمة زاهدة وإنَّما ثورةٌٌ على واقعِ بلاد الثلاثاء التي لا تستحق أحياءً آخرين يزورونها ليموتوا في شوارعها بعد لحظات.

نقرأ فيه:

“ليتَني وضعتُ وَكْرَ أفاعٍ

ولم أُرضِعْ هذا الطفلَ التَّافه

ملعونةٌ ليلةُ المتعةِ التي حملتُهُ فيها

ليكنْ هذا الحملُ كفَّارةً عمَّا ما ارتكبتُهُ من آثامٍ

بما أنَّك، يا ربُّ، اخترتَنِي من بين النساءِ جميعًا

لأكونَ موضعَ قَرَفٍ لزوجيَ البائس”.

وبمناسبة الولادة فالأم في هذه الحرب: قصيرة اليدين لا حول لها ولا قوٌة فكلّ ما تفعله هو الدعاء، نفس الأدعية التي (يتعثَّر بها) خالد كما يقول والتي تجعل السماء مجرد “وعاء” يمتلئ بها أما الإله فقد (أشاح بوجهه عنهم) فلم يبقَ غير الدم.

أشكالٌ عبثيَّة..

في خطوةٍ استثنائيَّةٍ في عالَم الخيال واللُّغة لا يجعل الشاعر الأشياء والبشر يهربون بل الأماكن نفسها المُرتبطة بالوجود والهوية؛ فنراه يكتب ويقول:

لا، لم نُضِع البوصلةَ كلَّها، فقط أَضعْنا الجنوبَ.

وهو كالبدو حَسبهُ أنَّهم ضاعوا ليس لأنَّهم أضاعوا الطريق بل لأنَّ (النجوم غابت عن السماء) فتاهوا وتاه الطريق.

تنفلت الأمكنة هنا وكأنَّها بشرٌ منفيون ومتجوّلون في الشتاتٍ، حيث تتمزّق وتتبخَّر بطولها وعرضها لتصبح لا شيء؛ عدمٌ وضياعٌ هما رمزا سوريا في جميع أيام الأسبوع.

ويحمل العمل الأدبي نكهة عبثيَّة وتشاؤميَّة تبقى في الأذهان طويلًا، فها هو الطائر في أحد قصائده معدومة العنوان يمزِّق جسده لأجل الحمام فتأتي الفئران لتلتهمه، ونراقب فيها كيف يسير الشاعر في الليالي يحمل (مفاتيحًا لا تفتح بابًا) في محاولة منه ربَّما لأن يستجدي مستقرًّا يأوي إليه في طريق لا تنتهي.

أما جسده في قصيدة “سارين” فيَدخلُ مرحلة الصراع في إيجاد المعنى عندما يسير في الشوارع فتتشاجر أعضائه فيما بينها ليتقدَّم الصدر إلى الأمام لكن الكتفين يخطوان إلى الخلف ويبقى عالقًا بين هذا وذاك غير قادرٍ على مواصلة المشي فيسقُط ويُحاول النهوض لكن يأبى الجسد النهوض.

كنتَ تنظرُ من نافذةٍ تطلُّ على ذلك الشارعِ، ورأيتَني لرأيتَ رجلًا يقفُُ في الشارعِ يديرُ رأسَهُ بسرعةٍ إلى الخلفِ، ويستديرُ معه الجذعُ، ثمَّ يعودُ يستديرُ إلى الأمامِ ثمَّ إلى الخلفِ، ثم إلى الأمامِ، ثمَّ إلى الأمامِ، وهكذا.

أنتَ، يا منْ ينظرُ إليَّ الآن من النافذةِ، ويضحكُ.

أنا فقط في لحظةٍ تَشَابَكَ فيها خَطَآ حياتي الوحيدان، فعلقتُ بينهما: نعيقُ البوم، وطنينُ الأذن.

إنَّ جسده في هذه المدينة عبثي ومن دون وجهة ينطبق على وضعيته عنوان ديوان العراقي عبد الوهاب البياتي “الذي يأتي ولا يأتي”، أو “ماضي الأيام الآتية”. لأنسي الحاج.

حالة فكرية وحسيَّة وتَمَوضُع غير مريح يجد فيه الفرد ذاته غير ثابتة ومستقِّرة، طريق مجهول في أرض مجهولة المستقبلِ يلتصق بها الوراء والماضي، إنَّه سعيٌ من يعيش فيها نحو التقدُّم من دون المقدرة على تحقيقه، انسحاب إلى الخلف وعجزٌ كلِّي.

ألوانٌ قاتلة..

نقرأ في هذا الديوان عن انحراف لونيٍّ لا يقرِّر الشاعر خلقه ليرتِّب الألوان على طريقته وبإرادته بحريّة ولعب وإنَّما يأتي كانزياح محتَّم يفرضه عليه الموت.

فإذا كتب بول أوستر قصيدته “الليالي البيضاء” مع دوستويفسكي صاحب إحدى القصص التي تحمل نفس العنوان، فليس الليل من صار أبيض في بلاد الثلاثاء بل حتى قوس قزح تحوّل إلى الأبيض والأسود.

إنَّه إنجازٌ شعريّ يصف قوس قزح وهو ظاهرة تعبّر عن الأمل بألوانٍ لم يألفها، يذكِّرنا فيها بقصيدة بودلير “الرغبة في الرسم” بسأم باريس وكلماتها التي تتحدَّث عن (السواد الذي يشّع) مع (الشمس السوداء).

إنَّه ليس مجرد وصف تهرب فيه الألوان من مواقعها المعتادة في ذهن من يصِفها بل إنَّ واحدة من بطلات القصائد قد شاهَدَت بالفعل هذا القوس بألوانه الجديدة التي صبغه بها حاصد الأرواح -مثلما تأمَّل بودلير السواد المشع وجعل الشمس سوداء- فصار حتى الجميل مخيفاً.

إنَّ الألوان من جهة أخرى تتخذّ هيئتها الطبيعيَّة في الكتاب لكنَّها تكتسب هيئة مفزعة، فها هو يخطّ في قطعته الشعريَّة “قصيدة سوداء” التي يتداخل فيها ثلاثة ألوان الأبيض الذي يجسِّده الثلج، والأحمر بكلمتي (النزف والدم) ثم اللون الأسود المذكور مباشرة وهو رمز الموت؛ رسالةٌ تفيد بطغيان هذا الجانب على الحياة التي كانت بيضاء صافية فتساقطت على سطوحها الثلجية الدماء التي جاء منها السواد؛ فالناصري يكتب عن هذا الثلج الدموي والفحمي كما كتب أيضًا مالارميه عن “ليل أبيض من الجليد والثلج المخيف” في هيرودياد.

ليس الألوان في هذا البلد من تختَّل بل حتى الأزمنة لا تعي نفسها فمواقيت اليوم وعلاماته تتصادم بين بعضها البعض فلا يكاد يجيء الصباح حتى يهرع الظهر ثم الليل وكلّ واحد منهم متعجّل.

تجعلنا هذه القصائد النثرية نشعر بغرائبيَّة في كل صفحة بطريقة مقلقة تصوَّر فيها سوريا وكأنَّها مدينة من مدن ديزني الخياليَّة لكن داخل أعماق الجحيم أبطالها وحوش وعفاريت وقتلة، لا أميرات فيها ولا نبلاء وأبطال، ورغم هذا يشعرنا الأمر بالمتعة فنستمتع بالبؤس!

ويمكننا عندما نقرأ المزيد ملامسة بعض الكوميديا السوداء والسخرية من الموت، طريقة ربما تخفِّف من قسوته؛ هذا إذا اعتبرنا كما يقول تيري ايغلتون بأنَّه “يمكننا الحصول على قدر من السعادة من خلال الضحك على الموت والتقليل من سوداويته.

أن تسخر من الموت يعني أن تقلل من قدره وتنقص من مقدار قوته الرهيبة علينا”.

شيءٌ نجده ربما في هذا المقطع:

في شارعٍ آخرَ

بعد انتهاء القصف

جثة وقفتْ تتأمَّلُ المشهدَ باندهاشٍ

ما كُلُّ هؤلاءِ الأحياء؟!.

يتغلغل الموت في كل شيء نراه ونفعله، حتى في الأعمال المنزلية وروتيننا اليومي، فمن يخرج ليشتري خبزه اليومي يموت بقذيفة ما، الأخت تخيط جراح أخيها بآلة الخياطة، والأم:

“سمعتْ بأُمِّ أُذنِها

رئاتٍ تنفجرُ

فجرا:

سمعتْ أيضاً وعرفتْ من خِبرتِها في تقطيعِ الخَسِّ

أنَّ السكينَ صدئةٌ

سمعتْ صوتَ رقابٍ غضَّةٍ

غضَّةٍ مثل الخسِّ

أُعملَ فيها الذَّبحُ”.

لقد أصبحنا بعد قراءة تلك القصائد؛ شهودًا على الحرب من دون الذهاب إلى هناك، لأنَّه بامكاننا تكديس كلّ ما عايشناه في قففِ وسلالِ بعض البلدان العربية المثقوبة التي حالها ليست أفضل من سوريا، كما نلمح فيه العراق الجريح على سبيل المثال من خلال استعمال الشاعر للحروف المسماريَّة في ترقيم أشعاره،أما عن زمن الكتاب فهو ليس ذلك الزمن الواضح والدقيق فبعض ما كُتِب يعود إلى 2007.

ولا نجد الناصري يتحدَّث عن مسبّبي الحرب على وجه التخصيص؛ داعش؟ نظام الأسد؟ الثوار؟

كما أنَّه يُظهُر خوفاً من مستقبل إنسان الثلاثاء فهو يسأل مُعاتِبًا “أيّةُ ذاكرةٍ من صريرٍ ستكونُ لنا”، نزعة تشاؤمية تطلق مخالبها على قلمه حتى نكاد ننسى “الجانب المشرق” من الحياة كما يدعوه البعض.

ما قَد حدث ومازالَ يحدُث هو طريق من الآلام مشى عليه السوريون، يحملون بأيديهم وأرجلهم صليب الموت، في حجٍّ غير طاهر بمدنهم التي صارت مُدنَّسة.

ولم يعُد مُهمٍّا الآن بعدَ كلِّ المعاناة التي جرت أن نعرف من هو المسؤول الذي صنع لنا الثلاثاء كل يوم، فلا يهم أن نعرف هوية الفاعل، هوية من صنع هذا الوحش لأنَّ الدَّمار قد أُنجِز.

وفي الختام

نود القول أنَّ مسار صاحب الكتاب؛ الفلسطيني الذي عاش في سوريا وهاجر إلى ايطاليا مؤسِّسًا فيها دار المتوسط، يمكن أن يلتقي مع أحداثٍ في حياة الشاعر الأمريكي عزرا باوند مؤسس مجلة “شعر”؛ هذا المجدّد والمتمرّد الذي فضَّل في سنواته الأخيرة الرجوع إلى إيطاليا، والبقاء فيها حتى يوم وفاته بعدما قضى سنوات عديدة في مصحَّةٍ عقليَّةٍ لصراعه مع السُّلطة الأمريكيَّة التي ألبسته تهمة الجنون.

وبالعودةِ إلى “بلاد الثلاثاء” إنَّ القارئ فيه لن يجد أيّ محاولات لتحسين الواقع والرَّغبة في الأمل، فخالد سليمان الناصري يرسم لنا “جورنيكا” من الشرق يلوِّنها بالدماء، إنَّه يقدِّم لنا الحقيقة مفضوحة كما هي، فلا وجود لبصيص نورٍ أو أحلام تخفِّف عنا كلّ تلك القسوة التي قام بتصويرها، ولا تبشير بالفكاك من هذا المصير الذي وُضِعَ فيه هذا البلد؛ لقد صار قِيامة في غيرِ زمانِها لا يعود فيها الموت إلى الحياة بل الجميع يرحل إلى الموت.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: سارة جحجاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

الصورة: جورنيكا لـبابلو بيكاسو

اترك تعليقا