لماذا كان بعض العلماء أكثر شهرة من غيرهم؟
ربّما يعرِف الكثير من الناس أغلب تفاصيل حياة آينشتاين وهوكينج وفاينمان، وربما قد سمعوا بعض الشيء عن ماكس بورن؛ وتقريبًا ومن شبه المؤكّد أنّهم لم يحفظوا ميّزة أو حكاية أو براعة تُنسب لأمثال بول ديراك أو ولفغانغ باولي أو شرودنغر وغيرهم .. وهنا تبدأ العلاقة الطردية للشهرة مع الإعلام والصحافة.
عند المختصين علميًّا والمطّلعين فإنّ آينشتاين ليس أفضل أو أبرع من بول ديراك مثلًا، وكذلك هوكينغ أيضًا الذي ربما لن يضاهي علميّة ماكس بلانك. والمسألة هنا ليست مسألة اختصاص ومعرفة وبحث في الكتب أو الإنترنت، إنّما القصة كان قد كتبها وحاكها الإعلام. فمثلًا، الكل يعترف بعبقريّة وعلميّة ستيفن هوكينغ الفذّة ولكن في نفس الوقت وفي نفس عصره نَجد أنّ هناك ثلاثة علماء لا يزالون أحياءً قدّموا للبشريّة أعمالًا تفوق أعمال هوكينج وهم:
1- فريمان دايسون: آخر النظريِّين الشموليِّين
2-موري غيلمان: مكتشف الكواركس
3-ستيفن واينبيرغ: راسم النموذج المعياري
النقطة المهمّة تكمُنُ في أنّ هؤلاء كانوا بعيدين كل البعدِ عن وسائل الإعلام، إمّا لأنّهم لم تعجبهم الشهرة الشعبيّة أوأنّ الإعلام لم يجد فيهم ضالّته. بينما نجد أنّ الصحافة والإعلام قد وجدوا في هوكينج مادّة جذّابة. وبعيدًا عن العلم كان هوكينغ يجذب الجمهور بحالته الصحية وابتسامته الساخرة وكذلك أجوبته حول مواضيع عامّة وتفاعله مع الصحافة، كلّ ذلك هيّأَ له مكانةً إعلاميّة كبيرة وصدى واسع بين جماهير العامّة من الناس وفي السياق ذاته يبرز فاينمان كالعلامة الفارقة في الإعلام والصحافة. حيث امتلكَ هذا الرجل حسٌّ فكاهيّ وحكمة وعبقريّة، بغض النظر عن علميّته، فاكتسب من خلالها شعبية واسعة في مقاعد التدريس وفي الشارع، حتّى أنّه كان قد رسم ما يُعرف بمخطَّطات فاينمان على سيارته
لقد أعطى فاينمان انطباعًا جيدًا للنّاس على أنّه قاص للحكايا ورجل حكيم، وكذلك كان يَضرِب على آلة الطبل في المناسبات.
كل ذلك جعله واجهة إعلاميّة ساطعة، ومن تعليقاته الساخرة أسطرًا يتصفّحها الناس ويرونها بشكلٍ يوميّ. ولا أتصور أنّني أرغب في الكلام عن آينشتاين الذي أصبح أمر كثرة تداول إقتباساته عبر الصحف والانترنت يجعلني أشكُّ أنّها تُنسب إليه؛ وذلك لكثرة تعاطي الإعلام لشخصيته بدون تحقُّقٍ من المصدر الصحيح. وفي الصورة المرفقة لوحة لرسّام الكاريكاتير هربلوك وقد رسم لوحة يعبِّر فيها عن عالمية وشهرة آينشتاين آنذاك.
ومن زاوية أخرى، نجد الكثير من العلماء لم يتمكّنوا من الظهور إعلاميًّا وبشكل روتينيّ كما كان البعض الآخر. وربما كان بول ديراك، العالِم الفذُّ وهو مؤسس الديناميكا الكهربيّة الكميّة الحديثة، واحدًا من هؤلاء الذين ليس لهم صدًا وترحيبًا إعلاميًّا واسعًا.
نُبذة عن بول ديراك:
كانت معادلات ديراك مدهشة كونها استخدمت المصفوفات بدلًا من الكميّات القياسيّة. وكانت لخواصِّ معادلة ديراك أهميّة عظمى في الفيزياء النظريّة. وعلاوة على ذلك، فقد كانت هذه المعادلة معتبَرة وذلك لأنّها مدّتنا بالوصف الدقيق جدًا لدوران الجسيمات الأوليّة وأشدُّ من ذلك غرابة، فقد كانت المعادلة تحتوي على عناصر سالبة لكتلة الجسيمات. ونتيجة لذلك، فقد استنتج ديراك أنّ كل جسيم لابدّ وأن يحتوى على جسيم مضاد. فلمع بنظريته الكموميّة عن حركة الإلكترون والتي قادته عام 1928م لافتراض وجود جسيّم مطابق للإلكترون في جميع مظاهره، إلّا أنّه يتمتع بشحنة كهربائيّة معاكِسة بالإشارة لشحنة الإلكترون تدعى البوزيترون. وبقيت نظرية ديراك حتى عام 1932عندما قام الفيزيائي الأمريكي كارل أندرسون بإثبات وجود البوزيترون.
شخصية بول ديراك:
كان بول ديراك من الأشخاص قليلي الكلام والهادئين والانطوائيِّين، ولكي نختصر المعلومة، فلنتصور مدى عزلة وهدوء هذا العالم الكبير عندما أَطلق زملاؤه حينها مصطلح (وحدة ديراك) كناية عن المدّة التي يحتاجها ديراك لنطق كلمة ما، أو ما يعادل كلمة واحدة كل ساعة. وحتّى يبقى ديراك بعيدًا عن أضواء الشهرة؛ فقد قرر عدم استلام جائزة نوبل حينها لكي لا يتقرب من الجمهور؛ لكن أصدقاؤه نصحوه بأنّ رفض الجائزة سيزيد من تسليط الضوء عليه ووضعه في دائرة الاستفهام والتساؤل، وحينها قبل بالجائزة على مضض. وهنا أصبح الإعلام والشهرة بعيدين كل البعد عن ديراك ولم يجدوا فيه أي شيء ممتع وقريب من الجمهور العلميّ أو عامّة الناس. وكان ذلك السبب بوصول الشيء القليل لنا عن حياته والتي كانت مربكة هي أيضًا حتى على مستوى عائلته وبيته.
أخيرًا، فإنّ العلماء الذين أصبحوا رموزًا لم يكتفوا بعبقريتهم فقط بل بكفاءتهم أيضًا وبقدرتهم على التأثير في النّاس، وتمتّعهم بانسيابية وعلاقة جيّدة مع عامة الشعب. وهذه الَملَكَة العجيبة أوصلتهم إلى الشهرة وإلى مكانة تجعلُهم في نظر الجميع علماء العصر البارزين.
الشخصية الأخرى والتي لم تكن على وفاق أبدًا مع الواقع الجماهيري والإعلامي كانت قد طغت على الواقع العلمي بجدارة في العالم كله وقتها. هي شخصية إسحاق نيوتن؛ هذه الشخصية المشهورة جدًا و بتلك الصورة المشهورة والتي عرفها العالم من خلال شخص مسترسِل الشَّعر وبوجه شاحب صاحب نظراتٍ ثابتة وقوية لم تكن أكثر اجتماعية وتواصل مع العالم الخارجي من صديقنا سالف الذكر بول ديراك.
في جامعة كامبريدج كان نيوتن نموذجًا للأستاذ شارد الذهن، ولندع سكرتيره هنري نيوتن (لا قرابة بينهما) يتحدث عنه قليلاً:
لم أرَ نيوتن يومًا ولم أعرف بأنه قد قضى وقتًا للاستجمام أو الترفيه مثل ركوب الخيل أو التمشية أو البولنغ، لأنه كان يرى أن كلَ وقتٍ خارج دراساته هو مضيعة للوقت. و نادرًا ما رأيته يأكل في قاعة الطعام في الجامعة وإذا ما حدث ذلك كان يظهر منتعِلًا حذاءً مهترئًا قديمًا دون أن يربط جورَبيه بإحكام، وقد مشّط شعره بالكاد. وفي أحيان كثيرة كان يلقي محاضراته في قاعة خاوية وبنفس الرضا الذي كان يلقي به محاضراته وقاعته مليئة بالطلاب! عبارة أخرى كان قد أطلقها وليم بليك عن نيوتن و هي أن انكبابه على العلم كان قد حجبه عن العالم .
أخيرًا ومن المفارقة والغرابة أن الاثنين (ديراك ونيوتن) كانا يملكان العديد من الصفات المشتركة؛ عمرهم كان في العشرينات عندما قاما بعملهما الاصيل في جامعة كامبردج، وكلاهما كان أستاذًا للرياضيات إضافة لأن الاثنين لديهما انعدام تام للمهارات الاجتماعية وعدم القدرة على الدخول في محادثة قصيرة.
سايمون بارون عالم نفس في جامعة كامبردج يدّعي أن الاثنين كانا يعانيان من متلازمة أسبيرغر القريبة من متلازمة التوحد .
يبدو أن العلم وحده لم يكن كافيًا جدًا لدرجة أن يكون المرء على وفاق وتواصل مع محيطه.
التواصل وطرق كسب الجمهور وكذلك أسلوب التهكم والسخرية المهذبة وربما حتى العراك الخفيف بالأيادي، كلها قد جعلت عالم مثل نيل ديغراس تايسون في مصاف علماء قرننا الحالي وهو بعلميته ودراساته المشهودة له وبرامجه العلمية ذائعة الصيت لم يكن يومًا يضاهي من ذكرتُه آنِفًا من العلماء، إنها مَلَكة التواصل الجماهيري.