النسيان والتجلي الأخير

وقلت أعيش من غير ذكرى.. يمكن تخلي قلبي يحن إليك

استمعت كثيرًا لتلك الجملة ولذلك المقطع الأخير من أغنية هجرتك لأم كلثوم، ولكنّي لا أدري لِمَ ركّزت تلك المرة كما لم أركز من قبل في كلمات الأغنية وفي الجملة، وجالت بخاطري فكرة النسيان، وقفزت حينها لرأسي قصيدة درويش المحبَّبة لقلبي، والتي قرأتها واستمعت إليها بصوته، وهي قصيدة “تنسى كأنك لم تكن”، لا أدري ما الذي جعل عقلي يبني ذلك الجسر بين الجملة التي كانت تصدح بها أم كلثوم وبين قصيدة درويش التي يقرأها بصوته ببراعة جعلت القصيدة تخترق ثنايا القلب وتمتزج بي وكأنها جزء لا يتجزء مني.

وفي هذا الوقت استدعى عقلي صورة ثالثة، أحد الصور مكتوب عليها النسيان شكل من أشكال الحرية، وهي من الصور المحببة لقلبي كثيرًا.

لا أدري كيف حدث الرابط بين الثلاث صور، ولكنّي أدركت بعدها أن الرابط الوحيد بينها هو النسيان وفكرته، ومدى تأثُرنا به، وتأثيره علينا، وعلى أفكارنا، وعواطفنا، وتصرفاتنا.

أم كلثوم تستجدي النسيان في جملتها، فهي تريد العيش بدون أيّ ذكريات تربطها بمحبوبها، ظنًا منها أن ذلك هو الحل الأمثل للتوقف عن التفكير به، وعن الاشتياق له من خلال الذكريات التي كانت تجمعها به، وتكمل في جملتها التالية “مفضلش عندي ولا فكرة غير إنيّ أنسى أفكر فيك” مع محاولاتها في نسيانه ونسيان الذكريات برفقته، لم يعد يشغل بالها سوى محاولة نسيانه، فهي لا تنسى ذكرياته ولا تتوقف عن التفكير به، فكل محاولتها تعيد لها التفكير به.

الذكريات التي تمر بنا ونريد التخلص منها لا تتركنا وتذهب، ولا تجلب لنا الراحة والسكينة، لا تجلب سوى التفكير فيما مضى وفي كل ما نريد التخلص منه. فمحاولة النسيان عنوة وبسرعة وبدون إعطاء القلب والعقل مساحة مناسبة للنسيان، تجعل ما نريد التخلص منه حاضر وبقوة في عقلنا وفي تفكيرنا حتى وإن تظاهرنا كذبًا بأنّنا نسيّنا ولو تظاهرنا وكذبنا على أرواحنا بأن ما نريد التخلص منه لا يؤثر بنا ولا نفكر به، فكل ما بالأمر بأنّنا نوهم أنّفسنا بذلك وبأن كل شيء أصبح طبيعيًا وبأن كل تلك الذكريات ذهبت بدون رجعة وإن عادت فلا تأثير لها علينا، ويكون كل ما فعلناه أنّنا ذهبنا بها لمكان ظنًا منّا أنه مكان قصي بعقلنا ومن الصعب الرجوع إليه، ولكن في حقيقة الأمر تكون بالقرب منّا ومن أعيّننا وفي بالنا. وأن كل ما نفعله هو خلق حالة من الوهم ندخل أّنفسنا بداخلها، حتى نقتنع بأنّنا قدرنا على التجاوز والنسيان، ولكن ما فعلناه حقيقة هو الهرب ولا شيء سوى الهرب، فلم ننسى لأننا لم نعطي نفسنا الفرصة لذلك.

إعلان

محاولة النسيان عنوة تأتي بنتائج عكسيّة بعد مراحل ليست بالطويلة، ويظهر ذلك جليًا عند التفكير أو مرور أي شيء يذكرنا بمن نريد نسيانه سواء كان شخصًا أو حدثًا أو أي كان ما نريده نسيانه. يظهر كل شيء؛ كَذِبنا على أنفسنا قبل كل شيء، والوهم الذي كنّا نعيشه، وتعود الذكريات كشريط سينمائي أمام أعيّننا يذكرنا أو حتى لو أنّنا لم ننسى من الأساس، فيقوم بإعادة الذكريات من المكان الخلفي الذي ذهبنا بها إليه، إلى الواجهة من جديد.

على الجانب المقابل يحدثنا درويش، عن مكانتك عند الجميع -ليس بالضرورة يكون هذا ما كان يريد قوله دومًا، فالنّص الشعريّ غير خاضع لمعنى واحد ولفهم واحد فكلٍ منّا يراه كما يدركه وهنا سأتحدث عنه من تلك الناحية- ويتحدث عن أنّك ستنسى وكأن وجودك كان هو والعدم سواء “تنسى كأنّك لم تكن شخصًا ولا نصًا وتنسى”

النسيان هنا هو نسيان الآخرين لك، وإدراكك لذلك، وإيمانك بأنه سيحدث مع مرور الوقت، فليس من الضروري من يوجد الآن أن يظل باقيًا للأبد، وأن يتذكرك للأبد، حسنًا فمن المحتمل أن تتذكر أن هذا الشخص كان موجود يومًا ما في حياتك، ولكن التذّكر هنا الذي أقصده هو وجودك بالشكل الذي كنت متواجد به، حاضرًا وبقوة في حياته، نسيانه لذلك قد يحدث وبلا شك.

يكمل الحديث حتى يصل:

أنا للطريق هناك من تمشي خطاه على خطاي

تتجلى في تلك الجملة عبقرية لافتة، حين يتحدث عن نفسه بأنه للطريق، وللحياة، وبأن هناك من سيأتي بعده وقد يُخفي أثره وخطوات أقدامه على الأرض، وتتمثل العبقريّة في الوصول للاعتقاد بعدم جدوى البقاء للأبد، وعدم السعي للخلود بأي شكل من الأشكال فيما بعد، وبأن ما يهم هو أن يكون هناك من سيصل لما يريد، وبأن الحياة تسير ولا تتوقف، وبأن الأهم في الأثر الذي قد نتركه في حياة الأخرين حتى وإن لم نبقى بها، والتفاني والتسامح والكرم في العطاء والتأثير دون الطمع في الخلود، إدراكًا بأنه سيأتي يوم ويُنسى.

حين ننظر لذلك النص، قد تتوالى على عقولنا بعض الأسئلة وهي كثيرة ولا تنتهي، لِما سنُنسى؟ لما لا نبقى دائمًا؟ والعديد من الأسئلة، ولكنيّ أظن أن خاتمة القصيدة قد تجيب الكثير عن السؤال:

فأشهد أنني حُرٌ وحيٌ حين أنسى

التحرر من الأسئلة أفضل ما نملكه، والتحرر من كل ما يؤرقنا، من كل ما يزعجنا ويشغل بالنا يجعلك حر وحي.

قد تكون تلك قراءة ظاهريّة لنص القصيدة، ولكنّها القراءة التي أعتقد أنّها مناسبة هنا.

قد لا يوجد رابط بين ما تغنيه أم كلثوم وبين تلك القراءة لنص درويش، سوى أمرٍ واحد وكما ذكرت في البداية هو النسيان، بأغنية أم كلثوم محاولة النسيان التي تنتهي إلى الفشل دومًا، لأن محاولة النسيان هنا لا تأتي بالتدريج، ولا تأتي في مسارها الطبيعي ولكنها تأتي عنوة، وكأي شيء يتم فعله عنوة ينتهي إلى عكس ما نرغب. وفي قراءة نص درويش، هو إيمانك بأنك قد تُنسى كأي شيء يُنسى، مع عدم طمعك في الخلود نتيجة لما تقوم به وما تحاول فعله للأخرين، وإيمانك الذي يقودك في النهاية إلى التحرر من كل القيود التي تكبلك.

وفي الختام تظل جملة:

النسيان شكل من أشكال الحرية

جملة بليغة للغاية، ولكن النسيان هنا ليس النسيان الذي نحاول جلبه عنوة في وقت ليس وقته ومكان غير مكانه.

فدع كل الأمور تسير بشكلها الطبيعيّ كما تتدفق المياه في مجراها بدون تدخل من أحد.

إعلان

اترك تعليقا