من بائع بطيخ إلى طبيب عزيز مصر
بين طيّات التاريخ عجائب وغرائب، قصص أقرب إلى الخيال، رجال صنعوا المعجزات، خرجوا من رحم المِحن والمعاناة، تجاوزوا الإحباط واليأس، اجتهدوا ليسطّروا أسماءهم في التاريخ، منهم: إبراهيم باشا النبراوي
نابغة الطبّ الذي نشأ في نبروة في أسرة فقيرة تمتهن الفلاحة، حيث كان والده يمتلك بضعة قراريط من الأرض يشقى في زراعتها. في صباه، ساعد النّبراوي أبيه وأمّه في زراعة الأرض، وأرسله والده للكُتّاب فتعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، ولمّا زرع الأب أرضه بالبطيخ وأراد أن يذهب بالمحصول لعاصمة المديرية، مدينة طنطا، لبيعه، قرّر النبراوي أن يذهب بالمحصول للقاهرة فأقنع والده بأنّ تسويق المحصول بالقاهرة سيعود عليهم بالمال الوفير، فاستجر جملًا وحمل على ظهره البطيخ.
داعبته الأحلام وهو متّجه للقاهرة حتى قَصَد حيّ الحسين، فأنزل بضاعته ورصّها، وأقبل النّاس عليه إلا أنّ النبراوي لم يجد الثّمن مرضيًا له فرفض البيع وقرّر ألا يتسرّع، فمكث يومًا واثنين… ومع مرور الوقت بدأت بضاعته تفسد فلم يجد أمامه سوى أن يبيع البطّيخ بأيّ ثمن. أُصيب النّبراوي بالإحباط وطلبَ من صاحب الجَمَل العودة للقرية، وأرسل معه المبلغ الذي باع به، وقرّر البقاء بالعاصمة للبحث عن عمل لعلّه يعوّض خسارته.
ساقته قدمه لإحدى الحواري المجاورة للجامع الأزهر، فرأى شيخًا كبيرًا ذا لحية بيضاء، بيده كتاب، وبيده الأخرى مسبحة، ومن خلفه عدد كبير من الفتية المتعمّمين، فتتبّع النبراوي الموكب حتى وصل إلى الجامع الأزهر، استهواه وقار الشيخ وزِيّ الفتية وأدبهم وهم يتتبعون شيخهم، فقرّر أن يلتحق بالأزهر لاستكمال دراسته لعلّه يصبح شيخًا لقريته نبروه.
وعندما قرّر محمد علي باشا إنشاء مدرسة الطب وعهد إلى كلوت بك بتأسيسها، ذهبت لجنة إلى الأزهر لتختار من بين نوابغ طلابه نخبة يكونون نواة مدرسة الطب، فرشّحه شيخه لِما وجده فيه من الفطنة والذكاء، لينتقل من الأزهر لمدرسة الطبّ، وبعد أن فرغ من دراسته بمدرسة الطبّ بُعث إلى فرنسا في نوفمبرعام 1832م ضمن بعثة طبية انتُخب أعضاؤها من مدرستي الطب والصيدلة بعد أن أتمّوا علومهم بها. وسافروا إلى فرنسا برفقه الفرنسي كلوت بك، ناظِرِ مدرسة الطب، وامتحنتهم الجمعية الطبية بباريس بحضور كبار العلماء الأوربيين فنجحوا نجاحًا باهرًا، وكانت إجابة الأسئلة تتم بالفرنسية التي تعلموها بمصر، وتكوّنت البعثة من 12 عضواً وهم :
إبراهيم النبراوي ، ومحمد الشباسي، ومحمد شافعي، ومصطفى السبكي، والسيد أحمد الرشيدي، وعيسوي النحراوي، والسيد حسين غانم الرشيدي، ومحمد علي البقلي، ومحمد السكري، ومحمد منصور، وأحمد بخيت، وحسين الهياوي.
في فرنسا كان مرتّبه الشهريّ 350 قرشًا. عاد إلى مصر عام 1838م واشتغل بمدرسة الطب المصرية فعُيّن مدرسًا برتبة اليوزباشي، وظلّ يترقّى حتى أصبح وكيلًا لها، وذاع صيته حتى اختاره محمد علي باشا طبيبه الخاصّ، وأنعم عليه بالباشوية، كما اصطحبه في رحلته إلى أوروبا عام 1848م، وظلّ محافظًا على مكانته لدى أسرة محمد علي بعد وفاة عزيز مصر، فاختاره عباس الأول طبيبًا خاصًا له.
تزوّج النبراوي أثناء تواجده بفرنسا من سيدة فرنسية، وظلّ وفيًا لها حتى وفاتها، وبعد وفاة زوجته تزوّج من فتاة أنعمت عليه بها الوالدة باشا والدة عباس الأول، وسافر مع الوالدة باشا لأداء فريضة الحجّ فاشرف على صحّتها وصحّة الحجيج.
رُزق من زوجته الفرنسية بولدين، أحدهما يوسف باشا النبراوي، الذي عمل ضابطًا بالجيش المصري، كما تولّى رئاسة إحدى المحاكم، أمّا الابن الثاني فهو خليل النبراوي الذي اختار أن يكون طبيبًا مثل أبيه، وهو والد قائدة الحركة النسائية في مصر آنذاك “سيزا نبراوي” سكرتيرة الاتّحاد النسائي.
وصفه علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية بأنّه أنجبُ من اشتُهر في الجراحة. ومن مؤلّفاته كتاب الأربطة الجراحية وطبع عام 1838م. وتَرجم من مؤلّفات كلوت بك من الفرنسية إلى العربية: نبذة في الفلسفة الطبيعية، ونبذة في أصول الطبيعة والتشريح العام، وطُبِعا عام 1837م.
رحل النبراوي باشا عن الدنيا عام 1862م، لتُطوى صفحة عالمٍ من أبرز علماء مصر في عصر النهضة الحديثة، ومن أوائل من أُرسلوا في البعثات العلمية في عصر أسرة محمد علي باشا. رجُلٌ ضرب المثل في المثابرة وعدم الاستسلام للفشل وتخطّي كلّ العوائق، ليجسّد معنى الصّبر والاجتهاد فتحدث المعجزات.