الملجأ الأخير للنزعة المثالية
تعريف النزعة المثالية:
المثالية idealism في الفلسفة هو المذهب القائل بأن حقيقة الكون أفكار وصور عقلية، وأن العقل مصدر المعرفة. كانت بداية المثالية كما هو معروف مع أفلاطون، إذ إن أفلاطون كان يتصور عالمًا عقليًا قوامه أفكار بمثابة النماذج للموجودات من حولنا والتي هي في عالمنا المحسوس جزئية ومادية، والعالم العقلي هو الحق المطلق، والعالم المحسوس أشبه ما يكون بالظلال.
النزعة المثالية عند باركلي
أما ظهور النزعة المثالية عند باركلي في القرن الثامن عشر يتمثل في ضرورة إنقاذ النزعة المثالية الموضوعية للدين بطريقة مباشرة، غير أن فلسفة باركلي كانت عاجزة عن أن تفسر تقدم العلوم الذي حدث في عصرها، مثال ذلك الرياضيات. فقد تجاهلتها فلسفة باركلي وأعلنت أنها عبث لا طائل وراءه، ولقد رأينا أن الفلاسفة المثاليين أمثال باركلي يتحاشون الخوض في المسائل العلمية. غير أن هذا لا يكفي، فلقد بلغ من تطور العلوم، منذ القرن الثامن عشر، ولا سيما أن وضع نيوتن النظرية الميكانيكية العامة عن الكون، أن أصبح وضع باركلي لا يمكن الدفاع عنه، فاضطرت النزعة المثالية إلى أن تبحث عن وضعٍ للتراجع فكان لابد من إتاحة الفرصة للدين أن يستمر وأن يستفيد من الشك، وذلك حسب ادعاء الفلسفة الجديدة في قولها:
تدعي النزعة المادية أن المادة هي الأولى ولا علم لنا بذلك.
وهكذا تحاول هذه الفلسفة أن تبدو كطريق ثالث بين النزعة المادية، فهي ترفض أن تتخذ موقفًا معينًا بصدد مشكلة الفلسفة الأساسية بقولها أنه لا يمكن اتخاذ موقف معين، فتدعي أنها تتخذ موقفًا نقديًا لا موقفًا عقديًا. (1)
الوجود الفعلي في تفاعل الفكر مع الواقع ليس إذن لأفكار متناثرة تنبت حرة طليقة في أذهان المفكرين الأفراد، إنما هي للبنية الفكرية التي في إطارها تنبت هذه الأفكار ويتحدد بالضرورة إمكان ظهورها وتطورها، ليس للفكر الفردي مهما بلغت أهميته العلمية أو النظرية وجود مستقل، إذ لا وجود له إلا في بنية فكرية متكاملة تحدد موقعه بالنسبة إلى أفكار أخرى تضمها وحدة بنية، وبالتالي وحدة تطور؛ لهذا يستحيل إطلاقًا وجود تفاعل ممكن بين الفكر والواقع، إذا كان هذا التفاعل كما يتوهم البعض بين أفكار منفردة وواقع اجتماعي تاريخي له منطقه، اللهم إلا إذا اتخذنا الفكر الأفلاطوني مقياسًا ومنهجًا لفهم الواقع، أو إذا اعتبرنا المفكر الفرد كالله يقول للشيء كن فيكون، قد نصل في هذه الحالة الأخيرة إلى تفسير حضور الواقع في فكر الفرد، عن طريق منهج فرويدي مشوه يلجأ إليه سارتر أحيانًا، لكننا نعجز فعلًا عن تفسير فعل الفكر الفردي أو المنفرد في هذا الواقع الاجتماعي.
التفسير الوحيد الذي يمكن أن نعطيه لهذا الفعل تفسيرًا ميكانيكيًا ليس في حقيقته تفسيرًا. حين يخرج الفكر أو ينفرد عن البنية الفكرية التي تحدد الإطار التاريخي لتطوره، يخرج عن الواقع الاجتماعي نفسه ويستقل عنه، فيستحيل أن يكون له في هذا الواقع أي أثر. وكيف يمكن أن يكون للفكر في الواقع فعل إذا كان الفكر يأتي الواقع من الخارج وكان الواقع في منطق تطوره التاريخي مستقلًا عن الفكر؟
إن الإرادة الذاتية وإن استندت إلى الفكر المنفرد أو قُل لأنها تستند إليه تكشف دومًا عن عجزها حين تصدم الواقع في غفلة عن منطقه.(2)
كانت النزعة المثالية الموضوعية تعلق المادة بفكر عام شامل بينما كانت النزعة المثالية الذاتية تذيب المادة في وعينا. غير أن النزعة المثالية الموضوعية قد قضت عليها علوم الطبيعة بينما قضت الفيزيولوجيا والعلوم الاجتماعية على النزعة المثالية الذاتية، ثم تأتي فلسفتنا الجديدة التي تقول:
من أين لكم أن تعرفوا أن العلم يجعلنا نعرف الواقع كما هو؟
لا شك أن العلوم موجودة، ولكن كي نعرف ما إذا كان الواقع الموضوع هو في مبدئه مادةً أو فكرًا، يجب أن نعرف أولًا ما إذا كان ذهننا يمكنه معرفة الواقع الموضوعية في ذاته.
وهكذا لا تعلق هذه الفلسفة المثالية المادة بالفكر وهي لا تذيب المادة في الوعي بل هي تفكر كما لو كان كل منهما غريبًا عن الآخر، كما لو كانت المادة لا يمكن للفكر أو المعرفة تمثلها، كما لو كانت معرفتنا عاجزةً أيضًا عن أن تسبر غور الطبيعة وإمكانيات فكرنا. وتسمى هذه النزعة التي تدعي أنه لا يمكن الإجابة على السؤال الأساسي للفلسفة لأننا عاجزون عن معرفة مبادئ الأشياء الأولية وسنظل كذلك.
وتسمى هذه النزعة باللاأدرية agnosticisme وتتألف هذه الكلمة من كلمتين يونانيتين تعنينان العجز عن المعرفة. رائد هذه الفلسفة في القرن الثامن عشر هو ديڤيد هيوم الايقوسي 1724-1804 وممثلها الرئيسي هو إيمانويل كانط الألماني الذي عاش في أيام الثورة الفرنسية ولقد اتخذ في فرنسا في القرن التاسع عشر اوغوست كومت 1798-1857 موقف مشابها وكذلك عدد من المؤلفين الذين تمتزج عندهم الأدرية بصورة نزعة المثالية الاخرى. لا نجد في الحقيقة عن هؤلاء المفكرين النزعات الفلسفية في حالتها الصرفة كما نجدها عند مؤسسي المذاهب بل نجد عندهم مزيجا غير مستقر . هذا وقد قامت فلسفة كانط بدورها في الحركة العمالية لأن أعداء الماركسية قد اعتمدوا عليها لمحاولة القيام بإعادة النظر في الماركسية .
فلنرَ إذن حجج الاأدرية كتب هيوم يقول:
يمكن أن نعتبر أن من البديهي أن الناس يميلون بغريزتهم الطبيعية إلى الاعتماد على حواسهم وأننا نفترض في أي نقاش وجود عالم خارجي لا يتعلق وجوده بإرادتنا بل هو موجود حتى ولو فنينا مع جميع الكائنات ذات الحساسية.
وهكذا نرى أنه حتى هيوم يختلف بأن النزعة المادية مما يقول به الرأي العام. ولكن تزعزع هذا الرأي الأساسي الشامل أشد الفلسفات سطحيةً، تلك التي تعلمنا أن لا شيء يتمثله الذهن سوى الصورة أو الإدراك فتبدو الطاولة التي نراها أصغر إذا ابتعدنا عنها بيد أن الطاولة الحقيقية التي توجد مستقلة عنا لا تتغير. وهكذا لم يدرك ذهننا سوى صورة الطاولة.(3)
كان كارل ماركس أصغر من أن يلعب أي دور في أعوام 1835-1841 فهو لم ينجز أطروحته الجامعية في الفلسفة المسماة: “الفرق بين فلسفة الطبيعة عند ديموقريطس وأبيقور” إلا عام 1841 ولم يدشّن كتابه الجاد الأول: “نقد فلسفة الحق عند هيغل”. إلا من بعد أطروحته بثلاثة أعوام والواقع أن مقدمته لهذا النص تلخص كامل إنجاز اليسار الهيغلي في هذه المرحلة، فهو يقول في مفتتح كتابه بل في الأسطر الأولى:
“لقد أنجزت نقد الدين في ألمانيا.” أٌنجز! على يد فيورباخ وبرونو باور (راعي ماركس ) وشترواس.
وإنجاز نقد الدين لم يكن متصلًا عن نقد ما أسمى (اللاهوت العقلاني) عند هيغل، الذي كانت مثاليته الفلسفية تتعارض بنظر النقاد الشباب مع الديالكتيك النقدي، وفكرة التجاوز مثلما أن صوفيته الميتافيزيقية تناقض المادة التجريبية الواقعية التي يعالجها. وكان فويرباخ أول من أشار إلى هذه الحقيقة، بطرائق شتى منها قوله:
إن فلسفة هيغل تنشطر إلى مذهب محافظ ومضمون علمي.
انتقد فويرباخ المنهج المثالي في فلسفة هيغل الذي يبدأ بالفكرة وينتهي بالفكرة المطلقة، أو ديالكتيكه الغارق في الاختلاف والمتغافل عن التماثل، أو في الانقطاع دون الاستمرار. بعد عقود سيقول ماركس:
إن ديالكتيك هيغل يقف على رأسه (مثالي) ويجب إيقافه على قدميه (يقف على أرضية الواقع الفعلي).
وبعده سيأتي إنجلز ليقول:
إن فلسفة هيغل تنقسم إلى مذهب محافظ ومنهج ديالكتيتكي ثوري، وإن كل من ركز على المنهج أمكن انتماؤه إلى أقسى المعارضة في السياسة، كما في الدين، وإن كل من ركز على المذهب كان محافظًا أيضًا، في السياسة كما في الدين.
إن الاغتراب/ الاستلاب الديني كما صوره هيغل، أرسى الأساس لاستكمال حركة التنوير الألمانية في نقد اللاهوت على يد اليسار الهيغلي. وكان هذا النقد عندهم ضروريًا لاستكمال فلسفة هيغل لتحطيم الأساس اللاهوتي للدولة البورسية الاستبدادية.(4)
النظرية والممارسة
لا بد من دراسة ونقد وتحليل مختلف الأشكال التي تجلى فيها مفهوم وحدة النظرية والممارسة في تاريخ الفكر، لأنه ما من شك بأن جميع الإيديولوجيات والمذاهب الفلسفية قد عالجت هذه المسألة امتدادًا لنظرية القديس توما الأكويني المدرسة السكولاستية “الممارسة امتداد للنظرية” أي التأكيد على العلاقة الضرورية بين تراتب الأفكار وتراتب الأفعال.
ملاحظة ليبنتزا الشهيرة حول العالم (التي مسخها المثاليون الإيطاليون) بقدر ما يكون العلم تأمليًا بذاك القدر يكون عمليًا. ثم محاولة ج. ب. فيكو – (المعرفة فعل) – التي أثارت نقاشات وتفسيرات عديدة، والتي طوّرها كروتشي باتجاه مثالي، إذ يقول:
بما أن المعرفة فعل، فإننا نعرف ما نفعله فقط. هنا تكتسب كلمة “فعل” معنى خاصًا، إذ تضحّي لكلمة “معرفة” فتنتهي المسألة إلى مجرد طوطولوجيا.
بما أن كل فعل هو محصلة إرادات متباينة تتأثر بدراجات متفاوتة من الكثافة والوعي والانسجام، بالمقارنة مع الإرادة الجماعية، فمن الواضح –إذًا– أن النظرية التي تماثل هذا الفعل، الضامرة فيه، لا بد من أن تكون هي –أيضًا- تركيبًا من المعتقدات ووجهات النظر المخلطة والمتناثرة. لكن ذلك لا يمنع ان تتطابق الممارسة والنظرية ضمن الحدود والشروط المبينة.
وعندما تطرح مسألة الملاءمة بين النظرية والممارسة فإنها تطرح على النحو التالي:
1- الانطلاق من ممارسة معينة لبناء نظرية، تصادف العناصر الحاسمة في هذه الممارسة وتتمثل بها، فتعجل من العملية التاريخية الجارية، وتضفي على جميع عناصر الممارسة المزيد من الاتساق والتماسك والفاعلية –أي تمدها بالقوة الدافعة القصوى.
2- الانطلاق من موقف نظري معين لتنظيم العنصر العملي الذي هو شرط تطبيق الموقف النظري نفسه. إن الملاءمة بين النظرية والممارسة عمل نقدي، يثبت عقلانية الممارسة وضرورتها، كما يثبت عقلانية النظرية وواقعيتها. لهذا السبب تبرز مسألة الملاءمة هذه بأوضح ما تبرز في حقبات التاريخ التي نطلق عليها عادةً تسمية “مراحل الانتقال” عندما تتسارع حركة التغير، وتكون القوى العملية التي أطلقتها هذه الحركة بحاجة إلى أن تبرر نفسها، من أجل اكتساب المزيد من الفاعلية والشمول، أو عندما تظهر عدت برامج نظرية، تحتاج – هي أيضًا– إلى أن تبرر نفسها على نحو واقعي بإثبات مقدرتها على الالتحام بحركات عملية –وأن تتبنّى الحركات العملية لهذه البرامج النظرية هو السبيل الوحيد؛ لكي تصبح أكثر عمليةً واكثر واقعيةً.(5)
الشيء بذاته عند كونت
مسألة “موضوعية الواقع الخارجية ” بلاقدر الذي ترتبط فيه بالشيء بذاته أو “النومينوم” عند كونت. لا بد من الاعتراف بأن “الشيء بذاته” مستجر من “موضوعية الواقع الخارجية” ومن المذهب الواقعي المسمى “الواقعية الإغريقية – المسيحية” _ أرسطو – توما الأكويني. وهذا ما يؤكده انبثاق المدرسة الكونتية الجديدة المدرسة النقدية الجديدة عن هذا التيار أو ذاك، من تيارات المادية المقبولة أو الفلسفة الوضعية. إذا كان الواقع هو كما نعرفه أو ذاك كانت معرفتنا له تتغير باستمرار –أي إذا لم يكن ثمة من فلسفة نهائية، وإنما فلسفات محكومة تأريخيًا –يصعب علينا أن نتصور أنّ الواقع يتغير موضوعيًا في الوقت ذاته الذي نتغير فيه نحن، ويجب الاعتراف بذلك، ليس على صعيد الحكمة الشعبية وحسب وإنما على صعيد الفكر العلمي أيضًا. ورد في “العائلة المقدسة” أن الواقع يتلاشى كله في الظاهر وأنه لا يوجد شيء باستثناء الظواهر. وهذا قول صائب بدون ادنى شك، ولكن يصعب إثباته.
فما هي الظواهر؟ هل أنها أشياء موضوعية قائمة بذاتها ولذاتها؟ أم أنها خصائص اكتشفها الانسان بحكم مصالحه العملية (تركيب حياته الاقتصادية) ومصالحه العملية، أي بحكم حاجته إلى اكتشاف نظام يسيّر العالم، وحاجته إلى ترتيب الأشياء (وهاتان حاجتان مرتبطتان –أيضًا– بمصالح عملية راهنة أو لاحقة ).
إذا قلنا أننا لا نتعرف في الأشياء إلا على انعكاسات لأنفسنا ولحاجتنا ومصالحنا، أي أن معارفنا بنى فوقية ليس إلا (أو فلسفات غير نهائية)، يصعب علينا تحاشي التفكير بأشياء حقيقة تتعدى هذ المعارف ليس بالمعنى الميتافيزيقي لـ”النومينوم”، أو “الإله المجهول”، أو “الكائن الذي لا يعرف”، وإنما بمعنى محدد: “جهلنا النسبي” للواقع لأشياء ما نزال لا ندركها علمًا بأن معرفتها ممكنة يومَ تكتمل فيه الأدوات “الجسمانية” والذهنية البشرية –أي عندما تتغير الظروف الاجتماعية والتقنية للمجتمع البشري باتجاه تقدمي. والذي نقوم به – عملية رصد تأريخية ترينا في المستقبل صورةً لعملية تطور مماثلة للعملية التي نعرفها ماضيًا وحاضرًا. ومهما يكن من أمر، فمن الضروري أن ندرس كونت، وأن نعيد النظر بمفاهيمه بدقة.(6)
المادية التاريخية وعلم الاخلاق
يبدو لي أن المنطق في البحث عن الأساس العملي للأخلاقية المادية التاريخية يجب أن يكون في المقولة القائلة بأن: “ما من مجتمع يطرح على نفسه مهامًا معينةً إلا إذا توافرت الظروف يصبح تنفيذ هذه المهام “واجبًا” وتصبح “الإرادة” متحررةً من كل قيد.” إذ ذاك تتحول الاخلاقية إلى عملية بحث عن الظروف الضرورية لإطلاق حرية المبادرة باتجاه معين –نحو هدف معين– والبرهنة عن أن هذه الظروف قائمة فعلًا. كذلك ينبغي وضع جدول بتراتب الأهداف الواجب بلوغها – لا “الأهداف بشكل عام”. – لأننا نريد أن “نرفع المستوى الأخلاقي” للمجتمع بأكمله، وليس لأفراد معزولين.
الانتقال من العلم إلى الفهم إلى الشعور (وبالعكس)
العنصر الشعبي “يشعر” ، لكنه لا يفهم أو لا يعلم دائمًا، والعنصر المثقف “يعلم”، ولكن لا يفهم ولا “يشعر” دائمًا. في الطرفين نجد – إذًا- المتحذلق ومدّعي المعرفة من جهة، والعاطفية العمياء والتعصب من جهة أخرى. هذا لا يعني أن المتحذلق عاجز عن الشعور، بل بالعكس، فالحذلقة العاطفية سخيفة وخطرة، بقدر سخف وخطورة التعصب والديماغوجية الأكثر جموحًا.
إن الخطأ الذي يرتكبه المثقف يكمن في اعتقاده بإمكان وجود العلم بدون الفهم وبدون الشعور، التحمس خاصةً (التحمس ليس للعلم بذاته وحسب، إنما لموضوع العلم أيضًا) – أي في اعتقاده بأنه قادرٌ على أن يكون مثقفًا فعليًا (وليس مجرد متحذلق)، إذا انعزل وتمايز عن الشعب – الأمة، إذا لم يشعر بأهواء الشعب البدائية، ولم يفهمها ويفسرها ويبررها في الوضع التاريخي الراهن ويربطها جدليًا بقوانين التاريخ برؤية شاملة أرقى، تجري بلورتها اعتمادًا على منهج علمي متماسك هو “العلم”.
لا تُمارس سياسة، ولا يُصنع تاريخ، بدون هذا الشعور –أي بدون هذا الرابط العاطفي بين المثقفين والشعب – الأمة وفي غياب هذا الرابط، تتقلص العلاقات بين المثقف والشعب – الأمة إلى علاقات مع بيروقراطية وشكلية، ويتحول المثقفون إلى فئة متمايزة مغلقة (ويمكن تسمية هذه العلاقة علاقة “مركزية عضوية”).
أما إذا اتصفت العلاقة بين المثقفين والشعب – الأمة بين القادة والأتباع، بين الحكام والمحكومين باندفاع عضوي، يتحول فيه الشعور – الشغف إلى نهم، وبالتالي إلى علم (ليس علمًا آليًا، وإنما علم خلّاق) تتولد –إذ ذاك، وإذ ذاك فقط – علاقة تمثيل، ويجري تبادل عناصر بين المحكومين والحكام، بين الأتباع والقادة، أي تحقق الحياة المشتركة التي هي وحدها القوة. الاجتماعية الفاعلة، وتولد “الكتلة التاريخية”.(7)
ها نحن أولاء إذًا أمام صيحة على طريقة باركلي:
فلنذكر مثال الشمس المسطحة الحمراء مع فارق واحد وهو أن باركلي كان ينكر وجود المادة المستقل. فهيوم لا ينكر ذلك بل هو يقول بوجود “طاولة حقيقة” توجد مستقلة عنا لا تتغير بينما تتغير إحساساتنا غير أننا لن نعرف قط ما هي هذه الطاولة لأننا لا نعرف منها سوى الصور النسبية التي تنقلها إلينا حواسنا أما الطاولة نفسها فهي لا يمكن معرفتها.
وهكذا يميز هيوم في الواقع بين مستويين:
من ناحية الطاولة كما نراها الطاولة بالنسبة إلينا التي تبدو في وعينا على شكل صورة وهي طاولة ذاتية من الناحية الثانية، الطاولة الحقيقة، الطاولة في ذاتها، التي هي خارج وعينا، وهي طاولة موضوعية تكون الواقع ولكنها لا يمكن معرفتها.
الخلاصة أننا لن نعرف قط سوى مظاهر الأشياء وسوف نجهل كينونتها، ولهذا لا نستطيع تحديد موقفنا من النزعة المثالية والنزعة المادية. ذلك لأن المثالي والمادي اللذين يناقشنا باستمرار حول ماهية الأشياء في ذاتها، أهي مادة أم فكر، يشبهان رجلين يمشيان على الثلج وقد وضع أحدهما على أنفه نظارات زرقاء بينما وضع الآخر نظارات وردية وقد أخذا في النقاش لمعرفة لون الثلج، فالمادي يرى الأهمية في الناحية المادية للأشياء بينما يرى المثالي الأهمية في الناحية الفكرية، أما تحديد ماهية الأشياء في ذاتها فهي خدعة باطلة، لأن كل منهما “سجين نظرته” وهكذا تقدر أهمية هذه الفلسفة بالنسبة للذين يدعون “البقاء على الحياد” والمحافظة على “التحفظ العلمي“.
وسوف يتدخل “كونت” بصدد العلم معتمدًا على أفكار هيوم. ولقد اشتهر عن كونت أنه فيلسوفٌ صعبٌ جدًا. ونحن نلقى في الواقع أفكار كونت في كل مكان ولا سيما الفكرة القائلة بوجود “سر” للأشياء، وأنه يستحيل علينا اكتناه هذا السر. هذا الحياد الخاطئ الذي فرض على المدرسة البرجوازية كما لو كان من الممكن الأخذ بالقسطاس المبين بين الحقيقة والخطأ، بين العلم والجهل، وهذه هي الفكرة القائلة بأنه لا يجب أن يشتد الإنسان في تأكيد أن الحق في كل مكان، وأن “لكل إنسان وجهة ُنظره”، إلخ…
كل ذلك نموذج صرف للأفكار التي يمكن أن تضلل الجماهير. يعتمد كونت إذًا على التمييز بين الشيء في ذاته الذي لا تمكن معرفته، وبين الشيء بالنسبة إلينا في ظاهرة الذي يتولد عن الأثر الذي يحدثه الشيء في ذاته على أعضاء حواسنا، فنحن لسنا في الأشياء ولن نكون فيها قط.هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية تتعدد الظواهر وتختلط وتتناقض.
ولهذا فلسوف تكون مهمة العلم هي تنظيم هذه الظواهر وتكون لوحةً منسجمةً ترضي حاجتنا إلى المنطق. فكيف سيحدث ذلك؟ يقول كونت أن الذهن الإنساني هو الذي يفسر معطيات الحواس حسب متطلباته الخاصة، وليس العلم سوى ثمرة هذا التفسير وهكذا يكون قوانين العلم –التي هي عبارة عن علاقات بين الظواهر- ثمرة الذهن الإنساني فقط. فهي بدلًا من أن تعكس قوانين المادية الحقيقة فإنها تعكس قوانين الذهن الإنساني ومتطلباته وهي بدلًا من أن تمثل الحقيقة الموضوعية فإنها لا تمثل سوى حقيقةً ذاتيةً. وهي لا تتعلق حقًا بأحد أو بآخر من الناس ولكنها تظل مع ذلك عند كونت متعلقةً بالذهن الإنساني (كما لو كان يمكن أن يكون هناك ذهن إلهي يرى العالم بطريقة أخرى).
ما هي نتيجة هذه النظرية؟
يطفو العلم على سطح الأشياء ويجري تطور العلوم الوهمي على ستار يكمن وراءه سر مطلق خالد لا يسبر غوره. ولهذا لا يجب أن ننسب للعلم أي حقيقة مطلقة؛ فهو ليس سوى تفسير. وهكذا تفضي فلسفة كونت إلى الشك والجمود حتى في ميدان البحث العلمي النظري، والخلاصة أننا لمّا كنا نجهل الأشياء ولمّا كان الإنسان بسر لا يسبر غوره فلا مانع من أن نصل للحقيقة المثلى بواسطة طرق غير عقلانية أو صوفية. كما أنه لا مانع من أن نتيح للإيمان الفرصةَ وأن نعتقد بأن التصوف هو المعرفة الحقة.
النزعة الإيمانية المعاصرة لا ترفض العلم البتة. وهي لا ترفض سوى “مزاعمه المبالغة” وهو ادعاؤه اكتشاف الحقيقة المطلقة وإذا كانت هناك حقيقة موضوعية (كما يعتقد الماديون)، وإذا كانت العلوم طبيعية، وهي تعكس العالم الخارجي في التجربة الإنسانية الوحيدة التي تستطيع أن تمدنا بالحقيقة الموضوعية لوجب علينا رفض كل نزعة إلى الإيمان بصورة مطلقة.(8)
التفسيرات المثالية
فلنعد إلى الموقف المثالي الذي بدأنا منه فهو أكثر المواقف انتشارًا ويتخذ وجوهًا عدة منها:
أ– أقدم النظريات وأشدها غموضًا هي النظرية الدينية اللاهوتية
فهي ترى في حياة المجتمع المادية انعكاسًا للفكرة الإلهية وتحقيقًا لمخطط وضعته العناية الإلهية. فالنظام الاجتماعي صادرٌ عن الإرادة الإلهية. ولما كانت الطبيعة والعقل البشري لا يتغيران، فكل تغير في المجتمع كفر وإلحاد وهو من الشيطان لأنه مس لإرادة الله، ولهذا كانت كل فكرة تدعو للتغير آثمةً. وقد تولد عن هذه النظرة النزعة الإكليركية التي تقول بأن الإكليروس، وهو المؤتمن على أسرار الله يمكنه أن يضمن النظام “الاجتماعي” وقامت البرجوازية الثورية بمحاربة هذه النظرية التي كانت تلائم تمامًا المجتمع الإقطاعي.
ب- ثم تأتي نظرية مثالية جوهرها برجوازي وقد توسع بها فلاسفة القران الثامن عشر الفرنسي.
فقد قاموا بمحاربة “الحق الإلهي” باسم “الحق الطبيعي” و “الديانة الطبيعية” وباسم “العقل”. فكانوا يقولون بأن النظام الإقطاعي فوضى لأنه لا يتفق ومتطلبات العقل الذي يجد كل إنسان صورته في نفسه. يجب إذا تغير المجتمع باسم العقل الشامل الخالد، فيصبح النظام الاجتماعي أخيرًا انعكاسًا للنظام العقلاني وهذه النظرية كالسابقة مثالية بالرغم من أنها تمثل خطوة للأمام بالنسبة للنظرية السابقة لأنها تعبر عن أفكار البرجوازية الثورية أمام أفكار الإقطاعية الرجعية. فهي لا تتساءل عن فصل الأفكار بل هي تعتبرها معطى أوليًا يتولد من واقع المجتمعات المادي.
يجب أن نلاحظ مع ذلك أن فلاسفة القرن الثامن عشر الماديين – ولا سيما “هلفتيوس ” أدركوا أن أفكار الإنسان هي ثمرة تربتيه. كما أنهم ألحّوا على القول حول تعدد النظريات الفكرية في المجتمعات عبر الزمان والمكان – ولكنهم كانوا يجهلون علم المجتمعات الذي سيؤسسه ماركس، ولذلك عجزوا عن الاندفاع في التحليل أكثر مما فعلوا.
ج- يجب أن نتعرف لـ”هيغل” بمكانة مهمة. فلقد قام في كتابه “فلسفة التاريخ” بدراسة العلاقات بين التطور المادي والتطوري الروحي في المجتمع.
ولما كان مثاليًا فلقد أقام “الفكرة” السيدة في البدء، التي تولد المجتمع ولا تقل في ذلك عن الطبيعة. وما التاريخ إلا عبارة عن تطور الفكرة. وهكذا يصبح التاريخ اليوناني القديم عبارة عن تجلي فكرة الجمال. وكذلك يكون سقراط وعيسى المسيح ونابليون لحظات من لحظات الفكرة. ولما كان هيغل جدليًا فهو يقوم في بعض الأحيان بتحاليل رائعة. غير أن نزعته المثالية تقضي به إلى أن يجعل ارتجال العظام دورًا كبيرًا مبالغً افيه فيسمون العوامل الوحيدة للتقدم التاريخي. كان لا بد لهذا الجانب من فلسفة هيغل أن تستغله بوقاحة الفلسفة الفاشية التي تعتقد أن الشعب لا شيء، وأن “السوبرمان” المعصوم هو كل شيء. ولهذا قال أحد المعجبين بالدوتسي: “الفاشية هي ما يفكر به موسوليني في هذه اللحظة.” كما كان هتلر يقول أمام فرق الصاعقة: “سأفكر من أجلكم.”
د- الصورة الأخرى للنزعة المثالية علم الاجتماع الذي وضعه “دوركهايم” وزملاؤه.
لربما تولت الكثيرين الدهشة إذا قلت لهم بأن علم الاجتماع الذي وضعه دوركهايم مثالي. ألم يهاجم علماء الاجتماع اللاهوت والميتافيزيقا؟ ألم يحاول دراسة الوقائع الاجتماعية (كالمؤسسات، والقانون، والعادات) دراسةً موضوعية حسب تطورها وهم خاليو الذهن من أي رأي سابق بصددها. لا شك أنهم اأرادوا ذلك ولكن الفرق الكبير بين الإرادة والفعل. إذ إن علماء الاجتماع البرجوازيين عادةً يفسرون التغيرات المادية بواسطة نمو “الواعي الجماعي” الذي يظل سرًا غامضًا في ذاته.
فيبدو تاريخ المجتمعات عندئذٍ كتحقيق مستمر للمطامح الأخلاقية التي تكمن في الوعي الإنساني منذ العصور الأولى. فلماذا يتطور “الوعي الاجتماعي” باتجاه معين ولا يتخذ اتجاه آخر؟ لا أحد يدري. ذلك لأن علماء الاجتماع يجهلون أو “يتجاهلون” الإنتاج ونضال الطبقات، وهما من عوامل التاريخ. بل يفضلون العوم على السطح. فإذا وجد الضمان الجماعي فما ذلك إلا لأن “الأفكار تطورت” لأن كل شيء يرجع كما ترى فلسفة “ليون برنشفيك” إلى “تقدم الوعي”.
هـ – يجب أن نشير إلى أن من بين أبطال النزعة المثالية المندفعين في هذا الميدان “برودون” الذي تحدثنا عنه سابقًا.
يرى برودون أن تاريخ المجتمعات هو تجسيد مستمر لفكرة العدالة “الكامنة” في “الوعي” منذ بداية الإنسانية. ولهذا كانت علاقات الإنتاج تحقق للمقولات الاقتصادية التي ترفد “عقل الإنسانية” وهذا الوعي غير المحدث – أو “العبقرية الاجتماعية” كما يقول برودون – ماثلٌ في التاريخ بأكمله. فهو يفسر كل شيء ولا شيء يفسره. ولما كان الوعي هو ما هو عليه انتهى الأمر ببرودون إلى إنكار واقع التاريخ نفسه ليس من الصحيح القول بأن شيئًا من الأشياء يحدث أو أنه ينتج لأن كل شيء موجود في المدنية وفي الكون منذ القدم. وكذلك شأن “الاقتصاد الاجتماعي” ولا شيء جديد تحت الشمس. وهكذا يزول التاريخ بجرة قلم.
نلاحظ أن برودون الذي يثور دائمًا “ضد الجزويت” ورجال اللاهوت باسم الوعي – برودون الذي يتبجح بمعارضة نظام الثورة (أي نظامه) بـ”نظام الوحي”، برودون الذي يخفيه تنظم البروليتاريا فيتولاه الذعر أمام العمل فيجعل من حزب العمال (كنيسةً) كما يفعل اليوم زملاؤه الاشتراكيون الديمقراطيون – هو نفسه ضحية الأفكار الإكلييركية التي يخيل إليه أنه يحاربها؛ لأن “الوعي بالنسبة للبرجوازي الذي يخيل إليه أنه معيار العالم والتاريخ ليس سوى الإله القديم بعد أن أصبح علمانيًا بصورةٍ غامضة.
وهكذا تكون فلسفة “برودون” مثاليةً في أصلها وقف ماركس في وجه هذه الفلسفة في أحد كتبه الرائعة “بؤس الفلسفة 1847” فكتب يقول:
لنقل كما يقول السيد برودون أن التاريخ الحقيقي الذي يسير حسب الزمن هو التتابع التاريخي الذي ظهرت فيه الأفكار والمقولات والمبادئ.
فلقد كان لكل مبدأ عصره الذي ظهر فيه، فظهر مبدأ السلط مثلًا في القرن الحادي عشر، كما ظهر مبدأ النزعة الفردية في القرن الثامن عشر. وهكذا كان العصر ينتمي للمبدأ وليس المبدأ هو الذي ينتمي للعصر أي ان المبدأ هو الذي يضع التاريخ وليس التاريخ هو الذي يضع المبدأ. حتى إذا ما تساءلنا، كي ننقذ المبادئ والتاريخ معًا، لماذا ظهر مبدأ ما في القرن الحادي عشر أو في القرن الثامن عشر بدلًا من أن يظهر في عصر آخر، اضطرّنا ذلك للبحث عن حالة الناس في القرن الحادي عشر وحالتهم في القرن الثامن عشر، وما هي حاجاتهم وقواهم الإنتاجية وطريقتهم في الإنتاج والمواد الأولية.
لهذا الإنتاج وأخيرًا كيف كانت العلاقات بين الناس؟
تلك العلاقات التي هي ثمرة لهذه الظروف الحياتية. أليس تعمق جميع هذه المسائل هو صنع للتاريخ الحقيقي للناس في كل عصر وتمثيل هؤلاء الناس على انهم ابطال مأساتهم وممثلوها في نفس الوقت؟ ولكن حينما ننظر للناس على أنهم ممثلو تاريخهم وأبطال هذا التاريخ نصل من وراء ذلك إلى نقطة البداية الحقة لأننا تخلينا على المبادئ الخالدة التي تحدثنا عنها آنفًا. ويصح نقد ماركس لـ برودون على جميع صور النزعة المثالية التي أشرنا إليها في المقاطع المرمّزة بالحروف لأننا نجد في جميع هذه الحالات أن الواقع ينظر اليه بالمقولب حتى يصبح تفسير الافكار الحسي غير مفهوم .
وتدلل النزعة المادية الجدلية، التي تعيد الأشياء إلى أوضاعها الصحيحة، على أن الافكار الاجتماعية هي انعكاس لتطور التاريخ المادي الموضوعي. لأن النزعة المادية الجدلية وحدها هي التي تقيم دعائم علم النظريات الفكرية. فالنزعة المثالية تعلن عن الأفكار وتقوم بعرض لها آخذة على “النزعة المادية – الملعونة” أنها تنكر الأفكار (ومن خلال دراسة المادية الجدلية والنزعة المثالية يتبين لنا في الحقيقة أن النزعة المثالية تتحدث عن الأفكار بقدر جهلها لها، في تطلب منها أن تفسر كل شيء وإن ظلت هذه الأفكار غير مفهومة لنا.(10)
المراجع 1- أصول الفلسفة الماركسية – جورج بوليتزر وجي بيس موريس كافين ص195 2- مقدمات النظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني – مهدي عامل ص35 3- أصول الفلسفة الماركسية – جورج بوليتزر و جي بيس موريس كافين ص197 4- الاستلاب – فالح عبد الجبار ص127-128 5- قضايا المادية التاريخية – اأطونيو غرامشي ص66-67، 68-69، 70-71، 112-113 6- +7+8+9 أصول الفلسفة الماركسية – جورج بوليتزر و جي بيس موريس كافين ص 197_203، 226_229