المعادل الموضوعي في شعر أمل دنقل (2)
الجزء الثاني: توظيف الشاعر للتناص والميثولوجيا
مقدمة: تحدثتُ في الجزء الأول من هذا المقال عن القيمة الرمزية في شعر أمل دنقل، وأشرتُ إلى تعددِ وثراءِ مصادرها، وقد تناولتُ من هذه المصادر «الرمزية التراثية» مؤكدًا إلى أن ما يدفعُ الشاعرَ إلى ذلك حسُّه التاريخيُّ وشغفُه بالتراثِ نظرًا لتكوينِه النفسيِّ والاجتماعي، ونتيجةً لتأثره بجوانب نشأته -التي سبق وأشرت لها- والتي انعكست على مجملِ خطابه الشعري.
وفي هذا الجزء من المقال سأتناول مظاهرَ توظيف التناص واستدعاء الميثولوجيا أو «الأسطورة» في شعر أمل دنقل.
التناص في شعر أمل دنقل:
التناص هو إحدى سمات القصيدة الحديثة، ومعناه: أن «يُضَمِّن» الشاعر اقتباسًا لبيتٍ أو مجموعةٍ من الأبيات الشعرية أو عباراتٍ نثريةٍ أو أقوالٍ مأثورةٍ أو نصوصٍ من الكتبِ المقدسة، أو أسماءَ شخصياتٍ تاريخيةٍ وتراثيةٍ في قصائده، فيبرُزَ بذلك غرضه الشعري، ويضفي على المعنى طابعًا خاصًّا يشيع فيه روحُ النص الأصلي مع تأكيد المراد بمدلوله، وقد يَدفعُ الشاعرَ إلى استخدام التناص دافعٌ فنيٌّ جمالي، أو دافعٌ شخصيٌّ كأن يكون التناص إسقاطًا سياسيًا على سبيل المثال، وذلك خشية الاصطدام المباشر بالسلطة، فيُطلق على استخدام التناص في هذه الحالة «تقنية القناع»، حيث يتخذ الشاعر قناعًا لإحدى الشخصيات التراثية أو الأسطورية ليلقيَ على لسانه القصيدة، ونظرًا لسعة اطلاع أمل دنقل التراثية والدينية انعكس ذلك على توظيفه للتناص الذي أخذ أشكالًا عدة، منها على سبيل المثال (التلميح، المحاكاة، اللصق)، كما نلاحظ استعارته من الكتب المقدسة على مستوى الكلمة المفردة أحيانًا أو على مستوى الآية أحيانًا أو عن طريق إعادة الجو القصصي في القرآن أو إشارات «لطرق التبويب» من الإنجيل والتوراة ضمن سياق قصائده في أحيان أخرى، فنجده يقول في قصيدة كلمات سبارتاكوس الأخيرة:
“اللهُ.. لم يغفرْ خطيئةَ الشيطانِ حين قال “لا”
والودعاءُ الطيبونْ
هم الذين يَرِثونَ الأرضَ في نهايةِ المدى
لأنهم.. لا يُشنَقونْ!”.
ويظهر في هذه الأبيات تناص مع الإنجيل في قوله: «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (متى٥:٥)، ويريد الشاعر بهذه الإشارة انتقادَ رجال الدين في تقديم وتسويق الآيات التي تخدم «القيصر» كما يشير إلى ذلك مرارًا في سياق قصيدته، فيدفعوا -أعني رجال الدين- بذلك العوامَ عامدين إلى الخضوع والاستكانة.
كذلك نرى الشاعر يجرِّدُ صورةَ الشيطان من مدلولِها الدينيِّ ويُكسبها مدلولًا آخر، فيضفي عليه مظهر المُعلِّم الرافضِ للأوامرِ البشريةِ غير العادلة برفضِه الطاعةَ العمياءَ والضعف. فصورتُه الجديدة بمثابة صورةٍ انزياحيةٍ رمزيةٍ توافِقُ کلَّ مَن يتحدى ويرفض السلطاتِ الغاشمةَ والمستبدةَ ويدافع عن الحق بالتحريضِ على نقيضِ مدلولِها الدينيِّ القديم، هذا إلى جانب استخدام الشاعر للتناص مع شخصية المناضل سبارتاكوس الذي يتخذ منه قناعًا، فيلقي القصيدة على لسانِه.
وفي قصيدتي سفر التكوين وسفر الخروج نجد تناصًا شكليًا واضحًا مع التوارة، يظهر في تسمية القصيدتين، وفي توزيع الأبيات إلى إصحاحاتٍ عديدةٍ كما وردَ في التوراة، حيثُ يقول في قصيدة سفر الخروج:
“أغنية الكعكة الحجرية
(الإصحاح الأول)
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحة
أَشهِروا الأَسلِحة.. سَقطَ الموتُ،
وانفرطَ القلبُ كالمسبحَة
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ“
ونجد له تناصًا آخر مع القرآن في قصيدة لا وقت للبكاء من ديوان «تعليق على ما حدث»، هذه القصيدة التي كتبها بعد رحيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي توفي في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970، فيقول:
“والتين والزيتون
وطور سنين، وهذا البلد المحزون
لقد رأيت ليلة الثامن والعشرين،
من سبتمبر الحزين،
رأيت في هتاف شعبى الجريح
(رأيت خلف الصورة)
وجهك.. يا منصورة
وجه لويس التاسع المأسور فى يدى صبيح“.
هنا نجده يوظف القسم القرآني من سورة التين للتعبير عن حزنه برحيل الرئيس عبد الناصر بعد سنوات قليلةٍ من النكسة، ولسان حاله يقول: أن البلد الأمين الذي خصه الله بهذه الصفة في هذه السورة قد تحول لبلدٍ حزينٍ لا تأتيه المصائب فرادى، لكنه استدرج وقال إنه يرى خلف الصورة التي يحملها المشيِّعون والمودِّعون لعبد الناصر صورةَ مصرَ الكبرى التي لا تزيدها الجراح إلا صمودًا وتصميمًا على تحقيق النصر، فنجده في مطلع القصيدة رافضًا الاستسلام لحالة الحزن -تلك التي خيمت على شعب مصر بعد رحيل عبد الناصر-؛ يقول:
“لا وقت للبكاء
فالعَلَم الذى تُنكِّسينه.. على سرادق العزاء
مُنكَّس فى الشاطئ الآخر
والأبناء يستشهدون كى يُقيموه
على تبة العلم المنسوج
من حلاوة النصر ومن مرارة النكبة”
الميثولوجيا في شعر أمل دنقل:
من أبرز الظواهر الفنية التي تجذب العقول في التجارب الشعرية الحديثة هي استخدامُ الأسطورةِ أو الميثولوجيا كأداةٍ رمزيةٍ للتعبير، فالأساطير والفولكلور الشعبي مجدُ التراث الإنساني وكنوزُ المعرفة تزخر بالعبر والحِكم والنوادر، وقد تميَّز أمل دنقل أيما تميزٍ في استدعاء المأثور الشعبيِّ والتاريخيِّ واستخدامِه للرموز الميثولوجية التي تدعم رؤيتَه الفلسفية وتعبر عن مشاعرِه ومواقفِه تجاه ما يدور حوله.
يجدر الإشارة إلى تميز شعراء عربٍ آخرين في استخدام الأسطورة كمحمود درويش وصلاح عبد الصبور وبدر شاكر السيّاب على سبيل المثال، وقد يقال إن «تيار الحداثة» في الشعر العربي قد تأثر بالخطاب الشعري لـ «توماس إليوت» الشاعر الإنجليزي صاحب مصطلح المنهج الأسطوري، خاصةً في قصيدته الشهيرة «الأرض اليباب».
لكن ما يعنينا هنا هو ما تقدِّمه لنا الدلالاتُ الرمزيةُ حينما يستدعي الشاعر بعضَ الشخصيات الأسطورية ومواقفَها التي تأتي محمَّلةً بمعانيها الأصلية وبدلالتها الرمزية المعاصرة، وقد تنوعت مصادرُ هذا الاستدعاء عند أمل دنقل وظهرت في اختياره للمادة الأسطورية الموظفة من مصادر عدة منها: الفرعونية والإغريقية والرومانية والعربية.
1- الأساطير الفرعونية:
اتخذ الشاعر من التناص الجزئي الذي يشمل فقرةً أو فقراتٍ قليلةً من القصيدة أو المزجَ بين أسطورتين في سياق دلالةٍ واحدةٍ في عديد المواضع، هادفًا بذلك إلى تأكيد وترسيخ وظيفته الدلالية.
ويظهر ذلك في بعض إشارته للميثولوجيا الفرعونية، فنجده في قصيدة «العشاء الأخير» مستدعيًا أسطورتي أزيس وأوزوريس، فيقول:
“أنا ”أوزوريس” صافحتُ القمر
كنت ضيفًا ومضيفًا في الوليمة
حين أُجلِستُ لرأس المائدة
وأحاط الحرس الأسود بي
تطلعت إلى وجه أخي..
فتغاضت عينه.. مرتعدة!“
في ﺍﺳﺘﺪﻋﺎئه لهذه الأسطورة تحديدًا –مأدبة ست- محاولةٌ ﻟﺮﺳﻢ صورةٍ ﻣﻦ صورِ الموت الناتج ﻋﻦ التآمر السياسي، هذا إلى جانب الدلالة التي يحملها عنوان القصيدة نفسها «العشاء الأخير»، والتي تُحيلنا إلى تناصٍّ شكليٍّ بـ«عشاء المسيح الأخير» مع الحواريين قبل خيانة يهوذا الإسخريوطي.
تقول الأسطورة الفرعونية إن أوزوريس كان ملكًا عادلًا يحكم مصر، وكان له أخٌ حاقد عليه يدعى ست، أراد ست أن يسلبَ العرش من أخيه فقام بإعداد مأدبةٍ كبرى وأرسل دعوة لأخيه، وأمر بصُنعِ تابوتٍ فاخر، وقال للحاضرين: من يكون طوله مناسبًا للتابوت يستطيعُ الاحتفاظ به، ثم اتضح أن التابوت على مقاس أوزوريس عندما استلقى فيه؛ فقد كان معدًّا له سلفًا، حينها قام ست وأعوانُه بإغلاق التابوت على أوزوريس وألقوه في النيل، فمات أوزوريس غرقًا.
وقياسًا على ذلك يمكننا القول بأن هذا الاستدعاء للأسطورة الفرعونية إلى جانب التناص في اسم القصيدة يحمل رؤيةَ الشاعر نحو الواقع المعاصر، فيحمل في طياته إدانةً للواقع ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲِّ ﻭﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲِّ المليء بالمؤامرات.
2- الأساطير الرومانية والإغريقية:
لم يحتل التراث الأسطوري الإغريقي والروماني مساحةً واسعةً في أشعار أمل دنقل، لكن ما استدعاه من هذا التراث على قلَّتِه ترك إضافةً واضحةً في أعماله، نذكر منها على سبيل المثال استدعاء شخصيات أمثال أوديب وسيزيف وبنلوب وسبارتاكوس، وهي إشاراتٌ جزئيةٌ عابرة، باستثناء سبارتاكوس الذي أفرد له قصيدةً كاملة، لكنه مزج أيضًا في هذه القصيدة بين شخصيتين إحداهما رومانية وهو سبارتاكوس -الذي يُلقي القصيدة بلسانه- وسيزيف الأسطورة الإغريقية الشهيرة، فنجده يقول:
“سيزيف لم تعد على أكتافه الصّخرة،
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق.
والبحر كالصحراء.. لا يروى العطش.
لأنَّ من يقول “لا” لا يرتوي إلَّا من الدموع!”
سيزيف الملعون في الميثولوجيا الإغريقية من كبير الآلهة زيوس، الذي عاقبه عقابًا قاسيًا بأن يحمل صخرةً عظيمةً من أسفل الجبل إلى قمته، حتى إذا وصل إلى القمة تدحرجت الصخرة إلى أسفل، فيعاود سيزيف حملها للقمة مرة أخرى فتسقط ويحملها، وهكذا… دائرة لا تنقطع من شقاء لا طائل منه، حتى صار سيزيف رمزًا للعذاب الأبدي.
أراد الشاعر باستدعاء أسطورة سيزيف الإشارة إلى معاناة مسلوبي الحرية والإرادة، هؤلاء العبيدُ أمثال سبارتاكوس الذين حملوا العبء نيابةً عن سيزيف، في توظيفٍ جزئيٍّ داخل سياق القصيدة وإشارةٍ خارج حدودها للوضع السياسي المتزامن معها، فسيزيف وسبارتاكوس صورة رمزية متداخلة لمدلول واحد يتمثل في «ضحايا الاستبداد».
3- الأساطير العربية:
أشار أمل دنقل إلى العديد من الأساطير العربية خاصة تلك التي تتعلق بقضايا الثأر وذلك لخدمة قضية «الصراع العربي الإسرائيلي»، فنراه يمزج التراثَ العربيَّ بالأسطورة في قصيدة مرائي اليمامة فيقول:
“قفوا يا شباب!
كليب يعود..
كعنقاء أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة أبهى..
وترجع حلتها -في سناء الشمس– أزهى
وتفرد أجنحة الغد..
فوق مدائن تنهض من ذكريات الخراب!”
وهنا نلاحظ استدعاءه مرةً أخرى لشخصية كليب بن ربيعة، الرمز الأوضح للتعبير عن المطالبة بالثأر، وقد أشرتُ إلى قصته مع أخيه الزير سالم في الجزء الأول من هذا المقال في سياق قصيدةِ «لا تصالح».
لكنَّ الشاعرَ هنا مزج أسطورة «العنقاء» -ذلك الطائر الخيالي الذي يرمز للقوة والجمال- مع تلك القصة التراثية التي تمجِّد قيمةَ الثأر واسترجاع الحقوق، فالعنقاء هنا تتخلى عن خيلائها لترى الواقعَ بوضوحٍ يمكِّنها من استعادة الأمجاد، في إشارةٍ إلى الأمة العربية، ونجده في موضعٍ آخر من نفس القصيدة يقول:
“نحن عباد شمسٍ يشير بأوراقه نحو أروقة الظل
إن التويج الذي يتطاول
يخرق هامته السقف،
يخرط قامته السيف!”
هنا يستدعي أسطورة «الهامة والصدى»، وهي أسطورة جاهلية تقول: «إن القتيل إن لم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامةٌ يقال لها الصدى فتصيح: اسقوني.. اسقوني».
الثأر واسترجاع الحقوق: هذه هي القضية المركزية في شعر أمل دنقل، نراها في أغلب قصائده، فيمجِّد قيمَ الرفض وعدم الاستكانة واسترجاع الحقوق المسلوبة، يدفعه إلى ذلك حسه الوطني منطلقًا من القيم التي تربى عليها بحكم بيئته التي غرزت فيه الحميَّةَ والشهامةَ وعزةَ النفس، هذا إلى جانب الأحداث التي عاصرها من حروبٍ وصراعات، فكان خيرَ مُعبِّرٍ عن آلامِ هذه الأمة وانكساراتها، قبل آمالها وانتصاراتها.
مراجع: 1- الأعمال الكاملة- دار الشروق 2-الرمز في شعر أمل دنقل. دراسة في شعر أمل دنقل 3- التناص في شعر أمل دنقل.