«المسيح يصلب من جديد» سؤال الجدوى وتعقّب المقدّس/ لـ محمد علواني

قضيتُ خمسَ سنين من حياتي الأولى، وقتَ طفولتي، راعيَ غنمٍ بالأُجرة، تمامًا كيسوع المصلوب أو كأحمد النبي، غير أنهما بدءا الرعي متأخرين عني، أما أنا، فافتتحت مسيرتي وأنا ابن سبع؛ بدأتْ مراسمُ صَلبي باكرًا جدًا.

كنتُ أدفع تيسًا وبضعَ عنزاتٍ وربما عدّةً نعاجٍ وكبشًا أمامي، ثم أتوجه -حالما تصحو الشمس من مخدعها، وتنفضُ عنها غبار الليل، وتوقظُ الطيور الصغيرة وتملأ حلوقها بالنغم-، إلى مرعى مُعيّن، كنتُ قد حدّدته، بعد لَئيٍ ونَصَب، منذ الأمس، وعمل الراعي يقتضي صمتًا وترتيبًا أيضًا.

لم يكن لي من شغل، وقد وصلتُ إلى المرعى بتيوسي وعنزاتي، غيرَ متابعةِ هذا القطيع، ثم الجلوس على الأرض المُخضّرة، التي علقَ الندى بورق الحشائش فيها، وراحت تلمعُ وأشعة الشمسِ الحامية الطازجة تجلِدُها، ورعي الشمس وهي تبدأ رحلتها من المشرق إلى المغرب. والراعي ساعته الشمس. تقوم من نومها فيقوم، وتأوب إلى مخدعها فيأوب.

كثيرًا ما كنت أشعر، وأنا أسمعُ أمواه الجداول حولي صدّاحة بخشوع رقيق يفيضُ قلبي على إثره نشوةً، وأنسى ما حولي وأهيم في بحر من سعادةً غامضةً، تائهً في غبطة وخدر سماويين، ذاهلٌ تمامًا.

كنتُ أقول بلسان قلبي، -فلم يكن لسان فمي تعلّم القولَ بعد-: أيُّ بهجةٍ تلك، كأن ملكوت السماوات تنزلّت إلى الأرض!

إعلان

أمضيتُ خمسَ سنين على هذه الحال تقريبًا، تعلّمتُ فيها -وعادةً ما كنتُ أرعى وحيدًا- الوحدةَ والصمتَ، والتأمّلَ، وهي الصفاتُ التي ما انفكتْ تلازمني، حتى بعدما مرّ على هذه التجربة ما يربو على الخمس وعشرين سنة.

مشاكلة ومشابهة

تذكرتُ كل هذه التجربة – التي أعتبرها واحدةً من أهم تجاربي المهنية قاطبةً -وأنا أتاملُ، منذ يومين، حكاية الفتى «مانولي» في رواية «المسيح يصلب من جديد» للروائي اليوناني الفذّ نيكوس كازنتزاكيس؛ فأنت هنا أمام فتى يرعى أغنامًا لـ «بطرياركس»؛ وهو سيدٌ من سادات قرية لوكفريسي، بالأجرة تمامًا مثلي، لكني أيضًا بدأتُ عملي في الرعي أبكرَ منه.

هو ناحلُ الجسد هزيلًا، وأغلبُ الوقت أنا كذلك، هو غائرُ العينين، وعيناي، خاصةً بعد ارتداء النظّارة، أمستا حفرتين كبيرتين كأنما تهويان إلى الداخل، حظي هو بخطبة امرأة ومثله حظيتُ، وانفك عنها ومثله انفككتُ.

صموتٌ هو، مُقِلٌ في كلامه مُجِدٌّ في عمله، ألقى سلاحَ الكلامِ ولاذَ بملكوت السماوات وقنع بالصمت.

متأملٌ هو، وديعُ، مسالمُ، حريصٌ على قُدّاس الأحد، لا يزعجُ أحدًا، وتجرحه دمعة، حسّاس هو من النوع الذي تجرحه لمسةُ ريشة، مَلَاك حقيقي لا ينقصه سوى الجناحين، وله نَفسٌ في براءة الحمامة.

وأخشى أن أقول إني في ذا كله مثله تمامًا، فيعتبره البعضُ حَظَ نفسٍ. ولكني كلما أمعنتُ في الكتابة هالني التطابقُ بيني وبين المصلوب مانولي ذاك. أشعرُ كأني وهو نعزفُ على ذات القيثارة التي عزف المسيحُ ابن مريم عليها طوالَ حياته. كأن يسوع يسير ونقفو نحن الاثنان (مانولي وأنا) أثره، متعلقين بشفتيه.

يواجه مانولي شدائدَ الأيام وصروفَ الدهر برزانة، وسكينة، وهدوء، وأنا، أفعلُ مثلَه تمامًا، وإن لم أكن في شجاعته: توجّهَ الفتى أولَ الأمر إلى الأغا التركي ليقتله؛ نظير جريمة قتل حبيبه يوسوفاكي، والذي كان مانولي بريئًا من دمه براءة الذئب من دم ابن يعقوب؛ فقط كان هدفه إنقاذ أهل القرية من سطوة وبطش الأغا المحتل.

يأتيه خادمُه وتلميذُه في الرعي نيكوليو ويقول له – بعدما مارس الحب مع خطيبته لينيو مرارًا – سأتزوج خطيبتك، فيجيبه مانولي: «أبارك زواجكما يا صديقي».

نجا مانولي في المرة الأولى من صلبِ نفسه فداءً لأهل قريته، لكنه لم ينج في المرة الثانية، وقد طرده القسيسُ من الكنيسة؛ لكونه اشتراكيًا يريد أن يملأ الفقراءُ من الخبز بطونهم! ونسبَ إليه طغامُ الناس، بفعل دسائس القسيس ذاك، كلَ نقيصة، بل وألبّوا الأغا التركي ضده، وصوّروه، وهو حافي القدمين عاري الرأس رثَّ الثياب، خطرًا على الإمبراطورية العثمانية. كان الصلبُ، إذًا، مصيره.

المسيح يصلب من جديد ملحمة إنسانيّة أم حكاية محليّة؟

من أي النواحي أتيتَ رواية «المسيح يصلب من جديد» للروائي اليوناني نيكوس كازندزاكي ألفيتَ لنفسك مُتسعًا تأويليلًا، ولن تتجشم عناءً ولن تركب الصعب والذَلول، فإن تصورتَ أنها رواية مغرقة في المَحلية، فأنت محقٌ كبير؛ فالرواية تتناول قضايا يونانية (متصلة بتاريخ اليونان) بامتياز، بل إن محيطها الجغرافي ضيق جدًا؛ إذ لا يتعدى الأمر قرية ليكوفريسي الصغيرة.

وإن نظرتَ إليها باعتبارها رواية سياسية، أو حتى تُذكي روحًا شوفينية، فأنت محق أيضًا؛ فالرواية تصوّر، في جزء كبير منها، صراع اليونانيين مع الأتراك، ولكنه لم يكن صراعًا نبيلًا، ولم يتوسل طرائق حميدة، وإنما غاص أطرافه جميعهم في الوحل؛ كيما يحافظوا على أكبر جزء من كعكة مصالحهم الشخصية الضيقة.

وكأن هؤلاء جميعًا آمنوا أنه:

«لا يدخل إلا من يُعقد له لواء النصر أولًا على الأرض».

وفوق ذلك كله، إن اعتبرتها روايةً عالميةَ الطرح، كونيةَ الطابع، إنسانيةَ المغزى، فالحق كله معك، فرغم كونها دائرة على قضايا شديدة المحلية إلا أن المؤلف برع في أن يستخرج من حكايته بُعدًا عالميًا/ إنسانيًا فريدًا، تجعل كلَ إنسان معنيّ بها، مأخوذٌ بما جاء فيها.

تعقّب المقدّس في كل صوره

والحقُّ أن كل ما فات لم يكن يعنيني وأنا منخرطٌ في مطالعة هذه الرواية التي قارب عدد صفحاتها الـ 600 صفحة، وإنما كنت مشغولًا بمسألة أخرى، وهي تلك الطريقة التي يوظّف بها كلُ طرفٍ المقدس (مقولات المقدس وتصوراته) حسب أهوائه ومصالحه الخاصة.

فكلُّ مَن أراد أن يأتي فعلًا ما، وضعيًا كان أم نبيلًا، سيتوسل بنص من نصوص الإنجيل أو موقف من مواقف يسوع. والتبرير آفة كل الأيديولوجيات.

حتى لقد ألفينا في الرواية، بشكل واضح وجليّ، صراعًا بين تصوّرين ليسوع المصلوب، أحدهما يتبناه القساوسة والباباوات المترفون الرافلون في العيش النعيم، وهو تَصورٌ غارقٌ في الملذات، هدفه الأساسي الحفاظ على المصالح الشخصية، تحت مسمّى الحفاظ على المسيحية ومصلحة الشعب اليوناني.

وتَصوّرُ آخر، ليسوع آخر، حافي القدمين، حاسر الرأس، عاري الجسد، يطوف البلدان، ويجوبُ القرى بحثًا جرعة ماء أو كِسرة خبز.. إلخ، وهو تصور تبناه القسيس فوتيس؛ زعيم جماعة جبل ساراكينا، المتشرّد الذي شرّده وشَعبَه الأتراك.

أليس هو القائل:

«يسألني لماذا لم أنتعل حذاءً، أراهن أن قيّافًا وجّه نفس السؤال إلى المسيح».

فنحن هنا أمام تصور مختلف تمامًا عن التصور السابق للمسيح الذي يتبناه الباباوات والرافلون في العيش المنعّم، وغير خافٍ بطبيعة الحال أن كل طرف يخلع على المقدس من المعاني ما يرى في نفسه ظلالًا منها.

فلما كان القسيس فوتيس حافيًا، يرتدي أسمالًا، ولا يجد كسرة خبز يسد بها كلب الجوع، رأي يسوع المصلوب على ذات الصورة تمامًا، وكأنه أراد أن يقول إنني أشبه بالمسيح من غيره.

ومؤكد أيضًا أن أعداء القسيس فوتيس يتبنون تصورًا آخرًا للمسيح، ويرون أنهم أقرب إليه وألصق به.

لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو تغير تصور القسيس فوتيس للمسيح؛ فبعدما كان يسوع حملًا وديعًا أمسى الآن، وقد اشتدت المصائب والأعداء على فوتيس، أسدًا هصورًا.

ومن خلال هذا التصور الجديد بدأنا نرى يسوع ينضو عنه ثوب الحَمل ليرتدي ثوب الذئب فها هو القسيس فوتيس يقول:

«.. إذا ما حدقتْ بك الذئابُ فَخير لك أن تكون أسدًا هصورًا.. ».

ويقول آخر:

«.. إن المسيح لم يكن دومًا رقيقًا وديعًا مُسالمًا، يدير خده الأيسر لمَن لطمه على خده الأيمن، بل كان محاربًا صلبًا عنيدًا يسير في المقدمة ومِن ورائه كل المعدمين على ظهر الأرض. (لم آت لألقي سلامًا على الأرض بل سيفًا) كلمات مَن هذه؟ كلمات المسيح..».

هكذا يتحول يسوع على يد القسيس فوتيس؛ الرجل الشهم المدافع عن أهله ووطنه وبني جلدته، إلى إمام للمضطهدين والمهمشين في كل بقاع العالم.

يقول ياناكوس؛ أحد تلامذة القسيس فوتيس الأصفياء:

«لو تنزل المسيح اليوم إلى أرض كهذه الأرض التي نعيش فوقها، فماذا تظن أنه سيحمل فوق كتفه؟ صليبا؟ لا، بل صفيحة بترول».

ها نحن الآن نرى المسيح وقد أمسى محاربًا عنيدًا، يسير في المقدمة ومن ورائه كل المعدمين والمهمشين على ظهر الأرض.

بل يتمادى هذا المعسكر في بسط وتمديد تصوره عن يسوع المصلوب إلى درجة أننا نراه أمسى اشتراكيًا؛ فعندما يروج المعسكر الآخر كون هؤلاء القوم (القسيس فوتيس وطائفة جبل ساراكينا) اشتراكيون، يُقر فوتيس ومن ورائه صفيّه وحواريَه مانولي، إذا كانت هذه هي الاشتراكية فنعم؟ وإذا كان المسيح اشتراكي فنعم؟

ربما من المفيد القول إن هذه «السعة الدلالية» التي تنطوي عليها مقولات المقدس من الأهمية بمكان؛ إذ إنها تحيل، بشكل مباشر، إلى الحرية؛ فطالما أن هذه المقولات تحتمل تأويلات متعددة، فليس منطقيًا أن يُكره أحدنا الآخر على اعتناق تصوره الشخصي عن المقدس أو أحد مقولاته.

وثمة منفعة أخرى فيما تصالحنا على تسميته «السعة الدلالية للمقدس» وهي تلك التي تتمثل في جعل المقدس بذاته، وليس مقولاته فحسب، محايثًا لنا نحن البشر، فطالما أن لكل منا تصوره الشخصاني عن الرب، فمن المنطقي أن نرى هذا الرب أينما ذهبنا، وسنعثر له على قول، وسنظفر منه على هدى أو دلالة تهدينا سواء السبيل.

لا جدوى يا يسوع!

الآن، وبعد ما يقرب من 600 صفحة، يأتي نيكوس كازنتزاكيس، وقد حبّر الصفحات الطوال الفائتات، بالإسهاب في سرد مأساة مانولي، ويعنوّن الفصلَ الأخير من تحفته تلك بالعنوان التالي: «لا جدوى يا يسوع لا جدوى».

وقد قصدَ أن يحتج بهذا العنوان على فكرة الصلب الدائم تلك، فها هو مانولي قد صُلب حقًا، ولكن الحرب لم تكف، والجوعى لم يشبعوا، ولم يرتو الظمئى، فلماذا يصلب في اليوم ألفُ يسوع؟! ألم يكن منطقيًا أن يولد يسوعُ مرة واحدة ميلادًا أبديًا، ويقوم قيامةً أبديةً ويعم النعيمُ على الجميع وتصبح الأرض فردوسًا؟!

فها هو يقول على لسان أحد أبطاله:

«لا جدوى يا يسوع، لا جدوى. مضى على صلبك ألفا عام وما زال الناس يصلبونك من جديد. أي يسوع ربي، متى ستولد يا إلهي ولا تصلب ثانية، ولكن تعيش بين ظهرانينا خالدًا إلى الأبد؟».

ذاك هو بالضبط التصور الرومانسي لمأساة الصلب، لكني أفهمُ أن مَكَمنَ العظمة في هذه المأساة هو دوامها – تلك هي على الأقل فحوى القول القرآني: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض» – ناهيك عن أن الكسبَ الأول من الصلبِ هو نجاةُ المصلوبِ صاحبه. يجب أن يُصلب المسيح على الدوام، هكذا تقوم الحياةُ وتكتسي معناها.

وأنا أرضى بالصلب كقدر شخصي، لو انعدل به الجزءُ المائلُ في نفسي، واستقام قلبي، وتحولتْ حفنةُ تراب جسدي إلى روح، سأعتبرُ حياتي، ساعتئذ وقد صُلبتُ، ليست مأساةً بل حفلةً مستمرةً.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد علواني

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا