المخملية الخضراء | كشيشتوف بيلتس (مترجم)

صاح والدي: “الأشياء التي يرميها الناس!”

كانت أريكة مخملية خضراء. وقفنا عند زاوية شارعنا، رُكن يلقي فيه الناس من آن إلى آخر كراسي مكسورة أو مراتب معطوبة، وتأملناها كما لو كانت تنتمي لفصيلة غريبة. لكن من نخادع؟ كنا نحن الغرباء، في حين أن الأريكة لطالما لزمت مكانها في المقهى الجديد الواقع على ناصية الشارع، الذي كنا نمر من جواره كل يوم، ولم ندخله قط. لم يفهم والداي المغزى منه.

لا بد أن الأريكة قد وُضِعت على الرصيف في الساعات الأخيرة، كونها تخلو من أوراق الخريف التي تغطي الشارع. حين رأيناها، كنا في طريقنا إلى البقَّال لإعادة زجاجات المياه الغازية لاسترجاع ثمن الإيداع، كل منا يحمل صندوقًا من الزجاجات الفارغة. كان وجود الأريكة هناك، بغطائها المخملي بلون المشروبات المقدَّم في كؤوس صغيرة في اللوحات الفرنسية القديمة قد جعل الرصيف يبدو كما لو كان ديكور مسرحية.

هلَّل أخي الأصغر رضا فرحًا بقطعة الأثاث المتروكة في الشارع وألقى بنفسه عليها، تلقَّفته الأريكة بهدوء، دون صرير. بدت نظيفة كفاية، دون بقع واضحة، باستثناء أثر طفيف طبعته الكيعان على مساند الذراعين. والدي قد ابتعد بالفعل، وهو يهز رأسه إزاء ما كنت أعرف أنه الإسراف الغربي؛ الشراء والرمي لمجرد شراء المزيد، لكن صيحات رضا جعلته يلتفت إلى الوراء، نظر إلى الأريكة كما ينظر الفلاح إلى بقرة جاره. وأخيرًا، خطا بضع خطوات مترددة نحوها، وجلس على أحد طرفيها، بحذر أكبر من أخي، وهتفنا! كان صباحًا رائعًا.

والدي لم يكن مجازفًا أبدًا. في الواقع، طوال حياته قد جازف مرتين؛ الأولى حينما غادر بلده رفقة أمي وكلاهما في العشرينات من عمرهما، بالكاد تخرجا في الجامعة، مع مولود جديد ولا سبيل لهما سوى الفرار من اضطهاد محتوم. وُلِدَ رضا لاحقًا، بوصفه مواطنًا من الدرجة الأولى.

إعلان

كانت جوازات سفر ذلك الجيل بأكمله من المهاجرين الإيرانيين كُتِبَ عليها: “عَالِم رياضيات” أو “طبيب أسنان”، أبي كان من النوع الأول. ترك وراءه والدته، ولغته الأم، وأرضًا من الكرز الحامض الذي لا ينمو بأي مكان سواها.

المجازفة الثانية التي أقدم عليها والدي كانت إحضار تلك الأريكة المخملية الخضراء إلى منزلنا، منزلنا الصغير المستأجر في الطابق الثالث، الذي بذل قصارى جهده لثنيه عن ذلك.

جاهد ثلاثتنا لحملها صعودًا عبر الدرج المعدني، إذ إن وزنها – كما أكد أبي لتحفيزنا – دليل على جودتها. لم يكن في حاجة إلى ذلك؛ فقد اعتقدت أن أخذ الأريكة كان أعظم قرار اتخذه والدي على الإطلاق. لم أتوقع حتى ذاك الحين قدرته على القيام بمثل هذا الاندفاع، حتى اليوم، يُسَهِّل عليّ ذلك تخيُّله أصغر بعقدين مما كان عليه آنذاك، يحمل حقائبه و يغادر بلده الوحيد رفقة زوجة شابة وطفل.

بينما كنا نحملها إلى الأعلى، بدأت أفكر بالفعل، كيف يمكن لأريكة مخملية خضراء كهذه أن تغيِّر حياتنا. اعتقدت أن قوة جاذبيتها كانت هائلة للغاية لدرجة أنها سترغمنا على التكيُّف معها. الموسيقى التي سنستمع إليها في أثناء جلوسنا عليها ستكون مغايرة للموسيقى التي اعتدنا أن نستمع إليها، والتي كانت كلها أوتارًا فارسية. الكتب التي سأقرأها عليها ستكون بلا شك مختلفة أيضًا، ستكون كتبًا للمؤلفين الذين كانت فتيات الصف العاشر يتناقشن حولهم بينما تمجُجن أنفاث سجائرهن خارج مبنى المدرسة، الذين لم أسمع عنهم من قبل، لكنني تُقت إلى معرفتهم. سأدعو الأصدقاء إلى المنزل لرؤية الأريكة والجلوس عليها، وأتظاهر أنها انعكاس طبيعي لأسلوب حياة عائلتنا، وليست مجرد أريكة ملقاة على الرصيف عُرضت علينا مصادفة. فكرت في كيفية مواءمة ملابسي لتتناسب معها، قد أحتاج إلى ملابس جديدة بالكامل، قدمت لي الأريكة وعدًا بالبريق الغربي، بحياة أخرى تمامًا.

صرخت أمي في وجهنا من أعلى الدرج، كانت محقة بالطبع، لم تكن هناك مساحة لها في غرفة معيشتنا الضيقة. لتهدئتها، أخبرها والدي أن الأريكة ماركة تشيسترفيلد، لجعلها تبدو أكثر وقارًا، وبريطانية تقريبًا، لكن لم تفلح محاولته. “من يدري من استلقى على هذا الشيء!” قالت أمي من الأعلى، “أو ما هو أسوأ” أضافت، ونظرت إلى أبي نظرة ذات مغزى. شقة الطابق الثالث كذلك لم تقبل المخملية الخضراء، كجسد يرفض عضوًا لا ينتمي إليه، زوايا الباب حالت دون دخولها، انحشرت الأريكة في المنتصف، مقلوبة على ظهرها، وقد بانت أحشاؤها الداخلية، ونوابضها الداكنة والقبيحة التي فاجأتنا، المغطاة بالزيت والغبار الأسود. عندما كانت تجلس بأناقة على الرصيف المشمس، من كان ليشتبه في وجود هذا الهيكل الخشبي الملطخ واللفافات المعقدة بداخله.

احتُجزنا أنا وأخي داخل الشقة، وعلِق أبي خارجها، وقف لا حول له ولا قوة أعلى الدرج، والأريكة المقلوبة محشورة بيننا. طلب أبي شريط قياس وورقة وقلم، ثم جلس على الدرج، وزنبرك الأريكة يصدر صريرًا عاليًا فوق رأسه، وانحنى في وضعية رأيته فيها كثيرًا، رسم الباب والدرج، حسب الزوايا والدورانات الممكنة، وأخيرًا، بعد بضع دقائق، نهض مستسلمًا وقال: “لن تدخل”.

سحبت أمي الهواء من بين أسنانها بطريقة مألوفة لدينا، رغبتها في إثبات خطأ أبي تغلبت على عدم قبولها للجسم الغريب الذي قد استلقى الغرباء عليه أو فعلوا ما هو أسوأ. هاتفت جارنا في الطابق السفلي؛ شاب يعمل في متجر دراجات، كانت تطعمه المعجنات الإيرانية لاعتقادها أنه شديد النحافة. خرج من شقته والنعاس بادٍ على وجهه ووقف على الدرج يتفحص الأريكة.

قال: “رائعة جدًا”.

تقبَّل والدي الإطراء بامتنان، لكنه أطلعه على الوريقة وما عليها من خربشات، مشيرًا إلى الزوايا والدورانات المستحيلة. بالكاد نظر جارنا إليها، دنا من الأريكة، أمسك أحد الأوتاد الأربعة التي تقف عليها كأقدام وبسرعة فكها. بعد أن تحررت الأريكة من أقدامها الثلاثة المتبقية مرت بصعوبة من الباب. بعد سنوات عديدة، خلال وجبات العشاء العائلية الصاخبة، حيث كان أطفالي يتعثرون في لغتهم الفارسية من الجيل الثاني مع جدهم، كنا نشير إلى ذلك البرهان الفاشل باسم: “نظرية استحالة الأريكة”. في ذلك اليوم، كشف كل من وجهي والديّ عن انتصاره الخاص؛ كان لأمي انتصار الممارسة على النظرية، بينما حصل أبي على أريكته المخملية الخضراء.

 

ظل اكتشافنا الجديد في الردهة حتى يتم تجهيز غرفة المعيشة لاستقباله. أمضى رضا فترة الظهيرة مستلقيًا عليها، يقرأ الكتب المصورة بجانب كومة الأحذية الرياضية المبللة في المدخل. كانت الأريكة تتنافر مع كل شيء آخر في الشقة، مما أسعدني. إذ كنت أعرف أن أثاثنا قد جاء في نصف حاوية أبحرت على متن سفينة ضخمة لمدة شهرين؛ طاولات صغيرة من خشب الورد وكراسي بأشكال أرابيسك مطعمة بالصدف، وصناديق ظلت خاوية لها الزخارف نفسها. عدد لا يُحصى من السجاد القديم يعود إلى أحد أعمامنا الكبار، الذي كان يزرع الرمان للتصدير. وقد أعدت كل ذلك محرجًا وغير عصري، وكأنه شيء من ألف ليلة وليلة، يفضح أصولنا فورًا لكل من يدخل الشقة. طفق كل ذلك يتصارع مع الوافدة الجديدة.. ولدرء ذلك التناقض، أزاح أبي كل قطع الأثاث الموجودة إلى جانب واحد من الغرفة مما جعلها تبدو أصغر حجمًا، تاركًا الجانب الآخر للأريكة الخضراء.

خلال الأيام الأولى، تناوبنا على الجلوس أو الاستلقاء عليها، حاول رضا تناول الإفطار عليها قبل أن يُطْلَب منه العودة إلى الطاولة. وقد ساعد فشل نظرية استحالة الأريكة الخاصة بوالدي، في جعل أمي تتقبلها.

لم يمض على وجودها في منزلنا سوى أقل من أسبوع، عندما جاءت “ماماني”* كما اعتادت أن تفعل كل يوم أحد لتناول الغداء. كان والدي قد انتشل والدته من الوطن قبل عقد من الزمان بعد كثير من المناورات البيروقراطية؛ امرأة قصيرة وممتلئة من النوعية التي لا تراها في الأرجاء، دائمًا ما ترتدي ملابس سوداء. لم يكن واضحًا ما إذا كانت تعد قدومها إلى أرض حبوب القمح الصغيرة وسراويل الجينز ذات الخصر الساقط نعمة أم نقمة. انتقدت لغتنا الفارسية دومًا، وتلافيًا لملاحظاتها ترددنا في الحديث في أثناء زياراتها. واستجابة لإصرارها أرسلنا والدي إلى مدرسة إيرانية في صباحات أيام السبت، بينما كان جميع الأولاد الآخرين يلعبون الكرة أو ينامون. وبسببها أيضًا أُجبرنا على قراءة عشر صفحات من الشعر الفارسي أسبوعيًّا، وحفظ قطعة لتلاوتها. على هذه المشاق لُمنا ماماني.

كان رضا مستلقيًا كالمعتاد، يقرأ كتبه المصوَّرة، على الأريكة الطويلة للغاية، بالكاد تتجاوز قدماه نقطة منتصفها، عندما سألت ماماني:

“من أين حصلتم عليها؟” كما لو كانت تخاطب قطة تحمل عصفورًا بين أسنانها.

حاول أبي صياغة الأمر بلباقة، فأطلق عليها اسم “تشيسترفيلد” مجددًا، ولم تفلح محاولته هذه المرة أيضًا.

“من الشارع!” قاطعته ماماني.

“الناس يرمون أي شيء”، رد مدافعًا.

قالت ماماني شيئًا أخيرًا قبل أن تترك غرفة المعيشة ذاك اليوم:

“قد يكون بها نمل أبيض”.

أحكام الآباء محال تجنبها، بالأخص، أحكام الآباء من البلاد القديمة، ليس منها مفر؛ أحلامك بأن تصبح شاعرًا أو صحفيًا تتحول تدريجيًّا إلى عَالِم رياضيات أو طبيب أسنان، الحب من النظرة الأولى بمرور الوقت يجري التشكيك فيه وينمو في مكان آخر، مثله مثل الحب من النظرة الثانية. المقاومة غير مجدية.

لم يكن هناك أي حديث آخر عن الأريكة في أثناء تناولنا يخنة الباذنجان والطماطم، ماماني قد قالت نصيبها من الكلام. لكن في اليوم التالي، وجدت أبي منحنيًا على أربع، وينظر تحت الأريكة الخضراء كما لو كان يبحث عن فكة ضائعة.

ما إن استشعر وجودي، انتفض وبدا عليه الارتباك.

“أترى أي شيء؟”. سألته.

عَلِمَ أنه لا جدوى من التظاهر.

“لا، رغم أني لست واثقًا مما أبحث عنه. قد يكون داخل الخشب، الطريقة الوحيدة للتأكد هي أن ننشرها، ونرى ما إذا كان قد حُفِرَ بداخلها.”

 

لم أسمع أبدًا عن النمل الأبيض في كندا، لذا فقد بدا لي آنذاك كأحد أمراض الماضي التي من المؤكد أنها كانت شديدة السوء في يوم من الأيام. لكنهم قد اخترعوا الآن لقاحات لها. تعامل والدي مع الأمر بالطريقة التي لا يعرف سواها؛ الإغراق في القراءة.

على مائدة الطعام صار يذكر بكآبة: “تصوروا أن الوزن الإجمالي للنمل الأبيض على الأرض يبلغ خمسة أضعاف وزن البشر مجتمعين؟ وأن ارتفاع تلالهم يمكن أن يصل إلى ثلاثين قدمًا؟ النمل الأبيض حتى لا يعيش بها، بل أنها أشبه بأنظمة تهوية لأنفاقهم تحت الأرض، كناطحات سحب للرئتين، وبإمكانهم تحويل منزل إلى ركام في غضون أسبوعين! فور دخولهم لا يمكنك مجابهتهم، لا يسعك سوى الرحيل. إنهم يلتهمون المال أيضًا، قرأت قصة عن بنك في طهران خسر مائة مليون ريال من الأوراق النقدية بسبب النمل الأبيض.”

فكرت في أننا في مأمن من ذلك نظرًا لما نحوذه من مال قليل، وعدم امتلاكنا لأوراق نقدية مكدسة في الجوار قد تُلتَهَم، غير أنني لم أنطق بشيء. بوصفنا عائلة، لطالما جاهدنا في محاولة النظر إلى المال باحتقار، رغم أننا أحببنا الحديث عنه، كانت لعبتنا المفضلة على العشاء مناقشة ما سنفعله إذا ما فزنا ذات يوم باليناصيب. حظى ريزا بالأحلام الأكثر خيالية، يستغرق في عد السيارات والطائرات والغواصات، بينما أصر والدي على أن المال لن يغيِّر شيئًا، سيحتفظ بوظيفته بصفته إداريًا ذا مؤهلات عليا، حتى أن زملاءه لن يلاحظوا شيئًا، بيد أنه سرعان ما راح يناقض نفسه، ويحصي بعض المشتريات الكبيرة، بيانو كبداية، وحمام سباحة، فكَّر مليًا في نوعه وشكله الأمثل. فبالنسبة إلى أبي، كان امتلاك مسبح خاص به هو أكثر شيء غربي يمكن تخيله. لم نشتر اليناصيب أبدًا بالطبع، والدي كان يعرف الاحتمالات، لكن لم يمنعنا ذلك من الحديث.

عثرت عليه مرة أخرى في غرفة المعيشة عاقدًا ذراعيه، يحدق إلى الأريكة. وقفنا صامتين، إلى أن قال: “أي سبب آخر قد يدفع أحدهم إلى التخلص من أريكة بهذه الجودة؟”

 

في يوم الأحد ذاك أمطرت السماء، قضيت اليوم رفقة أحد الأصدقاء وعدت بعد الغسق. لمحت وجهين مألوفين يميلين نحو حاوية القمامة، على بعد بضع خطوات من البقعة التي رأينا الأريكة المخملية الخضراء فيها لأول مرة.

صار بإمكاني رؤية نصفها بارزًا من مكب النفايات، كاشفة عن أخبائها، ذلك الهيكل الخشبي الداكن، وأبي واقف على كرسي منحنيًا على أريكتنا المقلوبة، يلهث من شدة الجهد، تجاوره ماماني، واقفة على كرسيها الخاص، حاملة مظلة فوقهما، ذراعها ممدودة لتغطي ابنها الوحيد من زخات المطر المنهمرة من السماء، كلاهما يدير ظهره لي، وأبي ينشر الأريكة بعنف.

المهاجرون لا يمتلكون أي أدوات، أتخيل أنه قد استعار المنشار من جارنا في الطابق السفلي، رغم أنني لم أسأله قط. كما أتصور أيضًا كيف نما الشك بداخله، وكيف استحوذت عليه تلك الجملة الواحدة من ماماني لأسبوع كامل، وكيف كانت نظرة واحدة منها كافية لقلب الموازين. وكيف تغيَّر قلبه فجأة، ليفك قوائم الأريكة مجددًا ليدفعها للخارج، بمفرده هذه المرة، دفاعًا عن عائلته، وحفاظًا على منزله من أن يستحيل ركامًا في غضون أسبوعين. وكيف أنه بعد كل ذلك، كان عليه أن يقطعها وصولًا إلى قاعها، ليتحقق مما إذا كانت تحوي نملًا بداخلها أم لا. لكني في ذلك اليوم، سارعت في الصعود إلى منزلنا، وقد تأجَّل حلم الحياة العصرية الجديدة دون رجعة.

مصدر القصة:

https://www.google.com/amp/s/www.cbc.ca/amp/1.5083042

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا