اللغة: ضبابٌ لا يجلوه إلا الصمت | عزة صلاح

الذي اختار الصمت سبق له أن قال كل شيء
ديستويفسكي
لم أقصد بهذا المقال التجنّي على اللغة وأهميتها في التواصل الإنساني والحياة اليومية، فهي التي تميّز الإنسان عن بقية الكائنات الأخرى بلا شكّ. فهذا المقال هو فقط مقال أدبي لا أكاديمي يضمّ نظرة تأمّلية فلسفية تدعو إلى التفكّر في قدرة الصمت على إيصال المعنى أكثر من الكلام الذي لا يكشف حقيقة الأشياء بعمق.
كنت أشاهد المسلسل الكرتوني الشهير «الخروف شون – Shaun sheep» الذي اعتدت مشاهدته خلال الطفولة وحتى بعد التحاقي بالكلية . مسلسل طريف “صامت” تدور قصته حول شون، وهو خروفٌ ذكي ومشاكس يعيش في مزرعة مع قطيع من الأغنام، ويخوض مغامرات في محاولة لتحدّي الروتين اليومي للمزرعة. يعرض المسلسل القصة التخيلية بطريقة فكاهية من دون أن يكون للغة أيّ حيّز من تواتر الأحداث .
فكّرت حينها في جدوى اللغة، فإذا كان بوسعي أن أشاهد كل هذه المغامرات ذات المعنى الواضح السهل من دون أن يكون للغة ولو دور بسيط ، فلماذا خلق الإنسان اللغة؟
اللغة قناعٌ للمشاعر
“خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره ” بهذه العبارة كان يؤكّد أوسكار وايلد على دلالة فلسفيّة عميقة، لأنّ اللغة أحياناً تتستًر بالمعنى الحقيقي لجوهر الأشياء، فاللغة يمكن أن تكون مصدر تشتيت لما يود فهمه. فكم من مرة رغبنا غي طرح فكرة متجسّدة في أذهاننا وخانتنا اللغة، كم من مرة أردنا التعبير فيها عما اختلج في صدورنا من مشاعر وفشلت اللغة في استيفائه!
إعلان
ترى كيف كان شعور الإنسان الذي نطق لأول مرة؟
لقد أوضح المفكّر القرآني محمد شحرور في قراءاته المعاصرة* أنً الكلام الإنساني وإصدار الأصوات هو جزء من عملية الأنسنة أي “تطوًر الكائن البشري إلى إنسان” والكائن البشري على حدّ زعمه، كان يسير على أربع أطراف، ونفخة الروح والاستواء وانتصاب القامة هي الحلقة المفقودة في نظرية داروين التي من خلالها تطوّر البشر إلى إنس، إذن كيف كان يتواصل البشر فيما بينهم قبل تطوّر الجهاز الصوتي لديهم؟
لطالما تخيّلت أنّ البشري الأول قبل أن يتطوّر ويخترع اللغة كان يعيش في هدوء ولحياته معنى واضحًا، حتى استوى على قدميه وبدأ بتحريك فمه وإصدار الأصوات، ولقد عقّدها مع الزمن وركّبها، ثم وضع لها قواعد وصروف ونحويات سماها اللغة، وأورثها لأجيال لاحقة حتى صارت بمقام الأكل والشرب والتنفس، ومن وقتها والناس يعيشون في ضباب الكلمات هذه، يثرثرون كثيرًا لكن لا شيء مما في دخليتهم ينفذ لسامعيهم.
اللغة سلاح يحتاج إلى تروٍ قبل استخدامه
قيل أنّ فولتير قبل الشروع في مناقشته دائمًا ما كان يقول لمناقشيه : “حددوا ألفاظكم” حتى يتسنّى للجميع أخذ الوقت الكافي لانتقاء ألفاظهم بدقة؛ لكيلا يسيء أحد فهم أو اعتقاد الآخر . لقد أدرك فولتير أنّ اللغة ليست بتلك السهولة حتى نستخدمها، فأحيانًا قد تغير كلمة واحدة معنى الجملة كلها وبالتالي الفكرة بلُبها والنظرة للأمور بأكملها.
وحتى في علم المنطق عند أرسطو* – وهو علمٌ بالغ الصعوبة- كان التعريف جزءًا منه، فلكي نعرف الشيء يجب أن نخضعه لأشد أنواع الفحص والتدقيق بعبارات قليلة جدًا ، أن نكمش التعريف في كلمات قليلة لكنها في الوقت ذاته يجب أن تؤدّي معنى يزن ثقل الجبال . وهنا تكمن صعوبة علم المنطق، و كذلك خطورته لأنه يمكن أن يتحوّل إلى سلاح فتّاك حين نسيء صياغة التعريف فنأتي بمعنى غير المراد.
أما بالنسبة للترجمة، فقد مثّلت هذه الأخيرة وسيلة نقل من لغة إلى لغة أخرى لكنها لا زالت غير قادرة على إيصال المعنى بعمق وكما أراده الكاتب في نصه الأصلي، رواية مزرعة الحيوان لو أخذناها كمثال ترجمها للعربية العديد من المترجمين كلٌ بصيغته وأسلوبه، قد يصل المعنى العام للقاريء لكن ثمة تفاصيل صغيرة دقيقة تُرجمت بحسب فهم كل مترجم لها. ها هي الترجمة والتي هي في الأساس لغة تعبّر عن لغة “شيئان من نفس الجنس” لم تستطع أن تعبّر بما فيه الكفاية عن الأفكار والمشاعر، فكيف بلغة أن تعبّر عن المعاني التي يعانقها الصمت الذي هو في الأساس مختلف كليًا عن اللغة “شيئان من غير نفس الجنس”؟
الصمت وقدرته على شرح معاني الحياة
لميخائيل نعيمة المفكّر والأديب اللبناني كتاب فلسفي عنوانه “مذكرات الأرقش”* وهو يتحدّث عن خادمٍ كان يعيش في مقهى ويخدم الزبائن صامتًا، يجيء ويذهب في صمت، ويلبًي طلبياتهم في صمت حتى حار الناس في أمره، وعندما يجنً الليل ينزوي هذا الأرقش في كوخه ليكتب مذكراته عن ثرثرة الناس وكيف أنهم بعيدون عن ادراك حقيقة الكون والحياة التي – في نظره- لا يمكن ادراكها إلّا بالسكوت والتأمّل.
لقد قسّم الأرقش الناس إلى قسمين: متكلّمون وساكتون، وشرح كيف أنهم منشغلون بملء البطون واشباع الشهوات والنزوات، أما هو فقد صام عن كل ملذات الدنيا حتى الكلام، وشعر بسلامه الداخلي في كونه صامتًا لا يتحدّث مع الخلائق، فوجد حقيقة الحياة ومعناها في اللحظة التي أطبق فيها فمه وسكت!
إنّ القارئ لهذه المذكّرات لا يمكن أن تفوته كم الفلسفة التي وصل إليها هذا الإنسان عندما اتّخذ الصمت وسيلة تعلّم وفهم، فوحده الصمت يجلي غشاوة الأشياء ويظهر الحقيقة عارية وواضحة كما هي
لطالما ارتبطت في قصص الديانات القديمة أنّ مبشّريها ورسلها أخذوا فترة من الانقطاع والعزلة والتأمل والصمت حتى بشروا الناس برسالاتهم ، فها هو غوتاما بوذا الذي عاش في القرن السادس قبل المسيح كان قد قضى أول شبابه باللهو والطرب، ثم في التاسعة والعشرين من عمره اقترن بنسيبة من نسيباته، وبعد ولادة بكرهما بقليل قطع بوذا كل علاقاته العائلية واعتزل الناس وانفرد بنفسه مدة منقطعًا للتأمل، ثم عاد إلى العالم ليهدي الناس إلى الطريق التي اهتدى إليها. لولا العزلة التي جوهرها الصمت لما اهتدى بوذا ولما هدى.
ولقد أنشد الجواهري مرة:
وحين تطغى على الحرّان جمرتهُ
فالصمت أفضل ما يُطوى عليه فمُ
فالصمت إذن هو الذي يوقد الفكر ويهدي الضمير ويرفع الإنسان إلى أعلى درجات التفكّر والتبصّر. والصمت هو صفة الحكيم وصفة الحليم، لقد مات بعض الناس ندمًا بسبب كلام تلفّظوا به لكننا أبدًا لم نسمع بشخص مات قهرًا لأنه ألجم لسانه، فالصمت هو ماء الغضبان حين تُكتوى حشاه.
مراجع:
– محمد شحرور كتاب ” القصص القرآني، الجزء الأول “، دار الساقي، الطبعة الأولى 2010
– قصة الفلسفة، ويل ديورانت صفحة 79، مكتبة المعارف، الطبعة 1988
– مذكرات الأرقش، ميخائيل نعيمة، دار نوفل، الطبعة التاسعة 1992،
إعلان