الكتاب المقدَّس من منظور باروخ سبينوزا

في سنة 1632م وُلِد «باروخ سبينوزا»* لعائلةٍ برتغالية من أصولٍ يهوديَّة لجأت إلى هولندا واختارت مدينة امستردام سكنًا لها، بعد مغادرتها وطنها الأم نتيجة الاضطهاد الذي مرَّت به.

وقد أعدَّ الأب الذي كان تاجرًا طريقًا لابنه -سبينوزا- ليدلّه على الحاخامية آملًا أن يصبح من رجالها، فَتلمذه على الإيمان اليهوديّ واللُّغة العبريَّة بغية تحقيق هدفهِ المنشود، وقد نشأ سبينوزا إثر ذلك على حب الاطلَّاع والمعرفة، ودرس عدَّة مؤلَّفات عبريَّة وصوفيَّة مثل أعمال «ابن ميمون»* و«ليفي بن جيرسون»*، كما اهتم بالمعتقدات المسيحيَّة وسَعى لتعلُّم اللُّغة اللاتينيَّة على يد أستاذٍ هولنديّ لا يحمل فكرًا دينيًّا مستقيمًا كما اعتُقِد حوله، وهناك انصرف سبينوزا إلى نظرة متشكِّكة من الدين بعد أن درس الفلسفة والعلوم واختلط بعدد من الأشخاص والجماعات كان من بينهم أحد أتباع الثيوصوفيا. كما تأثّر أيضا بـ «ابن رشد»* و«ديكارت»*بشكلٍ واضح.

في سنة 1656م تم فصل سبينوزا عن طائفته، وإجراء الحرم عليه نظرًا لأفكاره ونقاشاته الجريئة مع رجال الدين، كما تعرض لاضطهادٍ ومحاولاتِ قتل من قبل اليهود المتعصِّبين لمعتقدهم.
عمل سبينوزا في حرفة صقل الزجاج الخاص بالنظارات حين تم طرده من المدينة بعد أن غادرها ناحية منزلِ صديقٍ له، وشرع في تأليف كتبه والتعريف بفلسفته، وقد رفض طلب تعيينه مدرّّسًا في أحد الجامعات حين رأى أنَّ ذلك سيعيقه عن مواصلة مسيرته الفلسفيَّة وكذلك زجه في خضم جدالاتٍ سيراها البعض هرطقةً أو تجديفًا على الدين والإله.

توفي سبينوزا سنة 1677م بعد أن قدَّم للفلسفة الحديثة أفكاره المهمة، وما جاد به عقله الذي كان يجلُّه ويقدِّسه ويراه طريقًا نحو الإله. ومن أهم أعماله: الأخلاق، رسالة في إصلاح العقل، رسالة في اللاهوت والسياسة، موجز في النحو العبري.

الوحي:

يقدِّم لنا الكتاب المقدّس حسب باروخ سبينوزا وحيًا إلهيًا لا يحتوي معرفة عقليَّة وفلسفيَّة وإنَّما معرفةً ايمانيَّةً بالله تدعو إلى الطاعة، فالخلاص في الآخرة لا يكمن في العقل بل في الوحي، وبالإضافة إلى ما سبق فإنَّ هذا الوحي يجعل المؤمن يملك يقينًا ذاتيًا لا يحتاج إلى أمرٍ خارجيّ يستدِّل به.
وهكذا فإنّ الكتاب المقدَّس لا يوفِّر لنا معرفة معيَّنة أو محاولة للوصول إلى حقيقةٍ عقلانيَّة بل معرفة تتلخَّص حول ما يجب فعله حتى يطيع المؤمن بذلك إلهه، ووحيًا أخلاقيًا يأمرنا باتباع الصدق والعدل والمحبة، وما على المؤمن إلا طاعة وصاياه من دون استعمال العقل.  فإنَّ الله لم يوحي لهم – الأنبياء- بأمور فلسفية عميقة بل بأفكارٍ يسيرة للغاية“.  (1)

إعلان

يرى سبينوزا إذن في الكتاب المقدَّس؛ وحيًا يمنح بدوره المؤمنين معرفةّ بأهم ما يريده الله لأتباعه من طاعته واِتباع تعاليمه الوعظية عن طريق وصايا أو قصص بسيطة لا تقتضي التعقيد.

التقليد والرواية:

يؤكِّد باروخ سبينوزا أنَّ التقليد والروايات الشفهيَّة التي وصلت إلينا عن طريق تقليد الرسل والقدّيسين وما تسلّموه سواء كانت قد دُوِّنت بعد ذلك أم لم تحفظ كتابياً، وكذلك ادعاءاتهم حول اتباع السلف على أنَّها معرفة سمعيَّة ولهذه المعرفة ايجابيات مثل معرفة معلومات عن ميلادنا أو أجدادنا، وأيضًا فائدتها في التربية والتعليم.

فسبينوزا لا يرفض هذه المعرفة السمعيّة بشكلٍ مطلقٍ حتى في التاريخ إلَّا أنّه يجب علينا تجنُّب تصديق أيّ مزاعم تُصدَر منها فهي بالنسبة إليه “اعتقاد” قابل للخطأ.

وقد ينتج تصديقها عن الأهواء التي تتملَّك الانسان من حب وكره، فهو يضرب مثالًا عن الحب الذي هو من أشدِّها فيكتب “يمكن معاينة الحب (…) لدى الأبناء في علاقتهم بآبائهم لأنه يكفي أن يصف الآباء شيئًا ما بانه حسن حتى يميل إليه الأبناء دونما روية”. (2) ومن هنا يأتي دور العقل في تدقيقها وتمحيصها. لاسيما عندما نعرف أنّ كل فئة تدَّعي معرفة مختلفة عن الثانية مثل الفريسيِّين أو الصدوقيين وما اختلافهم إلا دليلًا على وجوب تفحص ما يأتي إلينا. وهكذا فقط ربط سبينوزا أحكام الإنسان ومعتقداته وما يؤمن به بالعاطفة.

ويقول باروخ سبينوزا: إنّ العقل لا يرفض كل المعرفة السمعيّة لكنّه يرفض أن يكون الاجماع هو الدليل على حدوثِ أمرٍ ما“. (3) وبذلك فإنّه لا ينكر المعرفة السمعيّة وفي الوقت نفسه لا يصدِّقها بمطلقيتها، كما يرى أنَّ الإجماع لا يمكن عدُّه دليلًا قاطعًا على حقيقة حدث معين أيّ اتفاق جماعة من الأشخاص على وقوعِ موضوعٍ ما.

التناقضات والغموض:

يحفل الكتاب المقدّس برؤيةِ سبينوزا على تناقضات أو غموض يلّفه كـ تشبيه الذات الإلهيّة بصفات معينة مثل أنّ الله غاضب أو راكب على الغيمة. مع التناقض أو التضارب الذي يكون بين النصوص مثل دعوة المسيح إلى مقابلة الإساءة بالإحسان وبين العهد القديم الذي يأمر بالقصاص، (4)  سبينوزا والكتاب المقدس كذلك ما يرد في سفر صموئيل الأول، وهو القول بأنّ الله لا يندم بينما نعثر في سفر ارميا على كلامٍ يناقضه حول أنَّ الله يندم. (5)

ومن هنا يأتي دور العقل أكان ذلك عن طريق الفهم الرمزي أو أيِّ نوعٍ من أنواع التوفيق بين هذه النصوص ومحاوله فهمها، فالتشبيه السابق حسب اعتقاد سبينوزا الذي يصف الإله بالغضب أو ركوب الغمام قد جاء مناسبًا لعقولِ الناس في عهدهم، أما التناقض الذي بين العهد القديم والجديد فهو تَميُّز عصر النبي موسى وظروفه بوجود دولة أو جماعة سياسيّة يجب أن يقودها عكس المسيح الذي لم يكن رجل دولة. غير أنّه علينا بحسب تحذير سبينوزا رفض ما دعى له المسيح حول المغفرة للناس كون الأمر يشكل خطرًا على الدولة والقانون المدنيّ. 

لا شك أنَّ باروخ سبينوزا أشار واعترف بوجود عدَّة تناقضات في الكتاب المقدس، غير أنَّه لم يقف عندها ويعيب نصوصها مع شخصياتها، بل أشار إلى وجود تفسيرات تساعدنا على فهم منطق وروح الكتاب إذا ما أعملنا العقل.

تأويل الكتاب المقدّس:

قبل الحديث عن سبينوزا وتفسيره الكتاب المقدس نوّد ذكر مجال النقد النصي الذي تأسَّس من بعده، فالنقد النصيّ هو تحليل يستعمل المنطق والعلم، ويلِّم بدراسة المخطوطات المسيحيَّة والعبريَّة التي وصلتنا، يجمعها، يكشف عن عمرها ويدقِّقها عن طريق فحص لغتها ونُسَخ مخطوطاتها والمقارنة بينها، ومعرفة الأخطاء التي تحتويها أكان ذلك عمدًا أم سهوًا، وبوسعه تحديد القراءة الأصح والأنسب أو النّص الأصليّ.

ويدرس تخصُّص دراسة المخطوطات التاريخيّة في مجال التاريخ أو علم التوثيق عبر: (النقد الخارجيّ) ويكون بمعرفة مؤلف الوثيقة وأدوات الكتابة و لغتها، ثم (النقد الباطنيّ الايجابيّ) الذي يحاول دراسة مقاصد المؤلِّف بموضوعيّة والبحث عن مؤلِّفاته الأخرى إذا وجدت لفهمه أكثر، كذلك ظروف كتابته للوثيقة، ثم هناك (النقد الباطنيّ السلبيّ) الذي يضع النص في حالة من الاستجواب عبر فحصه تاريخيًا ومحاولة اكتشاف تناقضات داخله أو مع تأريخ آخر وخلفية الكاتب ونواياه. (6)

لقد جمع باروخ سبينوزا تقريبًا كل ما قلناه في منهجه الأوليّ فهو قد أراد دراسة الكتاب المقدّس بِحريَّة تامة مثلما تُدرَّس علوم الطبيعة. فالكتاب المقدّس بالنسبة له يفسِّر نفسه بنفسه، وإنّنا حين ندرسه لا يجب علينا دراسته لمعرفة حقائقه بل لمعرفة المعنى الصحيح فيه سواء وجدنا في أحداثه حقيقةً ما أم عكسها، كما ينبغي على العقل أن يكون الفيصل الذي يؤوّله.

ولم يسهم سبينوزا فحسب في النقد النصي الذي نشأ من بعده بقرون، بل في الهيرمينوطيقا كذلك أي علم التأويل الذي يُعد من رواده. ونرى حسب مفسِّري سبينوزا؛ أنَّ “منهجه” الذي أخضَع جميع النصوص إلى العقل بما في ذلك النصوص المقدَّسة التي تحتكم إلى مرجعية إلهيَّة ليس بوسع البشر نقدها كان أن جعلها في النهاية تاريخيَّة؛ يدخل ضمن إطار المنهج التأويلي الذي بشَّر به وأراد أن ينجز عبره قراءةً منطقية للكتاب المقدَّس لا يحتكرها الكهنة أو العامة، ولغة تتصِّف بالعلميَّة تكون أكثر حرصًا من اللُّغة العادية التي تعتريها الأوهام.(7)

ومن بين أهم الأفكار في تأويله هو معرفة اللّغة التي كُتبت بها المخطوطات كانت الأصليَّة أو المترجَمة، وكذلك تَفَحُّص محتواها وما تقدِّمه في ضوء التاريخ، كما على الدارس باعتقاد سبينوزا أن يجمع الآيات وينظّمها حسب كل موضوع، من دون أن نغفل عن معرفة المؤلِّف وسلوكاته، وزمن تأليفه للنص، وعدد نُسَخ كتبه التي نُسِخت بعده، واللغة التي كان الناس يتحدَّثون بها في فترة تأليفه الكتاب، ويجدر بالباحث أيضًا مقارنة المخطوطات مع أخرى.

وكآخر دراسة يقوم بها باروخ سبينوزا، هي معرفة حقائق الشخصيات التي في الكتاب و المواضيع، -النبوة والمعجزة والوحي على سبيل المثال- وبما أنّ سبينوزا كما قلنا سالفًا يفسر الكتاب بالكتاب وعن طريق العقل فهو يرفض احتكار رجال الدين تأويل الكتاب المقدّس لوحدهم، ويشير في الأخير إلى صعوبة تطبيق خطواته في نقد وتفسير الكتاب المقدس بسبب لغة المخطوطات القديمة، أو افتقاد نسخٍ محدَّدة، وعدم تجديد اللُّغة فيه، أو الحفاظ على قواعدها ومعاني كلماتها.

لا شك إذن أنّ منهج سبينوزا كان يتميَّز بالتفسير التاريخيّ مع الدقَّة في تفسيره للنّص المقدّس، واعتماده على العقل والمعرفة فقط، بالإضافة إلى اللُّغة الي يراها تلعب دورًا بالغًا في كيفية تعاطينا مع النص، وهذا ما يجعل من الدين بالنسبة إليه ذو بُعدٍ لغوي أكثر مما نتصوَّره.

النُبوَّة:

يعتبَر النبي عند باروخ سبينوزا مفسِّرًا للوحي، (8) وإنَّ لديه شدَّة ايمان وبداهة عقيدة وليس بداهة معرفة وشدَّة فهم، ولم يصف سبينوزا الأنبياء بالدجل والكذب بل سعى لدراسة النبوُّة من دون التطرُّف في الحكم عليها. كما أنَّ النبي يتسّم بصفة الخيال وليس العقل، والوحي يتعاطى مع خياله لا عقله. (9)

يخاطَب النبي من قبل الله أو يأتي إليه الوحي بطريقتين يا إما المعرفة السمعيَّة كأن يسمع صوت الرب كحقيقةٍ حدثت مثل تكليمه لموسى، أم سماع صوت خياليّ كأنْ يأتيه في الحلم مثل ما حدث مع صموئيل كما يقول سبينوزا، وهناك المعرفة الحسيَّة وتكون مثل تجلِّي الله كملاكٍ للنبي. (10)
وتعتمد النبوءة على شخصية النبي فإذا كان مرحًا تكون نبوته رؤيةً للنصر والفرح أما إذا كان متشائمًا فستكون نبوءاته مدعاةً للكوارث. (11) ولا يجب على الأنبياء أن يكونوا حكماء كما ذكرنا بل اختلفوا في الميولات والطبائع فهناك من كان أمّيّ وهناك من كان حكيم وبهذا فلا يُشترَط على النبي أن يتفوَّق على العامة بعقله. (12)

غير أنّ المسيح حسب سبينوزا هو الشخص الوحيد الذي عرف الله من دون أن يخاطبه بهذه الأنواع من الوحي عن طريق الاتصال به مباشرة. كما أنَّ يقين الأنبياء بالوحي يحتاج علامة من الله يدركونها حتى يتيقنوا من أنّه الاله الحقيقيّ الذي يخاطبهم أو يتراءى لهم. وبذلك فإنّ النبي يناقض الفيلسوف عند سبينوزا كما أنّه لا يعتمد على عقله في نبوته هذه وفهمه بل خياله الخصب الذي سمح له بتلقّف الوحي الإلهيّ.

المعجزة:

تعتمد المعجزة في أساسها على الجهل، فالناس خَلقوا المعجزات عن طريق جهلهم بالظواهر الطبيعية التي كانت تتصف بالغموض بالنسبة إليهم بعد عجزهم عن تفسيرها، حيث أنَّه: اعتاد الناس على تسمية العمل الذي يجهل العامة سببه عملًا إلهيًا“. (13) 
يرى سبينوزا المعجزة كخرقٍ لنظام الطبيعة وبذلك فالله عند سبينوزا لا يمكنه مناقضة نفسه وخرق الطبيعة التي هي نفسها هو. فالمعجزة إذن هي انتهاك لقوانين الطبيعة وادعاءٌ يقدم لنا صورة سيئة عن الله وإرادته كما أنَّها تناقض العقل حسبه.
والناس حسبه يرغبون بالحديث عن هذه الأمور الغامضة أكثر من الشؤون الأخرى: فهم يُفضِّلون أن يجهلوا العلل الطبيعيَّة للأشياء ولا يودون إلا الحديث عما يجهلونه تمام الجهل“. (14) 
كما أنّه من بين عوامل ذلك هو اظهار خضوع الطبيعة ليد الله وحده المتحكَِم بها، وتبيان الأمر لليهود للوثنيين الذين كانوا يعبدون الشمس والقمر.
إنّ معرفة الله عن طريق المعجزات كما يراها سبينوزا هو أمر خاطئ كليا يسيء الى الله أكثر مما يجلِّه، ولمعرفة الله يجب أن يكون ذلك عبر معرفة نظام الطبيعة الثابت الذي لا يخضع للعشوائية وليس العكس.
إنَّ الاعتقاد بالمعجزات حسبه لا تدل على النبوّة أو أيّ أمر سماويّ حقيقيّ فعدة معجزات حدثت مثل معجزة انحسار بحر بافيليا في عصر الاسكندر المقدونيّ* الذي كان وثنيًّا أساسًا.
كما يشير إلى بعض الأمور التي حدثت فيقول أنَّ لديها تفسيرًا منطقيًّا مثل إظهار الله قوس قزح بعد الطوفان، على أنّ قوس قزح مجرَّد سقوط أشعة الشمس وانعكاسها حين سقوطها على قطرات الماء.
وعلى ضوء ما قال سبينوزا حول المعجزة فهي تُعتَبر مجرد خرق للطبيعة وعشوائية تضر بفكرة الإله والنظام وإرداته كما أنّها مبنية على الجهل بعلل الحوادث.

التوفيق بين الدين والعقل:

عرِف تاريخ الفلسفة والدين بنظرتين: واحدة توفيقيَّة توفق بين الدين والعقل أو اللاهوت وأخرى تأخذ منحى النفي من ذلك. كما رأى البعض أنّ الدين خادم العقل، أما الآخرون فقد قلبوا الأمرين.
وعلى اثر هذا كان سبينوزا يرى أنّه لا يمكن التوفيق بين الدين والعقل فهما شيئًين مختلفين كليّا، فالمعرفة الدينيَّة تتناول جانب الطاعة عكس العقليَّة كما ذكرنا، وبذلك فكلّ شخص حرّ في تفسيره للنصوص الدينيَّة. 
يقول سبينوزا حول هذا الموضوع: الواقع أنّنا قد بيَّنا بالعقل أنَّ الكتاب لا يعلِّم الفلسفة بل يدعو إلى التقوى وحدها كما بيَّنا أنَّ مضمونه كله مهيأ على قدر فهم العامة و أحكامهم المسبقة“. (15) 
وانتقد سبينوزا ابن ميمون الذي أخضع الدين للعقل وسعى للتوفيق بينهما، ومن جهة أخرى انتقد يهوذا الفخار* الذي أخضع العقل للدين، إنَّ سبينوزا هنا يرفض أي فكرة يمكنها أن توفق بين الدين والعقل سواء كان العقل في خدمة الدين أم عكس ذلك، ويعتقد أنّ الفصل بين الدين والعقل يسمح للفرد بالتفلسف وتفسيره الدين بِحريَّةٍ أكبر.
يختص العقل عند سبينوزا إذن بالفكر والحكمة والعلم الموضوعيّ، أما الدين أو الكتاب فيتعلَّق بالطاعة والتقوى واليقين الذاتيّ وبهذا فلا وجود لأيِّ توافقٍ بينهما.

ختامًا:

لقد آمن باروخ سبينوزا بأنَّ العقل أعلى درجات المعرفة التي تُمكِّننا من فهم العالم والوصول إلى الله الذي هو نفسه هذا العالم وطبيعته.

وبالرغم من ذلك فهو لم يسخر من الكتاب المقدَّس والأديان كما كان يصور بل سعى إلى تحليلها وتأويلها، وشرح ما تدعو إليه عن طريق المعرفة العقليّة كما دعى إلى التحرُّر من أيّ سلطةٍ دينيَّةٍ تدعِّي أنَّها تملك وحدها المعرفة الحقيقة.

ومثلما تأثّر سبينوزا بمن سبقه من مفكّرين وفلاسفة الغرب والعرب فهو قد أثّر كذلك في الفكر الفلسفي ووضع نقلةً نوعيَّة للفلسفة الحديثة في عدَّة مفاهيم ومسائل فلسفيّة سواء ما اختص به المقال حول الكتب المقدّسة أم ما تجاوزه.

شرح المصطلحات و المفاهيم:

-باروخ سبينوزا [1632 – 1671]: فيلسوف هولندي من أصل يهودي، تعرّض لحملة من النبذ والإساءة من طرف اليهود بسبب تناوله لمسائل الدين بنقد، كان من الأوائل الذين دعوا لتطبيق منهج علمي لدراسة المخطوطات والكتب المقدسة، احتلت وحدة الوجود حيزًا من فلسفته وفكره، تأثر بابن عربي، وابن رشد، وديكارت، أهم مؤلفاته: رسالة في إصلاح العقل، الأخلاق.
موسى بن ميمون [1135 – 1204]: فيلسوف ومفكّر يهودي عاش تحت ظل الحضارة الإسلامية، حاول التوفيق بين الدين والعقل، من أهم مؤلفاته: دلالة الحائرين، الرسالة اليمنية.
-ليفي بن جرشون [1288 – 1344]: عالم وفيلسوف وحاخام فرنسي المسقط، برع في الفلسفة والدين والفلك ودرس الفلسفة الكلاسيكة والعربية كما ألف عدة كتب: أهمها سفر حروب الرب، تعليق على نشيد الانشاد.
-ابن رشد [ 1126 – 1128 ]: عالم وطبيب وفيلسوف اندلسي مسلم، يعتبر من أهم أعلام الفلسفة الاسلامية، كان من بين الفلاسفة الذين وفقوا بين الدين و العقل، كما أثر على عدة فلاسفة غربيين ومنهم سبينوزا، من أهم أعماله: فصل المقال، تهافت التهافت.
-رينيه ديكارت [ 1596 – 1650 ]: فيلسوف ورياضي فرنسي، عراب الفلسفة الحديثة ، اشتهر بمنهجه التحليلي وثورته الفلسفية التي أحدثها حول الذات والوجود والله، أهم أفكاره يعرف: الكوجيتو الديكارتي”أنا أفكر إذن أنا موجود”. من أهم مؤلفاته: تأملات في الفلسفة الأولى، مقال عن المنتج.
-الإسكندر الثالث [356-323ق.م]: ملك اغريقي ابن الملك فيليب الثاني وتلميذ ارسطو، دحر و الفرس و فتح بابل و مصر، امتدت امبراطوريته حتى الهند، كما عرفت فترته احتكاك بين الشرق مع الغرب و تمازج ثقافاتهم فيما تعرف بالفترة الهيلينستية.
-يهوذا الفخار [ القرن 13 ]: طبيب اندلسي حظي بشهرة كبيرة لدى اليهود، يرى عكس ابن ميمون أنّ التوفيق بين الدين والعقل غير ممكن ويجب على العقل أن يخضع إلى اللاهوت.


مصادر:

1 – باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة: حسن حنفي، دار التنوير ودار الفارابي، الطبعة الأولى 2005 ، ص 338

2 – باروخ سبينوزا، رسالة في اصلاح العقل، ترجمة: جلال الدين سعيد، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الثانية 2017، ص 132

3 – جلال الدين سعيد، سبينوزا والكتاب المقدس، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى 2017، ص 44

4 – المصدر نفسه، ص 46، 47

5 – باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة (مصدر سابق) ص 360

6 – شوقي الجمل، علم التاريخ، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، الطبعة الأولى 1997، ص 140، 145, 146، 147، 148، 149

7 – زيد عباس كريم، سبينوزا والفلسفة الأخلاقية، دار التنوير، الطبعة الثانية 2012، ص124

8 – رسالة في اللاهوت والسياسة، مصدر سابق، ص119

9 – جلال الدين سعيد، سبينوزا والكتاب المقدس (مصدر سابق) ص 18، 52

10 – رسالة في اللاهوت والسياسة (مصدر سابق) ص 122، 123؛ 125 126

11 – سبينوزا والكتاب المقدس (مصدر سابق) ص 52

12 -كامل محمد محمد عويضة،  باروخ سبينوزا فيلسوف المنطق الجديد، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1993 ص 65

13 – رسالة في اللاهوت والسياسة (مصدر سابق) ص 213

14 – نفس المصدر السابق والصفحة

15 – نفس المصدر السابق، ص 355

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

الصورة: معدَّلة/ مصمَّمة

اترك تعليقا