القاهرة الجديدة.. بواكير الرواية الاجتماعية.
أيهما أسبق: خان الخليلي أم القاهرة الجديدة؟
قصة المجتمع المصري الحديث، وما يضطرب في كيانه من عوامل، وما يصطدم في أعماقه من اتجاهات. قصة الصراع بين الروح والمادة، بين العقائد الدينية والخلقية والاجتماعية والعلمية، بين الفضيلة والرذيلة، بين الغنى والفقر، بين الحب والمال.. في مضمار الحياة (1)
القاهرة الجديدة والقاهرة القديمة.
يستمد نجيب محفوظ بعض الخطوط العريضة في تلك الرواية من سابقتها “خان الخليلي” وهي أول روايات الكاتب في المرحلة الاجتماعية/الواقعية. وعلى خلاف تلك الحقيقة التي ظهرت من خلال المتابعات النقدية لروايات الكاتب، هناك خطأ شائع بين نقاد نجيب محفوظ أن رواية “القاهرة الجديدة” أسبق منها.
خان الخليلي أول روايات المرحلة الاجتماعية.
في مجلة الرسالة عدد 650، بتاريخ 17 ديسمبر 1945. كتب الأستاذ سيد قطب مقالاً عن
“خان الخليلي”. وهو سابق لمقاله عن “القاهرة الجديدة” المنشور في العدد 704، بتاريخ 30 ديسمبر 1946، الذي جاء فيه: “إن هذه الرواية أصغر في قيمتها الإنسانية –وتبعا لهذا في قيمتها الفنية- من سابقتها “خان الخليلي”.
ولو كانت القاهرة الجديدة أسبق كما هو شائع لما كان من المعقول أن تسبقها تنويهات ومتابعات صحفية ونقدية ل”خان الخليلي” وهي لم تصدر بعد. (2)
ويتوافق تاريخ المقالين مع ترجيح علي شلش: «خان الخليلي كتبت في النصف الأخير من 1945، بينما ظهرت القاهرة الجديدة في أواخر النصف الأول من العام 1946. بعد أقل من عام علي ظهور سابقتها.» (3)
كما يذكر أنور المعداوي في دراسته عن الثلاثية ترتيبا لأعمال الكاتب مقدما خان الخليلي علي القاهرة الجديدة.
إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هى القاهرة المعزية ذات المجد المؤثل.. أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبدة؟(4)
نري “علي طه” الذي يؤمن بالعلم والمجتمع والصراع العملي من أجل تحقيق الفضيلة و ينتقد أساطير الدين، يتخذ كثيرا من صفات “أحمد راشد” المؤمن برسل العصر الحاضر”فرويد، ماركس” والذي يحتقر سذاجة الديانات و سخافات الماضيKو غيرة محجوب عبد الدايم من علي طه، يوازيها حقد أحمد عاكف علي المحامي المثقف.
نري الفقر حاضرا في حياة البطلين، واللحظة التي تأتي ليتولى أحمد عاكف رعاية أسرته بعد إحالة والده علي المعاش، يفر منها محجوب عبد الدايم ليترك أمه ووالده المشلول يعانيان الفاقة والجوع والتشريد.
وفي حين يذهب أحمد عاكف إلي خان الخليلي ويقيم في حضرة الحسين هربا من الموت،
يسلك محجوب عبد الدايم الطرق الملتوية التي انسجمت مع فلسفته في الحياة والممرات التي يترك فيها الكرامة والشرف ليرتمي في أحضان “القاهرة الجديدة“.
نقد فني: رؤية سلبية.
تبدأ الرواية بتعريف كامل و مباشر بالأبطال، وتطور الأحداث فيما بعد لن يحقق سوى ذلك التعريف الواضح للشخصية، فتظهر أول شخصية عدمية في تاريخ الرواية المصرية تحمل شعارا واحدا يستطيع مجابهة كل الأراء والعقائد: “طظ”، بلا مبالاة للسياسة أو الدين أو المباديء أو حال المجتمع المتدهور كما يصوره الكاتب.
فكيف يؤثر استدعاء الفقر له علي هيئة خطاب يرسله صاحب محل البقالة ليخبره أن والده مريض و ملازم للفراش، أقول كيف يؤثر ذلك علي نظرة القارئ له بعد أن قدمه الكاتب ساقطا منذ البداية وقبل أن تبدأ الحركة الحقيقية للأحداث، فمحجوب عبد الدايم يبدو كما لو كان بطل تراجيديا كلاسيكية، قد تم تكوينه وتحدد مصيره من البداية” (5)
وحين تأتي الفرصة ليحلي رأسه بقرنين ذهبيين، يتذكر أنه قد قال كلمته قبل ذلك فيقبله بلا تردد: «أيشعر بما يدعونه غيرة على العرض؟ .. حاشاه. أيصدق فيما يسمونه الشرف؟ .. تبا له. لقد قال كلمته الأخيرة في كل هذه الأشياء، فينبغي أن يختار دون تردد. التردد معناه أنه لا يزال غير أهل لفلسفته الجسور. تبا له، أينسى ليالي الجوع؟ أينسى الفول المدمس؟ أينسى التخبط في شوارع القاهرة شحاذا متسولا؟» (6)
جعله المؤلف يواجه ذلك العرض واضحا دون تمويه . هل يقبل أن يكون زوجا لعشيقة البك؟ وتكون شقته الجديدة مدفوعة الإيجار (جرسونيرة) البك، الذي سيتردد عليه في يوم معين يعلمه محجوب و يغادر البيت فيه؟ ثم يقرر محجوب أن يسمع حديث الإخشيدي عن الزوجة الساقطة كما لو كان يتحدث عن درجة حرارة الجو في البرازيل!
ربما تلك قسوة لا مبرر لها أن يكون الموقف سافرا إلي ذلك الحد، يكفي أن يقبل العرض مموها وهو يعلم حقيقته «فلا ضرورة ليثير الواقع إثارة مبالغا فيها و يحمله أكثر مما يتحمل من بشاعة وقبح» (7)
سأظل ما حييت فقيرا إلي المال.
بعد تلك القسوة السوداء، يشعر المؤلف بأن السقوط إلي ذلك الدرك ليس له تبرير روائي كافي، مهما بلغ هزؤ محجوب بالمثل والقيم، فيعلل ذلك بأنه «غرم ثمنا باهظا وينبغي أن يكون الجزاء كالعمل» وأن أيام الفقر لن تعود مهما بلغ الثمن، ثم يذكر الأعباء التي تواجهه بها الحياة الجديدة كرغبته في اكتراء حجرة وتأثيثها، واقتطاع بضعة جنيهات من ماهيته لوالده، وغير هذه وتلك من وجوه الترف والإنفاق، فهاله الأمر.
بإضافة ذلك الجوع الأبدي للمال، فإن ذلك كله قد أضعف من أثر الفقر عليه.
فتحول البطل من موقف الضحية إلي موقف الجزار الذي نستريح أخلاقيا لما لقيه من جزاء. (8)
ثم يتكرر ذلك المأزق حين يحكم علي نوال بالتحول من النقيض إلي النقيض في دقائق معدودة من أجل المال والجاه، وشجعها والدها الذي تعامي عن سقوطها، ووصاها بعشيقها ولم يوصها بزوجها.
فلا نري ما جناه المجتمع علي الشخصيات في ظل ما فطرت عليه من استهتار بالقيم وميل إلي السقوط تضمره من البداية، فتسلك الطريق القصير لتحقيق غايتها ولا نأسف علي مصيرها الذي يحكم عليه المؤلف بالفشل -في جميع روايات المرحلة.
فهذه الوجوه شهدناها من قبل؛ وهذه الحوادث ليست غريبة علينا. نعم فيها شيء من القسوة السوداء في بعض المواقف، ولكنها في عمومها أليفة. تؤلمنا ولا ننكرها، وتؤذينا أحيانا، ولكننا نتقبلها. (9)
نهاية، ولكن..
يقر نجيب محفوظ بأنه يعرف جيدا العيوب الفنية في الرواية من حيث التكنيك، ذلك لأنه لم يهتم ببنية السرد بقدر اهتمامه بتقديم الشخصيات ووضعها في إطار يحددها منذ البداية. (10)
وهذا حق، لكنه لم يذكر مشكلات البناء اللغوي التي بدت واضحة وغير ملائمة لأسلوبه، فنشعر بأن هذه الرواية بعيدة عن الظاهرة اللغوية الفريدة التي شكلها نجيب محفوظ، وذلك لكثرة الأخطاء النحوية والصرفية منها، وكثرة استخدام كلمات أجنبية لها مرادفات عربية، وغيرها من المشكلات التي لم يقف عندها الكثير واهتم بها أوائل نقاد الكاتب مثل: سيد قطب، سهيل إدريس، أنور المعداوي.. وغيرهم.
وكسبب رئيسي في مآسي أبطاله في روايات ما قبل الثلاثية، يموت الأب معنويا بعجزه عن الكسب، كما الحال في خان الخليلي بسبب الإحالة علي المعاش.
وتأتي نهاية الرواية التي حكم الكاتب علي بطلها بالفشل بعبرة خفية، أن «طظ» لا تنفع صاحبها الفيلسوف شيئا. و ينتصر محفوظ للمباديء في النهاية، ولكنه يفعل ذلك دون أن يفتعل شعارات رنانة، أو يلقي خطبة منبرية ينهي فيها عن المنكر.
نرشح لك: قلب الليل: رواية نجيب محفوظ المظلومة!
المصادر : 1- سيد قطب: علي هامش النقد.. القاهرة الجديدة. 2- خالد عاشور: البحث عن زعبلاوي. 3- علي شلش: الطريق والصدى. 4- خان الخليلي، نجيب محفوظ. 5- رجاء النقاش، في حب نجيب محفوظ. 6- القاهرة الجديدة، نجيب محفوظ. 7- سهيل إدريس، القاهرة الجديدة. 8- رجاء النقاش، مرجع سابق. 9- سيد قطب، مرجع سابق. 10- حوار مع نجيب محفوظ، حسن رجب.