الفَيْض. قراءةٌ في كتابٍ تنبَّأ بـ وباء الكورونا.
الجزء الأول
في عام 2012 نشرت دار W.W.Norton & Company كتابًا علميًّا بعنوان spillover “الفيض”، وكما تعود قرَّاء الكاتب المرموق ديفيد كوامين David Quammen جاء الكتاب علميًّا بنكهة روائية، وتقبله القراء والنقاد قبولًا حسنًا أوصله إلى القائمة القصيرة للعديد من جوائز الصحافة العلمية الأمريكية، spillover هو رحلة استكشافية، ترصد تاريخ العلاقة المتشابكة بين الإنسان والحيوان، والتي يستغلها للأسف طرف ثالث، يضرب في غدرٍ ليصيب الإنسانَ في مقتل، طرفٌ ثالث يصنفه العلماء في صورة مجموعات متنوعة من الفيروسات والبكتيريا والأوليَّات الحيوانية التي لا تُرى بالعين المجردة، ناهيك عن تلك الديدان التي تمرح في أجسامِ مَن ساقَهُم حظُّهم السيئ لتناول جرعة ماء ملوثة، أو اخترقت اليرقات النَّهِمة جلودَهم وهم يمرحون في النهر في ظهيرة يوم قائظ.
مسيرة أسطورية منذ فجر التاريخ شقَّت خلالها تلك الوحوش الضئيلة طريقها من عائلها الحيواني نحو جسد إنساني لا تتوفر لديه مناعةٌ ضدَّها، ربما اصطاد أحدهم قردًا وتناوله طعامًا ظنَّه سائغًا مع عشيرته، أو ربما لدغته حشرة وهو يتقلب في فراشه، سيرورة سوداوية، تبلغ ذروتَها بين حين وآخر على صورة وباءٍ عالمي من قبيل ما يعاني منه البشر الآن من جائحة فيروس كورونا، وقد سبقها بالأمس القريب جائحة سارس وإنفلونزا الطيور وما زال فيروس الإيبولا يباغت الأفارقة ما بين الحين والحين، في حين توطن الإيدز بين بني البشر منذ فارق عائلَهُ الحيواني لعقود خلت. تلك الأمراض التي يطلق عليها العلماء Zoonosis أو الأمراض حيوانية المنشأ قتلت ما يزيد على 30 مليونَ شخصٍ منذ عام 1981.
عينُ المترجمِ ونبوءةُ المؤلف.
ما من مهتم بالثقافة العلمية في مصر، إلا وقد وقعت عيناه على كتاب أو أكثر تولى ترجمته الراحل الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي، الذي رحل عن عالمنا في الثالث عشر من أغسطس عام 2018 بعد رحلة ثرية في عالم الترجمة نال خلالها العديد من الجوائز وترك لقراء العربية جواهرَ خالدة لعل من أبرزها ترجماته لكتب ستيفن هوكينج “تاريخ موجز للزمن” و ” العالم في قشرة جوز”.ـ
ويبدو أن عين المترجم الخبير قد وقعت على كتاب spillover لديفيد كوامن فأخذ على عاتقه نقله للعربية وتولت سلسلة عالم المعرفة الكويتية نشر الترجمة تحت عنوان “الفيض -أمراض الحيوانات المعدية، وجائحة الوباء التالية بين البشر”
وفي تقديمه للكتاب يشيد المترجم الراحل بالأسلوب الرشيق لمؤلف الكتاب الذي يعرض القضايا العلمية الشائكة بأسلوب روائي مثير يجعل القارئ يلهث خلفه من فصل إلى آخر كما لو كان يتابع رواية بوليسية، كما يلفت نظر القراء إلى قلق العلماء من وباء مستقبلي قد ينتشر عالميًّا في ظرف ساعات، ولعل المقطع التالي من مُقدمة الكتاب يأتي برهانًا على صدق نبوءة الكاتب، لم لا وقد حدد فيروس كورونا بالاسم ليكون المسؤول عن الوباء العالمي.
جائحة الوباء التالي التي تهدد العالم قد تنبثق عن فيروس غير معروف ولكنه يكمن في عائلٍ خازنٍ متربصًا وجودَ الظروفِ اللازمة لانتشاره وانتقال العدوى للإنسان، مثال ذلك فيروس الكورونا (الإكليل) الذي سُمِّي بذلك لأنه يبدو تحت الميكروسكوب وقد أحاطت به نتوءات مستديرة بارزة كأنها تاج.
تسعُ حكايات مثيرة
جاء الكتاب الأصلي في جزء واحد من تسعة فصول في حين صدرت الترجمة العربية في جزئين صدرا على التوالي في أغسطس وسبتمبر من عام 2014، وعبر حوالي 700 صفحة، سجل الكاتب وقائع أسفار ومغامرات بوليسية امتدت لخمس سنوات في أرجاء العالم، منتقلًا من أدنى المعمورة إلي أقصاها عبر الطائرات والسيارات وحتى قوارب الكانو، مصاحبًا لعلماء وباحثين أخذوا على عاتقهم مهمة التنقيب عن الفيروسات الفتاكة والبكتيريا القاتلة والديدان المهلكة، عبر غابات أفريقيا، وكهوف ماليزيا المظلمة وأنهار بنجلاديش الفياضة، مرورًا بميادين سباق الخيل في أستراليا، ومزارع الحيوانات البرية في الصين وانتهاءً بأسواق الطيور المزدحمة في هونج كونج ومزارع الماشية الشاسعة في هولندا، مطاردات مثيرة، نخرج من خلاها بيقين حاسم “الإنسان بتدخله السافر وتدميره للأنظمة البيئية حول العالم قد أعاد من جديد فتح صندوق باندورا الأسطوري”
وها هي الكائنات الممرضة قد انفلتت من عقالها لتصرع بني البشر في تسع حكايات بائسات، ولعل حكاية كورونا التي نعيش وقائعها المرعبة الآن والتي تنبأ بها الكتاب -وإن لم يخصص لها فصلًا- هي العاشرة، وربما لن تكون الأخيرة، طالما ظل الإنسان سادرًا في غيه متجاهلًا لحكمة الطبيعة ومقتضيات السلامة.
الحكاية الأولي: حصان شاحب
البداية مع فيروس لا يبدو خطيرًا وما زال مدى انتشاره الجغرافي محليًّا ضيقًا يقتصر على مقاطعة أسترالية نائية، لكن المثير في أمر فيروس هندرا الذي أصاب الخيل، ثم انبثق إلي البشر المخالطين في بريزبن الأسترالية هو الغموض الذي أحاط بظهوره وقتها وإن كان الوضع قد تحسن فيما بعد على الأقل بالنسبة لعلماء الأمراض الأستراليين وقد تابع الكاتب جهودهم في تعقب الفيروس في أجسام الخفافيش الأسترالية.
ومع ذلك يتبقي الكثير من الأسئلة المحيِّرة التي طرحها الكاتب في مقابلاته مع شهود الحدث والباحثين المتخصصين ولم يجد لها جوابًا، كيف أصاب فيروس هندرا الخيول؟ وكيف اتخذ طريقه بعدها إلي من خالطها من البشر؟ كيف قتل الفيروس أشخاصًا ونجا منه آخرون خالطوا الخيل المصابة؟ هل الخفافيش هي مخزن الفيروسات وكيف لم ينتقل منها الفيروس مباشرة للبشر؟ وهل انتظر الفيروس قدوم الخيل إلى أستراليا مع الفتوحات الأوروبية لتكون بمثابة ما أطلق عليه العلماء ” العائل المضخم” أو ” الكائن الوسيط” بين الخفاش “خازن الفيروس” والإنسان الضحية؟
ربما كانت حكاية فيروس هندرا التي يعرفها الكاتب بأنها كانت لحظة “فيض” انتقل خلالها الفيروس عبر الأنواع، لحظة سوف تتكرر كثيرًا طالما استمر البشر في ضغطهم على الأنظمة الإيكولوجية لقد اقترب البشر كثيرًا من موائل الحيوانات البرية كما قربتهم وسائل المواصلات الحديثة من بعضهم البعض، أصبح العالم قرية واحدة لكنها قرية ظالمة دمرت علاقات إيكولوجية بين كائنات بعضها ممرض وخطير حرمناه من عائل طبيعي فاتخذ من أجساد البشر موئلًا جديدًا.
فمن بين 1407 من أنواع الجراثيم الممرضة للبشر وجدت دراسة أجريت في جامعة إدنبرة أن أكثر من نصفها هي جراثيم مشتركة بين الحيوانات والبشر ولحسن الحظ فإن 177 منها فقط هي التي انبثقت من الحيوانات إلى البشر، في حين أشار بحث لفريق من علماء جمعية الحيوان بلندن ونشرته دورية نيتشر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع أحداث الأمراض المنبثقة جاء عبر جراثيم لها أصل في الحياة البرية، إذن لقد وضحت الصورة.
الأمراض الحيوانية المشتركة من الحياة البريَّة تمثل أكبرَ تهديدٍ متنامٍ للصحة في كوكبنا
الحكاية الثانية: ثلاث عشرة غوريلا
شهور قليلة تفصل بين أحداث حكايتنا الأولي ووقائع قصتنا التالية التي شهدتها قرية مايبوت في أفريقيا الوسطى، في أوائل فبراير 1996، ثمانية عشر قرويًّا شاركوا في تناول شمبانزي عثروا عليه ميتا في الغابة وجبة مشؤومة كانت بمثابة العشاء الأخير لبعضهم، فعلي الفور سقط جميع من التهموا القرد المشئوم في براثن مرض فتاك استدعى نقلهم إلى مستشفى محلي، لقي فيه أربعة منهم حتفهم ولدي إعادة جثثهم إلى القرية لدفنها حسب الطقوس المحلية، حانت لحظة الفيض ليقفزَ الفيروس إلي أجسام أفراد القبيلة ليصيب واحدًا وثلاثين فردًا، مات منهم واحد وعشرون، والفاعل فيروس خيطي لم يكن البشر أول ضحاياه بل بدأ بالقرود والغوريلا في الغابة المجاورة، وكما جاء في شهادة أحد الناجين التي رواها للكاتب “لقد رأيتهم صرعي علي أرض الغابة” لقد أحصى الشاهد جثثًا متراصةً لثلاث عشرة غوريلا.
وفي ثنايا القصة يروي لنا الكاتب كيف صاحبَ عددًا من الباحثين في جولاتهم خلال غابات إفريقيا الوسطى، بحثًا عن الفيروس الذي أصابت ضربته المزدوجة عام 1976 القرويين في زائير وجنوب السودان، بفاصل مكاني يتجاوز الثلاثمائة ميل وفي وقت واحد تقريبًا، وبلغت نسبة الوفاة بين ضحاياه 88% الذين سقطوا بفعل فيروس يهاجم جهاز المناعة ويوقف إنتاج هرمون الإنترفيرون، ليصبح الجسم مستباحًا أمام بكتيريا توجد طبيعيًّا في الجسم وها هي تجد الفرصة مواتيةً لترتع خلالَه وتدمرَ أحشاءه.
أين يختبئ الفيروس ما بين كل ضربة وأخرى؟ وما سر العلاقة الغامضة بين فيروس الإيبولا والغوريلا؟ وهل هو نوع واحد من الفيروسات أم أكثر انبثقت من عوائلها لتضرب ست دول إفريقية؟ وما قصة الفيروس الشبيه بـ إيبولا الذي أثار الرعب في أمريكا عام 1989؟ وهل كانت للفيروس ضحايا خارج القارة السوداء؟
ويبقي سؤال: كيف لم يستقر العلماء على نموذج واحد يفسر الفورات المفاجئة للفيروس؟ كما وأنهم ما زالو مختلفين حول دور الخفافيش في سلسلة نقل الفيروس وهل يظل خفاش الفاكهة هو ” العائل الخازن” للفيروس أم إن هناك عوائل أخرى لم تكتشف بعد، كل هذا وأكثر تجده عزيزي القارئ في ثنايا الثمانين صفحة التي استغرقت وقائع أطول فصول الكتاب، والتي سوف تقضيها ما بين أحراش أفريقيا ومعامل أوروبا وروسيا وأمريكا، تستمع لقصص شتى حول من قضوا نحبهم، ومن كتب لهم عمر جديد بعد أن غزا الفيروس أجسامهم.
ولعله من المناسب قبل أن ننتقل إلي الحكاية التالية، أن نشاهد David Quammen وهو يقصُّ علينا حكاية الثلاث عشرة غوريلا في محاضرته عبر منصة TED
الحكاية الثالثة: كل شيء يأتي من مكانٍ ما
حكايتنا الثالثة تتعلق بمرض الملاريا وهل ينتمي فعلا للأمراض الحيوانية المشتركة؟ الواقع أن إجابة السؤال تكمن في تعريف “العائل الخازن”، في حالة الملاريا لا تعتبر البعوضة عائلًا خازنًا فهي تستهدف دومًا ضحاياها، والعائل الخازن في الأمراض الحيوانية المشتركة لا يفعل ذلك.
ورغم أن العلماء يعدون طفيليات الملاريا كائنات متخصصة لا تنتقل بين الحيوانات المختلفة ناهيك عن احتمال انتقالها من الحيوانات إلى البشر، لكن نهاية الفصل تطرح تساؤلًا غامضًا حول طفيل ملاريا غريب يصيب كلًا من البشر وقرود الماكاك في شرق آسيا.
تتناول حكايتنا حول الملاريا ذكريات الحرب الفاشلة التي شنها البشر علي البعوض باستخدام مبيد D.D.T الشهير، وتزيح الستار حول دور النماذج الرياضية في تفسير الظهور المفاجئ للأوبئة ثم انحسارها، من خلال قصة مجموعة من الباحثين الأسكتلنديين أولهم هو الطبيب الإنجليزي روس الذي نال جائزة نوبل في الطب عام 1902، لدى كشفه عن دورة حياة الملاريا، لكنه أيضًا نشر ورقة بحثية في عام 1916 أكد خلاها أن انحسار الوباء يحدث حين ينخفض عدد الأفراد القابلين للإصابة بالمرض بين السكان إلي عتبة معينة، وتلاه بعد ذلك باحثون أخر أسهب الكاتب في ذكر إسهاماتهم.
ومن خلال شرحِهِ دورةَ حياةِ الملاريا يطرحُ المؤلفُ أيضًا تساؤلًا تطوريا أثارته الدراسات حول كائن “البلازموديوم” المسبِّب للملاريا ومدى التقارب بين فصائله التي تصيب الإنسان والحيوان وهل قفز الطفيل من الحيوان إلى الإنسان في الأزمنة الغابرة ثم تحورت النسخة البشرية بعد ذلك.
وهنا يتوقف بنا قطار الحكايات عند المحطة الثالثة، وباذن الله نلتقي في الجزء الثاني من المقال لنستكمل المزيد من الحكايات المثيرة حول الإنسان والحيوان وأمراضها المشتركة.
في المقال القادم
الحكاية الرابعة: وجبة عشاء في مزرعة الجرذان.
الحكاية الخامسة: الأيل والببغاء والصبي في البيت المجاور.