الفضيلة ما بين الفلسفة اليونانية والرأسمالية الحديثة
لم تكن كلمة الفضيلة مجرد كلمة يمر عليها القارئ أو حتى رؤية ضيقة؛ بل إن العصر اليوناني قد انصب فيه بحث الفلاسفة عن مفهوم الفضيلة، فكان من أبرز الأعلام الفلسفية التي انصب اهتمامها على مفهوم الفضيلة أفلاطون وأرسطو، فلم يضع أفلاطون جمهوريته إلا وقد وضع لها أسس متينة؛ فقامت جمهوريته على اعتبار أن النفس البشرية تُقسم إلى ثلاثة نفوس: وهي النفس الشهوانية وفضيلتها العفة، والنفس الغضبية وفضيلتها الشجاعة، والنفس العاقلة وفضيلتها الحكمة.1
وقد سبق لأفلاطون أن قام بشبيهها، كما جاء في أسطورة العربة والأحصنة. أما ما ترمز إليه فهو أن الجوادين أحدهما أصيل، ويرمز إلى القوى الغضبية؛ وأما الآخر غير الأصيل فيرمز إلى القوى الشهوانية،2 والحوذي أو قائدها الذي يُسيّرها ويقودها هو النفس العاقلة، وبتحقيق التوازن بين تلك النفوس أو القوى يتحقق مفهوم العدالة. كما أن العدالة من أسمى الفضائل؛ فبها تلتزم كل نفس أو قوة بتأدية واجبها على أكمل وجه، ودون التعدي على وظائف إحدى النفوس الأخرى.
انعكست فلسفة أفلاطون على رؤيته السياسية؛ فلتحقيق الخير ولاجتماع الأفراد في الدولة، قام بتقسيم الدولة وفق تراتبية هرمية؛ طبقة العمال والصناع والحرفيين، ثم طبقة الحراس والجنود، وفي قمة الهرم طبقة الفلاسفة، وهي الطبقة الحاكمة. فلقد أكد أفلاطون على ضرورة أن يكون الحكام فلاسفة وأن يتفلسف الحكام، وليس بغريب على فيلسوف مثل أفلاطون أن يمجد العقل إلى هذا الحد، فلقد تمتعت أثينا بمناخ جيد من حرية الفكر وكان ابن طبقة برجوازية.
تميزت أثينا بأن العبيد هم فقط من كانوا يعملون ويبذلون جهدًا عضليًّا، أما الفلاسفة والمفكرين فيترفعون عن كل هذا، ويتفرغون للتأمل والتفكير الخالص. فقد كان أفلاطون يرفض الإجابة عن سؤال “ما الغاية من الفلسفة؟”؛ لأنه كان يرى فيه حط من منزلة الفلسفة، وإنزالها منزلة الوسيلة لتحصيل غاية أو إصابة هدف. أما أرسطو فقد كان طبيبًا وعالمًا في البيولوجيا والمنطق، وكان مفهوم أرسطو للفضيلة أنها ملكة اختيار الوسط الشخصي الذي يُعينه العقل بالحكمة. فتحدث أرسطو وأسهب في شروحاته للوسط الذهبي،3 وكان للمعرفة عنده شكلان، وهما: المعرفة العلمية scientific knowledge والذكاء العمليPractical intelligence 4، وانعكست على مفهومه للفضيلة؛ فكانت الفضيلة بالنسبة له فكرية بالإضافة إلى الممارسة والتمرن، أي أن نجعلها على شكل عادات مستمرة. فالفضيلة يتم تعلمها كما نتعلم الفنون، فليس ثمة فضيلة إلا إذا صيَّرناها عادة مستمرة،5 حتى أن أرسطو قد جعل من السياسة علمًا عمليًّا، فشبه السياسي بالحرفي.
وفي حديثه عن الفضائل، اعتبر أنَّ الدولة هي بمثابة تحقيق لسعادة الأفراد. فيقول في كتابه السياسة: “كل دولة هي اجتماع، وكل اجتماع لا يتألف إلا لخير ما دام الناس، أيًّا كانوا، لا يعملون شيئًا أبدًا إلا وهم يقصدون إلى ما يظهر لهم أنه خير. فبيّن أن كل الاجتماعات ترمي إلى خير من نوعٍ ما، وأن أهم الخيرات كلها يجب أن يكون موضوع كل الاجتماعات ويشملها، وهو الذي يسمى بالدولة أو الاجتماع السياسي”، 6 هكذا كانت الفضيلة في الفلسفة اليونانية، على اعتبار أن أفلاطون وأرسطو هما من أشهر النماذج التي قدمت منظومات فلسفية متكاملة في فهمها للمعرفة، والفضيلة، والوجود، والنفس البشرية، وانعكاساتها على المجتمع. سواءً اتفقنا أم اختلفنا مع مثالية أفلاطون وطوباويته، وحتى ميتافيزيقا أرسطو، وهو الذي لم يستطع التخلص من مثالية أستاذه أفلاطون- ليس هذا مرماي؛ بل ما بغيت إيضاحهُ والتعويل عليه هو القيمة والقدر الذي أُعطي لفضيلة الفكر بحد ذاتها، أي كونها غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق مراد.
على اعتبار أن الإنسان حيوان عاقل، أو أن العقل ومَلكة التأمل والتفكير هي ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية- هو من أشهر التعريفات للإنسان. ولا يزال مفهوم العقل مسيطر إلى حد كبير، مع أنَّه قد تم ضربه وتعرض لهجوم شرس على يد فلاسفة عمالقة من أمثال نيتشه، لكنه لا يزال متداولًا على ألسنة الكثيرين.
والمضحك في الموضوع أن الكثير ممن يُعرّف الإنسان بالحيوان العاقل لا يُعطي أهمية للاشتغال أو الإنتاج في الحقل الفلسفي والفكري، وهذا ما يقودنا إلى الفكر الرأسمالي الحديث، وامتداداته المعاصرة، والتأمل في الفلسفات العملية. فإن هذا التعريف يتراجع باعتبارها أعطت القيمة الكبرى لما ينتجه الإنسان وما يعمل؛ فلا يوجد فضيلة لذاتها، وإنما هي فضيلة قياسًا لما تنتجه وما تعود علينا به من منافع، حتى أن جيرمي بنتام، وهو من أشهر رواد مذهب المنفعة، نادى بوضع جدول لحساب المنافع7 أو اللذات، وتلاه جون ستيوارت مل، فتبنى فكرة المنفعة مع بعض الفروقات. لا تزال أفكار بنتام ذات صدى كبير في واقعنا ومجتمعاتنا، ففي عالمنا المعاصر تتقدم أهمية العمل بكثير على أهمية الفكر.
لكن لو تأملنا قليلًا، هل من الممكن اختزال قيمة الفكر واقتصارها فقط على ما تنتجه من منافع ولذائذ؟! وهذا يقودنا إلى سؤال آخر، وهو أنه لو أردنا استعراض كل الفلسفات وكل ما أنتجه العقل البشري على مر الحِقب، هل هذا يعني أن نجعل المعيار لتقييم هذا الإنتاج هو المنافع؟!
أنا أرى أن الفكر اليوناني الذي كان يعتبر أن المعرفة فضيلة وأن الجهل رذيلة يحتاج إلى إعادة نظر في ظل الوقت الراهن، أو أنَّ واقعنا هو ما يحتاج إلى إعادة نظر!
قد يعجبك أيضًا: مدرسة أثينا: قراءة في كتاب “الفلسفة من أجل الحياة”
قائمة المراجع 1) كتاب جمهورية أفلاطون، دار الفكر العربي 2010، صفحة 83. 2) راجع كتاب تأويل الأسطورة في كتابات أفلاطون، مها عيسى العبد الله، صفحة 277-278. 3) راجع كتاب نيقوماخوس: الأخلاق لأرسطو، لجنة التأليف والترجمة للنشر، سنة 1924، جزء 1، باب 8. 4) انظر كتاب التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني، ديللو، مكتبة الإسكندرية 2000، صفحة 94. 5) راجع كتاب نيقوماخوس: الأخلاق لأرسطو، لجنة التأليف والترجمة للنشر سنة 1924، جزء1، صفحة 225. 6) كتاب السياسة، أرسطو، ترجمة أحمد لطفي السيد، دار الجمل، طبعة أولى 2009، صفحة 95-96. 7) للتوضيح أكثر انظر كتاب مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، توفيق الطويل، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، طبعة أولى سنة 1953، صفحة 104.