الأصول الإغريقيَّة لنظريَّة الفصل بين السلطات: مقالة في فكر بوليبوس (مترجم)
يعتد الأكاديميون الأمريكيون بكَوْن الفصل بين السلطات يُعَدّ إحدى سمات الحكومة الأمريكيَّة، وبشكلٍ عام يُعَدّ الفَصْل بين السُّلْطة التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة مُمَارَسة شائعة في العديد من البلدان الغربيَّة. وهنا يظهر لنا سؤال أساسيّ، مفاده: ما هي جذور الفَصْل بين السُّلُطات؟ أن هذه الفِكْرة لم تنبع من عصر التنوير أو الفِكْر الحديث بشكلٍ كليٍّ، بل على العكس ظهرت في الفِكْر الإغريقيّ، تحديدًا لدى المُفَكِّر اليونانيّ “بوليبوس-Polybius” في القَرْن الثاني قبل الميلاد.
أولًا: حياة بوليبوس:
وُلِدَ المُفَكِّر “بوليبوس-Polybius” في القَرْن الثاني قبل الميلاد في إقليم “أركاديا-Arcadia” الواقع في منطقة “بيلوبونيز-Peloponnes”، والده “لوكريتوس-Lycortas”، كان سياسيًّا وجزءًا من اتِّحاد “الآخيين -Achaean league”، وهي مُنَظَّمة اتِّحاديَّة تعمل على حماية استقلال المناطق المحليَّة من خلال العمل الجماعيّ. اتَّبع بوليبوس خُطَى والده وأصبح سياسيًّا وفارسًا في الاتِّحاد ذاته. كان الهدف من عمله السياسيّ هو حفظ استقلال الاتِّحاد بالتعاون مع الرومان.
في الواقع كان الاتِّحاد مُتعَاونصا في البداية مع الرُّومان من أجل مُعَارَضة المملكة المقدونيَّة، وحينما شَرَعَ الاتِّحاد في التعاون مع الرُّومان، أخذ الرُّومان عددًا كبيرًا من الرَّهائن، وذلك لضمان عدم انقلاب اليونانيين ضِدَّهم، ولم يُسْمَح لهم بالعودة إلى ديارهم إلا بعد مرور سبعة عشر عامًا عليهم في الأَسْر، إذ قرَّر الرومانيون مُعَاقَبتهم ما أن يشرع اليونانيون بخيانتهم.
ويُذْكر أن بوليبوس كان بين الرَّهائن الذين نُقِلوا إلى روما، ولكن على العكس من رفاقه عُومِلَ بشكلٍ جيدٍ من قِبَل مُضيفَه “اميليوس باولس- Aemilius Paulus”، إذ كان قد التقيا في إحدى الحملات وصارا صديقين. ونتيجة لذلك لم يَخض بوليبوس ظروف الحياة التَّعِسَة فحسب، بل تمكَّن من أن يصل إلى النُّخَب الرومانيَّة، وكرَّس حينها معظم وقته في دراسة الدستور الرومانيّ.
ثانيًا: توسُّع الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة وقيام روما:
وحينما كان بوليبوس يؤلِّف كُتُبه، توسَّعت روما من مدينةٍ صغيرةٍ إلى قوى عظمى في العَالَم القديم، وذلك على الرَّغْم من أن لروما عيوبًا عِدَّة، ومن بينها أنها منطقة داخليَّة ومُنْقَطِعة عن طُرُق التجارة، ولم تكن أرضًا صالحة للزارعة، ومُحَاطة بالأعداء. كان الرومانيون يعملون بالزراعة، وكانوا يَكِدّون ويُرْهِقون أنفسهم بعملهم من أجل الحفاظ على أنفسهم. كان الحُكَماء التَّقليديُّون يتنبَّأون ألا تدوم حُرِّيَّة الشَّعب الرُّومانيّ، بل كانوا يتوقَّعون الهَيْمَنة عليهم من أعدائهم نتيجة لشُحّ مواردهم. ولكن وعلى العكس من التوقُّعات زادت قوَّة روما، وتمكَّنت من التغلُّب على أعدائها في الداخل وتوسَّعت في البحر المتوسط. وفُوجئ العديد حينها، فلم يتمكَّنوا من فَهْم كيف لحضارةٍ زراعيَّةٍ ومتقشِّفة أن تُهيمِن على البحر المتوسط بشكلٍ لم يشهد التاريخ له مثيلًا. سعى بوليبوس للإجابة عن ذلك في كتابه: “التاريخ- The Histories”. في الواقع ظن بوليبوس أن دستور روما كان فعَّالًا لسببين، الأوَّل: أنه كان يلائم الطبيعة الإنسانيَّة. وثانيًا: حمى روما من دورة النشوء والانحطاط التاريخيّ، التي هي نظريَّة في الفَلْسَفة السياسيَّة.
ثالثًا: طبيعة الإنسان (المصلحة والخَوْف):
كان الفلاسفة السياسيّون في العصر الكلاسيكيّ يعتقدون أن الفَلْسَفة السياسيَّة مُقيَّدةٌ بطبيعة الإنسان، وبالتالي فيتوجَّب على أي فَلْسَفةٍ سياسيَّةٍ أن تدرس طبيعة الإنسان وصفاته. في البداية كان بوليبوس يعتقد أن البَشَر مُتَحِدون نتيجة لخَوْفهم وضعفهم، وكما كان بوليبوس يؤكِّد أنه: “يتوقَّف الإنسان عن كَوْنه حيوانًا حينما يستخدم عقله”، وكما يرى أن الشَّخص الذي يستطيع أن يصبح سياسيًّا هو من تكون لديه القُدْرة على قيادة سرب الخرفان أو الطيور. ويرى بوليبوس أن البَشَر لن يصبحوا أفضل حالًا ما لم يستخدموا عقلهم. ووَفْقًا لبوليبوس “حينما يرى الإنسان رفيقه مُخْطِئًا”سيلاحظون ذلك وسيستاؤون مما يفعل، وسيسعون لتحاشي ما يحدث. “فلن يرضيهم ما حصل وسينزعجون بهذا السلوك، ويتخيَّلون أنفسهم بموقف رفيقهم المُتضرِّر”(¹)، ومن تصورهم وعاطفتهم سيتوَّلد لديهم شُعُور العدالة، “وبحِدَّة وقوَّة العقل، يتحوَّل الإنسان إلى ملكٍ”(²). إن رؤى بوليبوس عن أصول العدالة ستجد لها صدى في نظرية “آدم سميث” الأخلاقيَّة التي سطرها في “نظرية الإحساس الخلقيّ- The Theory of Moral Sentiments ³”. وَصَفَ بوليبوس الإنسان بكَوْنه كائنًّا عقلانيًّا باحثًا عن مصلحته(⁴)، وتتحكَّم بحياتنا عاطفتنا وخوفنا. وطالما يوجد الخَوْف سيتعاون الناس ويتعاطفون مع بعضهم البعض، وينشأ عن ذلك الاستقرار الاجتماعيّ، ولا تنشأ المشكلات إلا في حال ما إذا افتقر الناس للقُدْرة التصوريَّة على وضع أنفسهم محل غيرهم. ويتولَّد عن ذلك عدم كبح الأفراد لأنفسهم، وانهماكهم في البحث عن مصالحهم على حساب غيرهم.
رابعًا: دورة النُّشوء والانْحِطَاط في الحكومات:
يلحظ بوليبوس أن “كل الموجودات تخضع للانْحِطَاط والتغيير، وهي حقيقة لا تحتاج إلى إثباتٍ، إذ إن دورة الحياة الطبيعيَّة تفرض علينا صحة هذا المُعْتَقَد(⁵). إن هذه المُسلَّمة يمكن أن تنطبق على الأنظمة السياسيَّة، ولكن لم تكن هذه الفِكْرة جديدة في الفِكْر الإغريقيّ. إذ اعتقد “أرسطو-Aristotle” بنظريَّة دورة النُّشوء والانْحِطَاط في الحكومات، إذ ينشأ النظام نقيًّا، ولكن سرعان ما ينحط إلى صورةٍ مُلوَّثة(⁶). وبوليبوس كبقيَّة المُفَكِّرين الرُّومان، آمن بفِكْرة دورة التاريخ، كما آمن بوجود ثلاثة أشكال للحكومات، الملكيَّة (حُكْم الفرد الواحد)، والأرِستقراطيَّة (حُكْم القِلَّة)، والديموقراطيَّة (حكومة الأغلبيَّة)، ولم يكن هذا التصنيف حديثًا بل يعود جذوره “لِمَا وُرِدَ في كتابات هيرودتس -Herodotus في القرن الخامس قبل الميلاد”(7).
إذ إن بوليبوس يعتقد أن الإنسان مثل بقيَّة الحيوانات، يعيش في قطعانٍ من أجل الحماية المُشتَرَكة(⁸). وبالنَّظر إلى طبيعة القطعان، فمن الضروريّ أن يمسك زمام الأمور رجلًا لديه القوَّة البدنيَّة والشَّجاعة لقيادة وحُكْم البقيَّة(⁹)، وبهذا تبدأ دورة الحُكْم بحاكم ٍواحدٍ، أي نظام الحُكْم المَلَكيّ.
خامسًا: من الموناركيَّة لحُكْم الطُّغْيَان:
يرى بوليبوس أن الحَاكِم الأوَّل سيكون رجلًا شريفًا وجديرًا بحق بالحُكْم نظرًا لحسه القوي بالعدالة، وسيحترم الناس حكمه حتى وإن خارت قواه في أرذل العمر(¹⁰)، ولكن لن تستمر حالة السِّلم. فحينما يشيخ الملك، سيكون من الضروريّ أن يختار خليفةً له ليرث حكمه، ولأن الملك الأوَّل سيعيش حياة المَشَقَّة والكَدْح، سيكون رمزًا للكَدْح ويكون حاكمًا لسواسية. ويرى بوليبوس أن الحُكَّام الأوائل سيكونون “غير مشوبين، لا بالغيرة ولا روح الظلم، ولن يتميَّزوا عما سواهم لا بالملبس ولا بالمأكل، ولن يعيشوا حياتهم بعيدًا عن الناس، بل سيعيشون كما يعيش أغلب الناس(¹¹). ولكن ما أن يَمُت، لن يتَّسم خليفته بسماته الفاضلة، وذلك لأنه سينشأ في حياة الرفاهيَّة والامتيازات، ولهذا سيتصرَّف وكأنما هو أسمى من رعاياه. ولن يرضى الناس عن ذوقه لأنه سيكون مسرفًا ومسيئًا للرعايا، ولافتقاره للفضيلة سيكون طاغية.
سادسًا: من الأرِستقراطيَّة إلى الأولغارشيَّة:
بيد أن أفضل الرِّجال لن يطيقوا حياة الذُّل والظلم، سيثورون ضِدّ الطَّاغِيَة. ولن يكون لدى الثُّوَّار رغبة في اغتصاب السُّلْطة لذواتهم، وذلك “لأنهم نبلاء وذوو أرواحٍ طيبةٍ وشجعان، وهم من سيحطمون آنفة الأمراء”(¹²)، وحينما سيحكمون، ستسود روح التناغم مجددًا، “لأن هؤلاء النبلاء لن يسعوا إلا لتحقيق الصَّالِح العام، وسيديرون الحياة العامة والخاصة بعنايةٍ أبويَّة”(¹³).
غير أنه ستثور مشكلة الخلافة مجددًا، تلك المشكلة القبيحة. فلن ينشأ الفتية فضلاء كآبائهم. بل” لن تكون لديهم تجربة في حياة الضَّنْك ولن يدركوا المساواة المدنيَّة وحُرِّيَّة التَّعبير، ولأنهم نشأوا في أحضان المناصب العليا والقوَّة التي جلبها آباؤهم”، فسينغمس هؤلاء الصِبيَة في الجَشَع والشَّبَق والإسْرَاف(¹⁴)، ولن يلقوا ألا مصير الطُّغَاة.
سابعًا: من الديموقراطيَّة إلى الغوغائيَّة:
وهكذا فإن الناس سيفقدون الأمل في الموناركيَّة والأرِستقراطيَّة، وذلك لأن كلًا منهما أنظمة غير موثوقٍ بها، ومن ثَمَّ سينشأ نظامٌ جديدٌ يقوم على حُكْم الكثرة أو الديموقراطيَّة. وكحال أغلب الأنظمة السياسيَّة ستحظى الديموقراطيَّة بلحظة المجد، وسيحمي الآباء المؤسِّسون للديموقراطيَّة المساواة وحُرِّيَّة التَّعبير. وكالعادة سيولد جيلٌ جديدٌ يترعرع على المساواة، وسيفضي عن ذلك -وخاصة في الطبقة الغنية- بأنهم لن ينظروا إلى المساواة كفضيلة قيمة، بل سيسعى الأفراد للتفوُّق. ويرى بولبيوس بأنه” سيتولَّد لدى الجميع جشعٌ للسُّلْطة، ولن يستطيعوا الوصول لها بأنفسهم، أو بسماتهم، لهذا سيلجأون إلى الإضرار بأموال الناس وإفسادهم بكل طريقةٍ مُمْكِنَةٍ(¹⁵). وسينْحَطّ النظام السياسيّ إلى العُنْف والأناركيَّة، وسيتآلف الجَشِعون بينهم و”يذبحون وينهبون ويغنمون إلى أن ينحطوا إلى حالة الهمجيَّة، وحينها سينقسمون إلى ملكٍ وسيدٍ(¹⁶).
وعليه يرى بوليبوس أنه توجد مشكلة في دورة النُّشوء والانْحِطَاط، بأنها تفتقر إلى الاستمراريَّة من جيلٍ إلى جيلٍ آخر. فستَنْحَطّ عدالة المَلِك إلى طُغيان، وعدالة الأرِستقراطيَّة إلى أوليغارشيَّة، ومساواة الديموقراطيَّة ستَنْحَطّ إلى حُكْم الغوغاء، ويتولَّد عن الانْحِطَاط الأخير الأناركيَّة. وبهذا تعود الدورة إلى أولها، وهنا يُثَار السؤال: كيف يمكن أن نجد حلًا للدورة المُزْرِيَة ولهذا”العود الأبديّ-the Eternal return”؟
ثامنًا: الحَلّ الإغريقيّ لدورة النُّشوء والانْحِطَاط:
بالتالي، فإن لكل نظام ٍمحاسنه ومساوئه. وبالاستعانة بمقاربة السفينة “لأفلاطون- Plato”، بيَّن بوليبوس أن حديد السفينة يمكن أن يتآكل، وخشبها يمكن أن ينهشه الدود أو الآفات(¹⁷). فنفس الشيء ينطبق على كل نظامٍ، فلكل نظامٍ مساوئٍ مرتبطة به ولا يمكن فصلها عنه(¹⁸).
ومما يجدر الإشارة إليه، أن نظرية النُّشوء والانْحِطَاط كانت شائعةً بين المُفَكِّرين الإغريقيين، واقترح لها المُفَكِّرون حلولًا عِدَّة(¹⁹). فاقترح أرسطو مزج وخلط الأنظمة السياسيَّة سوية(²⁰)، وبمزج أنواع الأنظمة السياسيَّة ستُلغى شرور كل نظامٍ(²¹).
وعلى هذا النحو سعى كل من أرسطو وأفلاطون إلى إلغاء الخلافات والنزاعات وتعزيز الوحدة والتناغم. كما أن فِكْرة الدستور المختلط بوصفه سبيلًا لخَلْق مجتمعٍ سلميٍّ، قد هيمنت على الفِكْر الإغريقيّ(²²)، لكن كان لبوليبوس رأيٌ آخر.
تاسعًا: حَلّ بوليبوس:
لم يرى بوليبوس أن الحَلّ يكمُن في خلق الوحدة، بل بحفظ الحُرِّيَّة من خلال الاستقرار. وتتجلَّى هذه الفِكْرة في ثنائه على الدستور الإسبارطيّ، بقوله: إن إسبارطة “استمتعت بحُرِّيَّةٍ دائمةٍ”(²³).
وفي الحقيقة رأى بوليبوس أن الدورات تميل دومًا نحو الطُّغيان الذي يضر بالحُرِّيَّة. ولهذا فإنه لا يمكن أن تُحْمَى الحُرِّيَّات من دون حماية الاستقرار وإيقاف دورة النُّشوء والانْحِطَاط. وهنا يطرح بوليبوس سؤالًا مهمًا وهو: كيف يمكن أن تُحْفَظ الحُرِّيَّات؟ يرى البعض أن الرُّومان أصبحوا عظماء بفضل قادتهم الذين كانت لديهم فضائل شخصيَّة ومدنيَّة، ويرى أنصار هذا الاتِّجاه أن التَّاريخ الرُّومانيّ زاخرٌ بالقادة الرُّومان الذين كانوا أمثولة في الشَّجاعة وتكريس النَّفس لخدمة المنصب، مثل “سينسيناتي- Cincinnatus”، الذي تخلَّى عن الحُكْم المُطْلَق وعاش حياة مُزَارِعٍ بسيطٍ(²⁴).
وبالرَّغم من هذا، فإن بوليبوس لم يرَ أن هذا سبب نجاح روما على الإطلاق، فهو لم يرَ أن الفضيلة هي سبب الاستقرار والحُرِّيَّة في المجتمع(²⁵) هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، لم يرَ في أثينا مثالًا لقهر دورة النُّشوء والانْحِطَاط، فكل لحظاتها العظيمة شُيِدَت بواسطة رجالٍ عظماء(²⁶)، وما أن فنى هؤلاء الرِّجال، انحطت أثينا لحالة العَوز والارتباك والانْحِطَاط(²⁷).
وكما أكَّد بوليبوس أن طبيعة الإنسان يمكن تطويعها، ولهذا فإن على النظريَّة السياسيَّة أن تتأسَّس على طبيعة الإنسان، لا العكس(²⁸). فعوضًا عن الإيمان الأعمى بالقادة الفضلاء الذين لا يُمْكِن أن نتحصَّل عليهم دومًا. يعتقد بوليبوس بضرورة الاعتماد على المؤسَّسات والقوانين لحفظ الحُرِّيَّة النظاميَّة. ولو كان البَشَر كائنات تبحث عن مصالحها ويدفعها كل من الخَوْف والعاطفة، فيجب أن يكون الحَلّ خَلْق خَوْف مؤسَّسي لغرض تعزيز روح العاطفة. وعوضًا عن السَّعي لإقصاء النِزَاعات الاجتماعيَّة. يقترح بوليبوس بأن الإنسان يجب أن يهدف للنزاعات المنتجة والبنَّاءة. ويُمْكِن أن يوظف كلًا من الخَوْف والنزاعات بواسطة خَلْق شكل حكم هجين بين الديموقراطيَّة والأرِستقراطيَّة والموناركيَّة.
ومع ذلك، رَفَضَ بوليبوس فِكْرة الدستور المُختَلَط في حركة راديكاليَّة أخرى بالنسبة إلى عصره، فلم يستخدم مصطلح الدستور المُخْتَلَط، بل استخدم مصطلحات مثل “المُرَكَّب” و”المُنَظَّم” و”المُتَزِّن”. فلم يكن النظام السياسيّ لديه مُخْتَلَطًا مثل طبخ المُعَجِّنات الذي يقوم على مزج مواد مختلفة بكيانٍ واحدٍ. بل على العكس، يقوم نظامه السياسيّ على عناصر مُنْفَصِلة ومُميَّزة ولكل منها دورها، وهي قائمة على الفصل بين السلطات، بوصفها عنصرًا لنجاح روما، التي يرى بوليبوس بأن لها هَيْمَنةً على العَالَم بأسره(²⁹).
عاشرًا: إبْدَاعات الحكومة الرُّومانيَّة:
حدَّد وعرَّف بوليبوس ثلاث مؤسَّسات رومانيَّة: القناصلة، مجلس الشُّيُوخ، والجمعيَّات العامة. تُمثَّل كل واحدةٍ منها نظام حُكْم مختلف. فتُمثِّل الموناركيَّة بقُنْصُلين، لكل قُنْصلٍ صلاحية إصدار أوامر للجنود، وكلا القُنْصلين يرأسان مجلس الشُّيُوخ والجمعيَّة العامة.
كما مثَّل نظام الحُكْم الأرِستقراطيّ مجلس الشُّيُوخ، وفي الواقع كان هذا المجلس استشاريًّا يشغله قاضيان بمنصبٍ دائمٍ طيلة الحياة. بشكلٍ نظريٍّ كان مجلس الشُّيُوخ جهازًا استشاريًّا، لكن في الواقع كانت له سُلْطة على أمورٍ عديدة متعلِّقة بالشؤون العامة. فكان مجلس الشُّيوخ يرأس المَحَاكِم، وله صلاحية في عوائد الضرائب، وكان المقرّ الرئيس للمناقشة حول الأمور السياسيَّة، وكان له صلاحية في الأمور التي تتعلَّق بالسياسة الخارجيَّة، ومن بينها الإعلان عن الحَرْب والتفاوض مع سفراء الدُّوَل الأخرى.
وفيما يخص شأن الديموقراطيَّة، فكانت مُمَثَّلة بالجمعيَّة العامة، التي كانت لديها وظيفة أساسيَّة تتمثَّل في التَّشريع، وتعيين القُضاة وتصديق أو رفض المُعَاهدات مع بقيَّة الدُّوَل. في الواقع، لم يكن بوليبوس يسعى لتأسيس نظام سياسيّ قائم على التناغم والوحدة، ولم يكن ينوي إلغاء النزاعات بل كان يسعى لجعلها مفيدة(³⁰)، بواسطة تأسيس السياسة على طبيعة الإنسان. وبدراسته للدستور الرومانيّ بيَّن بوليبوس، كيف يمكن أن تُوظَّف النزاعات، طالما لا يمكننا أن نتحاشاها بطريقةٍ يمكن أن تسهم بتحقيق الصالح العام. وَفْقًا لبوليبوس إن البَشَر كائنات تبحث عن مصالحها الذَّاتيَّة وتسعى لزيادة سُلْطتها، ولكنها تستجيب لمخاوفها.
بطبيعة الأمر يكون لكل جهازٍ في الحكومة وظيفة مستقلة ومنفصلة، وذلك بالنظر إلى طبيعة كل فرعٍ من فروع الحكومة. سيخشى كل فرعٍ من فروع الحكومة أن تزيد بقيَّة الفروع الأخرى من صلاحيَّاتها على حسابه. وبالتالي سيتولَّد عن هذه المخاوف نتيجة مفيدة، فكل فرعٍ من فروع الأجهزة الحكوميَّة، سيُنَازِع غيره من المؤسَّسات الحكوميَّة من أجل حماية صلاحيَّاته واختصاصه. ونتيجة لهذه المخاوف سيتولَّد الاستقرار في النظام السياسيّ. وكان الدستور الرُّومانيّ يُصعِّب من أن يُسَيطر فرد أو مجموعة من الأفراد على القوَّة ويحتكرها أو يحتكرونها لأنفسهم، وبالتالي سيدير كل فرعٍ من فروع الحكومة جزءًا من الوظائف الحكوميَّة ويكون مستقلًا عن غيره، ومن ثَمَّ لن يُهيمن أحدها على القوَّة في البلد. وبتقسيم القوَّة وإعطاء كل فرعٍ حكوميٍّ وظيفة، أسَّس النظام الرُّومانيّ “لفِكْرة الرقابة والتوازن- balances and checks” الذي حفظ الحُرِّيَّة النظاميَّة بمنع الحكومة من الهيمنة، وبتأسيس نظام لا تكون القوَّة فيه مركزيَّة لدى جهةٍ أو فرد.
الحادي عشر: أثر بوليبوس:
درس وأشار إلى أعمال بوليبوس العديد من المُفَكِّرين عبر التاريخ، من بينهم المُفَكِّر والسياسيّ الرُّومانيّ “شيشرون- Cicero”، مُفَكِّر عصر النهضة “نيكولو ميكافيللي– Nicólo Machiavelli”، والأهم من بينهم “شارل لوي دي سيكوندا- Secondat Charles-Louis de “، أو من يُعرَف باسم “مونتسيكيو-Montesquieu” بعمله المشهور باسم “روح الشرائع- The Spirit of Laws”، إذ اعتمد في عمله على تحليل كتاب التاريخ لبوليبوس. في الواقع إن كتاب روح الشرائع أشير إليه بواسطة الآباء المؤسِّسين للولايات المتحدَّة، الذين كانوا مُدرِكين لتأثير بوليبوس في مونتسيكيو. فهم لم يكونوا ناكرين لتأثير العصر الكلاسيكيّ في مونتسيكيو وخاصة أنهم كانوا مُنْهَمكين بدراسة العصر الكلاسيكيّ. فكان الرِّجال يدرسون بمنهجٍ مُشبَع بالأعمال الكلاسيكيَّة “لهوميروس-Homer”،”فيرجل- Virgil”،”بلوتارخ-Plutarch”، “شيشرون”، “سالوست-Sallust”، “ليفيوس-Livy”،”تاسيتس- Tacitus”،”هوراس-Horace”، وغيرهم(³¹). فكما بيَّن “نوح ويبستر- Noah Webster”: “إن عقول الفتية كانت تُقَاد لتاريخ روما وأثينا”(³²).
في الواقع كان الفتية يمتلكون معرفة في الفِكْر الكلاسيكيّ في أوائل حقبة الجمهوريَّة الأمريكيَّة. وكانت صورة روما تلهم الآباء المؤسِّسين، وكان الآباء المؤسِّسون مقتنعون بأن عظمة روما تنبع من تطبيقها لنظرية الفصل بين السلطات. ففي كتاب “جون آدمز- John Adams” “في الدفاع عن دستور حكومة الولايات المتحدة الأمريكية- A Defense of the Constitutions of Government of the United States of America”، اقتبس الأخير كتابات من بوليبوس في العديد من المرَّات، بل وضع فصلًا لنظريَّاته، وكتب آدمز:
“إن الدستور الرومانيّ خلق أفضل شعب وأفضل قوة وُجِدَت عبر التاريخ. ولكن لو وضعت كل صلاحيات القناصلة ومجلس الشُّيُوخ والشَّعب في جمعيَّةٍ واحدةٍ بشكلٍ جماعيٍّ أو تمثيليٍّ، هل يمكن لأي شخصٍ أن يعتقد أن الرُّومان كانوا ليبقوا أحرارًا أو عظماء؟”(³³).
وحينما ناقش “جيمس مادسون- James Madison ” نظرية الفصل بين السلطات اقتبس من بوليبوس عبارة: “لا توجد حقيقة سياسيَّة لها قيمة جوهريَّة”(³⁴)، وفي ورقةٍ كتبها بعُنْوَان: “الورقة الفدراليَّة رقم 65- Federalist 63” اقتبس من بوليبوس، وخصَّص الورقة المُسمَاة “الورقة الفدراليَّة رقم 47- 47 Federalist” لنظرية الفَصْل بين السُّلُطات. إن تأثير بوليبوس يُمكن أن نلحظه بمقولة مادسون: “إن تركيز القوى، التشريعيَّة، والتنفيذيَّة، والقضائيَّة، بيد شخص أو مجموعة أشخاص أو قلة من الأشخاص، سواء كانت وراثيَّة، أو تعيين ذاتيّ، أو انتخاب، ستكون بحد ذاتها طغيانًا”(³⁵).
في النهاية، فإن دراسة بوليبوس للدستور الرُّومانيّ كانت مهمةً لكثيرين، وأشاد بها العديد من المُفَكِّرين مثل ميكافيلي، وجيمس هيرنغتون- James Harrington، وألغرنون سيدني- Algernon Sidny، ومونتسيكو، وجون آدمز، وجيمس مادسون. إذ بيَّن بوليبوس أنه لا يمكن أن تُحمَى الحُرِّيَّة بالاستناد إلى الفضيلة، بل يجب أن تستند إلى مجموعةٍ من القوانين التي توزع السُّلُطات وتحدها من أجل حماية حُرِّيَّة الجمهوريَّة بوجه تأثير الزمن.
——————————————-
المصادر:
1.Polybius, The Histories..
2. Polybius, The Histories 6.6.
3. Christopher Berry, Social Theory and the Scottish Enlightenment (Edinburgh, 1997), pp. 162-163.
4. Benjamin Straumann, Crisis and Constitutionalism: Roman Political Thought from the Fall of the Republic to the Age of Revolution (Oxford, 2016), p. 154.
5. Polybius, The Histories 6.57.
6. Aristotle, Nicomachean Ethics 1120b.
7. Herodotus, The Histories 3.80-82.
8. Polybius, The Histories 6.5.
9. Polybius, The Histories 6.5.
10. Polybius, The Histories 6.6.
11. Polybius, The Histories 6.5.
12. Polybius, The Histories 6.7.
13. Polybius, The Histories 6.8.
14. Polybius, The Histories 6.8.
15. Polybius, The Histories 6.9.
16. Polybius, The Histories 6.9.
17. Plato, Republic (488a–489d).
18. Polybius, The Histories 6.10.
19. David E. Hahm, ‘The Mixed Constitution in Greek Thought’ in Ryan K. Balot, ed., A Companion to Greek and Roman Political Thought (New Jersey, 2009), pp. 178-199.
20. Jed Atkins, Roman Political Thought (Cambridge, 2018), p. 23.
21. David E. Hahm, ‘The Mixed Constitution in Greek Thought’ in Ryan K. Balot , ed., A Companion to Greek and Roman Political Thought (New Jersey, 2009), pp . 178-99.
22. Polybius, The Histories 6.48.
23. Livy, The History of Rome 3.29.
24. Benjamin Straumann, Crisis and Constitutionalism: Roman Political Thought from the Fall of the Republic to the Age of Revolution (Oxford, 2016), p. 157.
25. Ibid.
26. Jed Atkins, Roman Political Thought (Cambridge, 2018), p. 22.
27. Frank William Walbank ‘A Greek look at Rome: Polybius VI Revisited ’ in Polybius, Rome and the Hellenistic World: Essays and Reflections (Cambridge ,2002), p. 281.
28. Benjamin Straumann, Crisis and Constitutionalism: Roman Political Thought from the Fall of the Republic to the Age of Revolution (Oxford, 2016), pp. 156-58.
29. Polybius, The Histories 6.2.
30. Jed Atkins, Roman Political Thought (Cambridge, 2018), p. 24.
31. Bernard Bailyn, The Ideological Origins of the American Revolution (Harvard , 1967), p. 24.
32. Carl J. Richards, The Founders and the Classics: Greece, Rome, and the American Enlightenment (Harvard, 1995), p. 13.
33. John Adams, A Defence of the Constitutions of Government of the United States of America, Vol.1 XXX.
34. The Federalist Papers, No. 47.
35. Ibid.
تدقيق لغوي: أمل فاخر