الفردانية الليبرالية والانحلال الثقافي (مترجم)

يحمل موضوعنا أسماء مختلفة، لذا فمصطلح “الفردانية الليبرالية” اسم جيد، مثل غيره من الأسماء، ونظرية الفردانية الليبرالية نظرية سَلِسَة للغاية، مفادها أن الحقيقة الأساسية للوجود هي “أنا أكون”، لذا فإن “الأنا” هي الوحدة الأساسية للأخلاق، متجاوزةً  أي مزاعم اجتماعية أخرى. هذه “الأنا” تسعى قبل كل شيء إلى تحصيل اللذة وتجنب الألم، وفي سياق الفردانية الليبرالية، لا يُنظَر إلى الإرشادات الأخلاقية والثقافية الأخرى التي تضع معايير طموحة تتجاوز اللذة والألم البسيطين، إلا بوصفها قيودًا لحرية “الأنا“.

ومع ذلك، ونظرًا لأن الفردانية الليبرالية تتخذ معانٍ مختلفة، فيمكن للتسميات أن تكون مُضلِلة، ففي الولايات المتحدة الأميركية يميل الأشخاص الذين يعيشون بفردانية ليبرالية إلى التعريف عن أنفسهم باعتبارهم “محافظين”، وما يحفظونه هو ليبرالية القرن التاسع عشر، وكاهنتهم هي آين راند المعروفة بقلبها للأنظمة الأخلاقية التقليدية، من خلال كتابها الذي يحمل عنوان “فضيلة الأنانية” (1964).

هل هنالك علامات تدل على أن الفردانية الليبرالية قد احتلت الصدارة، وأزاحت الأخلاقيات القديمة منها؟ الجواب هو نعم، ونُقدِّم ثلاثة مؤشرات بارزة لذلك، وهي مؤشرات قُدِّمت إلينا من الولايات المتحدة، ولكن نأمل أن تلقى صدى عند الناس في أجزاء أخرى من العالم.

النموذج الأول: في كتاب A View From Above (1991)- كتاب ذكريات نجم كرة السَّلَّة ويلت تشامبرلين وملاحظاته – أمست مقولة تشامبرلين، بأنه مارَس الجنس مع أكثر من عشرين ألف امرأةٍ، قولًا مأثورًا، وحتى إن اعتبارنا أن الرقم مُبالغ فيه، فلمَ قد يرغب شخص ما في إبراز نشاط كهذا؟ بمعنى آخر، ما الذي يبرر هذا النوع من تحديد الأولويات الأخلاقية التي(1) تُشجِّع على مِثل هذا السلوك(2)، وتجعل المرء يرغب بالاحتفاء به؟ الجواب هو الفردانية الليبرالية، بما تفعله من تقويض للموقف الأخلاقي الذي يَنظر للآخرين باعتبارهم أشخاصًا، وليس مجرد وسائل لتحقيق اللذة الشخصية. إن التفكير بالآخرين باعتبارهم أشخاصًا، يُعزِّز قيمة نوعية العَلاقات مقارنة بكميتها، بوصفه معيارًا لِما هو صالح، وعند تشامبرلين، وجدنا تبَنّيًا كاملًا للأخلاقيات الكَمّيَّة التي تُشجعها الفردانية الليبرالية، فيقول تشامبرلين: “لقد كنت أقوم بما هو طبيعي، ألاحق النساء الحسنوات أينما كن ومهما كن”.

النموذج الثاني:الفوز ليس كل شيء، بل هو الغاية الوحيدة“، وربما يتكرَّر الكلام المعسول القائل: بإنه إن فزت أو خسرت في لعبة ما فالمهم هو شرف المحاولة، لكن في الممارسة العملية ترسَّخت أولويات مختلفة جديدة: لتذهب القواعد والعادات والممارسات التقليدية إلى الجحيم، ولا يهم سوى النتيجة النهائية. هذا المنظور يخدم المصلحة الذاتية ولا يضع حدودًا للوسائل المُستخدَمة لتحقيق غاية معينة، ويلغي جميع القيم باستثناء الحرية، التي تُعرَّف على أنها ترخيص للقيام “بكل ما يتطلبه الأمر”. هذا المنظور يُحوِّل التفكير أيضًا إلى مجرد تخطيط استراتيجي مفيد، وعلى الرغم من أن بعض البقايا من العناصر الأخلاقية الأكثر شمولاً قد تبقى، إلا أن الانحلال وتمزق النسيج القديم، يسير بخُطى مُتسارعة، وعادةً ما يجري ذلك خِلسةً، مع الكثير من الخِداع الذاتي، وهنا تقُدِّم آين راند نموذجًا أفضل. فقد كانت راند مُدركة للآثار المترتبة على موقفها الأخلاقي، ومتسقة في التعبير عنها، معلنة قلب الأخلاق التقليدية ووجهات النظر الدينية التي تدعمها بشكل صريح. فرسالة راند الصادقة هي: لا تخدع نفسك، لا تعظ بطريقة وتعش بأخرى. كن متسقًا واعتنق الأنانية كفضيلة.

إعلان

النموذج الثالث: “التزاحم يوم الجمعة السوداء“. لقد رأينا جميعًا التغطية الإعلامية للحشود الضخمة من الناس وهي تندفع إلى المتاجر لمبيعات ما قبل الكريسماس، لذلك ما يُثير الذعر هو الازدحام الذي قد يَتسبَّب في أذية، أو دهس، أو حتى قتل الأفراد أحيانًا. إن إنجيل متى صريح هنا: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (6:24). لقد كُتِبَت هذه العبارة منذ زمن طويل، لكن “المال” –المعبود المرتبط بالثروة- لا يزال مغريًا. لماذا؟ إن عبادة المال تخدم المصالح الشخصية، كما أنها توفر فهمًا أنانيًا سهلًا لما يُسمَّى بالحياة الجيدة، حيث يكون الشخص مُحاطًا بالممتلكات. إن أولويات عبادة المال الأخلاقية واضحة، وعلامة النجاح فيها سهلة، أضف إلى ذلك التسويق لهذا المزيج وسيكون جنون الجمعة السوداء مضمونًا.

إن كلمة “الانحلال” ذات دلالة تقديرية، فهي تشير إلى أن الأُطُر المرجعية الأخلاقية أيضًا انتقلت من الأفضل إلى الأسوأ، وليس السلوك فحسب، ولعل واحدة من العلامات الأساسية للانحلال، والواضحة في النماذج الثلاثة، هي القضاء على التوازن. إن الإفراط، حسب فهم أرسطو الجيد له، هو موقف مدمر للفضيلة، فيُبدي الإنسان تعددًا في الأهواء والميول، ويمكن أن يأخذ الانتقال من مجموعة الأهواء البدائية إلى أنماط الأفعال المعتمدة، عدة أشكال. لكن هنالك شكلان بارزان هما طريقة “الإمبريالي” وطريقة “الفنان”، ويتخذ الموقف الإمبريالي ميلًا واحدًا بصورة غير مُبرَّرة، ويستثني بقية الميول، أما موقف “الفنان” فهو يقبل التعددية ويسعى للحصول على أفضل ترتيب وأفضل توازن للعناصر كلها.

وتندرج النماذج الثلاثة السابقة ضمن المعسكر الإمبريالي أحادي التفكير، فعند تشامبرلين، الإشباع الجنسي هو الهدف الرئيسي. أما قيم الحب والاهتمام بالآخرين فهي تسقط على جانب الطريق، وعند جمهور “الفوز هو كل شيء”، يَنصبّ التركيز المُطلق على الفوز، متجاهلين قيم اللعب العادل، والشرف، والنزاهة، والاحترام. أما عند حشود الجمعة السوداء، فتُهمَّش مُؤشِرات الحياة الجيدة العديدة، كاللطف، والرحمة، والامتنان، والعدالة، ناهيك عن الفضائل المرتبطة بالمسيح الذي يحتفلون بميلاده، حيث تحتل إمبريالية الاستحواذ هنا مركز الصدارة، بعبارات أخرى، تشير أمثلتي إلى وجود نموذج أخلاقي معيّن قد أًصبح مُهيمنًا، بل وحتى شاملًا للجميع.

لا تزال بعض الخلاصات الفلسفية الموازية ممكنة. أولًا، إن نشوء ادّعاء الفردانية الليبرالية حول “الأنا“، ليس إلا جزءًا من الحقيقة، وباتباع المَثل القائل: بإن نصف الحقيقة هو كذبة كاملة، فلا بد أن تثير تلك الحقيقة الجزئية الشكوك حولها. أما الحقيقة الكاملة، فتدور حول “نحن نكون”، وفي عصر الوعي البيئي يشمل مفهوم “نحن” ما هو أكبر من مجموعة الآخرين. إنه يشمل أيضًا النُظُم البيئية التي نعيش فيها وبها ومعها. ثانيًا، نُظهِر نحن البشر ميولًا عديدة أكثر من مجرد السعي للذة وتجنب الألم. إن الاهتمام بمجموعة الرغبات كاملةً، وإدراك أن بعض الميول أفضل أو أسوأ من بعضها الآخر، يسمح بخلق توازن بين الأنانية والميول الأخرى. دون هذا التوازن سيتضخم تأثير “الذات” بشكلٍ مفرط، وسنشهد ظهور المصلحة الذاتية، والانغماس في الذات، والتمركُز حول الذات. عندها لن تأخذ “الذات” مركز الصدارة فحسب، بل ستحتل المشهد بأكمله. هذا ما يبدو عليه الانحلال الثقافي. إنه يحدث في كل مكان حولنا، فقط إن أوليناه الاهتمام.

نرشح لك: الفردانية في الفكر الحديث

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا