“الفرح الكئيب”: التفاؤل والعيش في عالمنا الوحشي الجميل (مترجم)


لابدّ أنّ الشعور بالتفاؤل يُعدّ تحديًّا كبيرًا أمام كل ما نعيشه حاليًا من ظروف. فالمناخ مستمر بالتغير بسرعة في كل مكان، كما أنه أصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى التنبؤ بالتهديد الذي تسبّبت به الحرب النوويّة. بالإضافة إلى عودة السلطويّة للظهور. كل هذه المخاطر كانت موجودة حتى قبل أن نتعرّض حاليًّا لوباء تاريخي.
ومع ذلك، وفي مقال نُشر عام 2016 لمجلة وايرد، كَتَب الرئيس الأمريكي باراك أوباما آنذاك (بتفاؤل ملحوظ):

“في الحقيقة، أنه إذا كان عليك اختيار زمن محدّد في كل التاريخ البشري لتعيش فيه، فأنك ستختار الآن، وتحديدًا هنا في أمريكا”. في العام التالي، في كتابه C’était mieux avant!  “كان أفضل من قبل!”، أشاد الفيلسوف الفرنسي ميشيل سيريس بالنجاحات التي حقّقها العلم والعقل بينما كان يسخر بشكل هزلي من ميل البشرية لرؤية تاريخها من خلال عدسات “الحنين إلى الماضي” الورديّة الانتقائية. يذكرنا “سيريس” أنه في السابق، كان هناك عمل وجهد أكثر، في ظروف أكثر صعوبة، وبدعم أقل من التكنولوجيا. كان هناك صرف صحي سيّء ورعاية صحيّة أقل فعالية. كان هناك صراع أكثر، و عنف أكثر. ربما لم تكن الأيام “الجيّدة” جيدة مقارنة بالحاضر!

سيدافع عالم النفس الكندي ستيفن بينكر عن وجهة نظر مماثلة بعد عام واحد فقط، وذلك في كتابه “التنوير الآن“.
وسيوضح أن فكرة العالم الذي يزداد سوءًا هي فكرة مضلّلة، “هي ليست مجرد فكرة خاطئة – بل هي خاطئة، بمقدار خطأ فكرة الأرض المسطّحة“.
تُظهر البيانات بوضوح أن أوباما وسيريس وبينكر مُحقّون بشأن بعض المقاييس الموضوعية للرفاهية – ومع ذلك يشعر الكثير من الناس بعدم الرضا. في بعض الأماكن، بما في ذلك الولايات المتحدة، كانت السعادة كما عبّر عنها كثيرون في حالة تراجع بالفعل.
إذن كيف يجب أن ننظر إلى هذا العالم: هل بعين التفاؤل أم التشاؤم؟ قبل أن نجيب، يجب أن نفكر في الانتشار الواسع لكل من الخير والشر الموجود في العالم.

يمكن لأي كان أن يصف شكل الحياة الآن بأنها أفضل بكثير عن السابق، ولكن بالمقابل لا يزال هناك حذر كبير بشأن الوضع الحالي أو أي آفاق مستقبليّة تتعلق به.
يتّفق المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري مع بينكر، لكنه يعتقد أنّ الأخير قد رسم صورة غير مكتملة: “فالأشياء للبشر أفضل من أي وقت مضى”، كما قال في محادثة مع بينكر في عام 2019. “الأمور لا تزال سيّئة للغاية. ويمكن أن تزداد الأمور سوءًا. “كل هذه أسباب مهمة بالنسبة للبشر، خذ بعين الاعتبار الانقراض الجماعي السادس، وبالنسبة لما هو “سيء جدًا” فلنأخذ بالاعتبار (كوفيد-١٩)، أما ما يقصده ب”أسوأ كثيرًا”؛ هو تغير المناخ.
ويكمل هراري حديثه: “لكي نكون منصفين، فإن حجة بينكر هي بقوله أنّ الأمور قد تحسّنت، وليس أن الأمور ستستمر بالضرورة في التحسن في المستقبل.

والأهم من ذلك، أنه في الوقت الذي يجب علينا فيه الاحتفاء بما حققنا من تقدم وتطور عبر التاريخ، فإن هذا التقدم من الممكن، إن لم نتوخّ الحذر، أن يشتت انتباهنا عن التعامل مع الكثير من الحقائق القاسية؛ والفشل في التعامل مع هذه الحقائق يمكن أن يمنعنا من العيش بشكل جيد.

عند النظر إلى الظرف الإنساني، سواء في حالة الغنى أو الفقر، في سن الشباب أو الشيخوخة، وعند النظر أيضا إلى الأشياء التي قد تعتبر أكثر أو أقل يقينًا لدينا، فإن الموت، هو الأكثر حضورًا. بالإضافة إلى حتميّة المعاناة – سواء بالنسبة لنا أو بالنسبة لأحبائنا، وهو الأصعب. هذه جميعها أمورٌ تثقل كاهل الإنسان في مرحلة ما من عمره. كما أن هناك كثيرون ممن قد يعانون من الشعور بالوحدة المؤلمة في حياتهم، فلا هم قادرون على توصيل تجربتهم بشكل كامل للآخرين، ولا هم قادرون على فهم تجاربهم.

على الرغم من كل التقدم الذي قد نعيشه، لا يزال الظلم منتشر إلى حد كبير، حتى بالنسبة إلى المحظوظين منا ممن يعيشون في مجتمعات مستقرة نسبيًا.
أي كان ممن لديهم القدرة على رؤية حقيقة الأشياء يدركون جيّدًا عجزنا النهائي عن رؤية الصورة الأشمل للأمور، حتى بالنسبة للأشخاص الأكثر نجاحًا، فإن طبيعة الزوال والتغيّر إن كانت في مشاريعنا أو إنجازاتنا، والتي لا يدوم منها سوى القليل ولفترة زمنيّة معينة هو ما يقودنا إلى التعامل مع فكرة المعنى غير المؤكد لكل شيء واحتمال عدم وجود أي معنى لأيّ من انجازاتنا.

إعلان

من المؤكد أن فكرة التوازن في كل شيء، قد يجعل من الحياة شيئًا جيدًا. فقر أقل وعنف أقل، وبغض النظر عن عدد السنوات الإضافية من الحياة والتي قد تشتريها لنا التكنولوجيا الطبيّة، فإن أي شخص يعيش حياة يشعر بأنه لا معنى لها – أو ذات معنى ضحل – فإنه لا يمكن اعتبار سنوات حياته الإضافيّة سنوات أكثر من الرضا بل شعور أقل بالفرح و الاكتمال. نعلم أن هذا صحيح بشكل أو بآخر ، لكننا نواجه صعوبة في مواجهته أو فهمه. لذا، فإن معظم الناس يتعثّرون في حياتهم وهم يتعاملون مع الجانب المظلم للواقع بسبب جهلهم، عدم اهتمامهم، وتجنبهم له.

ربما يكون المثال الأكثر وضوحًا لشخص قد يفشل في إعطاء الواقع المرير حقّه في الوجود إلى أن يكون قد فات الأوان هو بطل رواية ليو تولستوي The Death of Ivan Ilyich (1886). يُحقق إيفان كل ما تعلمنا أن نسعى إليه ونحاول تحقيقه: التعليم، المكانة الاجتماعية، الاستقرار المالي، والنجاح المهني. يكتب تولستوي أن حياة إيفان “كانت بسيطة للغاية وخالية من الأحداث” ، “ومع ذلك فهي الأكثر فظاعة”. بعد أن أصابه مرض غامض في مقتبل العمر، أدرك إيفان أن حياته، المليئة بمواكبة المظاهر والاهتمامات التافهة، لم تمنحه الوقت للتفكير بجديّة في يوم وفاته، وأنه لن يكون بمقدوره السيطرة عليه.

لذلك، فإن أحد الأسباب التي تتجلى بوضوح لنا لضرورة التفكير أكثر في الجانب القاسي للحياة هو أننا لا نستطيع حقيقةً تجنّبه، فإن للحقائق طريقة مضحكة لفرض نفسها علينا. ولن يساعدنا أي قَدْرٍ من التقدُّم أو الثروة بتجاهل تلك الحقائق إلى الأبد. في النهاية، فإن عدم رغبتنا في رؤية الواقع على حقيقته سيؤدي إلى أشكال إضافية من المعاناة كنتيجة لتعاملنا مع انتكاساتنا بطريقة منحرفة كأزمات منتصف العمر والتي تدفعنا دائما للسعي وراء الأهداف الخاطئة، أو نوبات الذعر على فراش الموت مثل ما حدث مع إيفان.
لذا فإنه من الأفضل رؤية الواقع بعيون مفتوحة منذ البداية، وترتيب أولوياتنا بناءً على تقييم واضح للأشياء

يشوه الجهل وعدم القدرة على المواجهة تقييمنا للعالم الأوسع. فعندما ننشغل بما لدينا من صحة وثروة وأمان، فإننا قد نتجاهل الكثير من الحقائق القاسية التي لا يمكننا تجنبها عاجلا أم آجلا في حياتنا، كما أننا قد نتجاهل الحقائق القاسية التي من الممكن أن يعاني منها الآخرون في حياتهم، والتي من الممكن جدا تجنّب بعضها.
لن نستطيع أبدًا القضاء كليًّا على الخسارة والانحلال والمعاناة والموت في هذا العالم. ولكننا، إذا قبلنا ببساطة العالم كما هو – إما لأنّ “العدالة” دائما ما تخبرنا أنه عالم مثالي، أو لأن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه يخبرنا أنه يجب علينا أن نقول “نعم” لكل التفاصيل “الصغيرة “، أو لسبب آخر – حيث أننا نميل للتصرف بقسوة ولامبالاة تجاه مواقف معينة نعتبرها شرًّا.

على سبيل المثال، ليست حقيقة الفقدان ذاتها، هي ما يجب أن نحاول تجنبه، بل فقدان سلالة أو فقدان النظام البيئي بسبب تغير المناخ والذي سيؤثر على الحياة البشرية. كما أنه ليست حقيقة الموت هي التي لا يمكن تجنبها، بل موت ذلك اللاجئ من جوع أو مرض هو ما يمكننا تجنبه.
سعينا للسعادة يجب أن لا يكون على حساب التجاهل أو اللامبالاة. فليس الهدف هنا هو الاستسلام لليأس أو العيش بشكل قلق بطرق لا يكون فيها الواقع كما يمكن أن يكون. فهذا مثل من يغض البصر عن عيوب العالم. إنما المقصود هنا هو إعطاء الواقع حقه. عندما نقوم بذلك، فإن ما سنجده سيتجاوز حصر الأمر بوجود كارثة. إذا سمحنا لأنفسنا برؤية حطام هذا العالم بشكل أكثر وضوحًا، فإنه سيظهر لنا أيضًا شيئًا آخر. كما لاحظت الكاتبة آني ديلارد في Pilgrim at Tinker Creek (1974):

“القسوة هي لغز ومضيعة للألم. لكن إذا وصفنا عالماً يربط بين هذه الأشياء، عالمًا فيه لعبة قاسية طويلة الأمد، فإننا نواجه لغزًا آخر: اندفاع القوة والضوء، والكناري الذي يغني على الجمجمة… هنا يبدو أنه إن تكون شيئًا مثل الجمال ، نعمة لا مبرر لها أبدا.”

نعم ، إن العالم مليء بالمعاناة، مكبّل بالموت والفوضى؛ لكنه أيضًا، بشكل لا يمكن إنكاره، مليئ بالجمال والعجائب وفرص الحب والرحمة. وعلينا أن نعترف بكلا الواقعين.

إذا أدّى صدق تعاملنا ورؤيتنا للأشياء إلى إنهاء السعادة الساذجة أو البريئة، فإنه سيفتح بداخلنا إمكانية لشيء أكثر نضجًا. البشر، بشكل خاص، هم الكائنات الوحيدة التي بالإضافة إلى قدرتهم على تقييم جودة الأشياء فيما يتعلق برغباتهم واهتماماتهم وأهدافهم، فإنهم يمكنهم أيضًا تقدير الشيء الجيّد لذاته، جيّد بغض النظر عن علاقتهم به، جيّد بشكل مستقل عن كيان الإنسان. ولهذا، فإن لدينا كلّ الإمكانية للنظر إلى العالم بامتنان، غير راضين عنه أو سعداء به، لكنّنا ممتنون. يُمكننا أن ننظر إلى سماء الّليل ونشعر بأنه أكثر من مجرد فضاء صامت لامتناهي كالذي أرعب الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال. يمكننا تجربة الواقع والفرصة المذهلة والنادرة التي جعلت منا كائنات نعيش هنا فنقدّرها، كهديّة

في النهاية، يُخطىء كل من المتفائل والمتشائم، لأنّ كل منهما يبحث في جانب واحد من الصورة. عندما نفتح أعيننا على ثراء الواقع، فإن ما نجده هو لوحة تشياروسكورو للظلام والنور. إن مُجمل الأدلة يثير فينا شيئًا مثل “الفرح الكئيب”؛ فرح ممتن وغير مُقيّد لخير الوجود، لكن يشوبه الحزن لانتشار الشر والكآبة وأن كل شيء قابل للزوال. تُساعدنا رؤية الشر في العالم على العيش بشكل جيّد قدر المستطاع، لأن الموت قادم لنا جميعًا، والفوضى تقضم أطراف وجودنا. بالمقابل، فإن رؤية الخير تساعدنا على العيش بامتنان، وتخفيف مرارة الواقع.


مصدر الترجمة

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا