العزلة من منظور آخر
“الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع إلا أن يعيش بين جماعة تشاركه همومه وأفراحه” هذه الجملة الأولى عادةً التي تتردد على مسامعنا عندما نخبر الآخرين بأننا نحتاج أن نكون برفقة أنفسنا لفترة، نحتاج فترة للعزلة مع أفكارنا وأخذ قراراتنا الخاصة.
فنقابَل دائمًا بالاستهجان والاستغراب، ولكن بالتفكير بالأمر للحظة لماذا يجب أن يكون الإنسان محاطًا بالآخرين دومًا ويجب أن يكون الآخرون شركاء معه في ذاته، ومشاعره وأفكاره؟
أليست جميعها تخصه هو وتؤثر على حياته هو بالنهاية؟ فلماذا يجب أن يكون الآخرون شركاء بهذا طوال الوقت؟
إن الخوف من العزلة هو أشبه بالقول بالخوف من مواجهة أنفسنا، الخوف من حديثنا الداخلي..
عندما يصبح اندماجنا مع الآخرين وسيلة للهرب من مواجهة ذواتنا؛ نظن بفطرتنا أن الهروب من مشاعرنا المؤلمة وأفكارنا السلبية هو بزيادة التواجد مع الآخرين..
ولا شك أن التواصل الاجتماعي ووجود علاقات صحية تربطنا بهم مفيد لدرجة كبيرة بتوضيحها أمورًا لأنفسنا لم نكن لنتبه إليها، وفي تحسين صحتنا النفسية بشكل عام.. ولكن كيف سيبدو الأمر في الحالة المعاكسة؟
لو أن معظم من حولنا لا يستطيعون فهم ما نمر به أو لا يقدمون لنا المساعدة بالشكل الذي نطلبه ولو أن نصائحهم لا تتناسب مع مانريد فعله أو مع ما نشعر به؟ ماذا لو سعادتنا وأحزاننا أصبحت محصورة بمشاركة الآخرين لها؟ ولا نستطيع تحقيق الرضا والسعادة عن أنفسنا إلا بوجودهم؟
لو أصبحت نظرتنا لأنفسنا هي نظرتهم وحديثنا الداخلي هو حديثهم وأفكارنا هي أفكارهم؟
عن علاقة العزلة بالطفولة:
لو عدنا إلى جذور كوننا لسنا ما نريد وعدم قدرتنا على تكوين حيز خاص بنا، سنعود إلى الطفولة إلى تلك السنوات التي كنا فيها كائنات ضعيفة لا تستطيع التحكم كليًا بما يجب رفضه أو تقبله.. هذه السنوات الخمس الأولى التي أجمع عليها علماء النفس تتكون فيها شخصياتنا يتكون بها الشخص الراشد الذي أصبحنا عليه الآن، أفكاره وسلوكاته والطريقة التي يتعامل فيها مع صراعاته وألمه، والطريقة التي يتقبل فيها ذاته والطريقة التي يعبر بها عن خوفه عن غضبه.. وعن مقدار حاجته واعتماده على الآخرين.. جميع مانحن عليه الآن هو نتيجة ما تعلمناه، وما شاهدناه في طفولتنا من كل نظرة حب أو كره نفذت إلينا من المحيط الذي عايشناه؛ من الأسرة والمدرسة وكل منظومة اجتماعية وُجدنا بداخلها، وبالنتيجة قدرتنا على تحمل مشاعر الألم، والخذلان والوحدة.. وبالتالي قدرتنا على تحمل العزلة بأنفسنا وأفكارنا. هي نتيجة ما زرعه هذا المحيط في هذه المرحلة فينا عندما كنا أطفالًا.. عند مرحلة معينة عندما نفقد جميع السبل للراحة ونشعر بالعجز والخذلان ليس هناك أفضل من المواجهة من السماح لألمنا الدفين أن يخرج من مكانه المظلم أن نتواجه مع أنفسنا و أن نأخذ قرارات لا تنبع من أحد آخر وإنما فقط من تجربتنا نحن ومن منظورنا وتقديرنا للأمور.
وربما سنكون غير قادرين على تحمل أفكارنا ومشاعرنا السلبية فلا نستطيع إيجاد حلول لها فلا ضرر من أن نلجأ للعلاج النفسي حينها..
ختامًا:
لا يقتصر مفهوم العزلة فقط على فكرة إبعاد أنفسنا عن الآخرين جسديًا ولكن هو أشبه بمحاولة لسماع صوتنا الداخلي وأفكارنا اللاعقلانية التي نخاف من مجرد التفكير فيها لثانية ونستمر بكبتها وإبعادها.
وبالتالي هي ليست محصورة على الفنانين والمبدعين فهي ضرورية لكل إنسان من فترة لأخرى حتى يستطيع موازنة نفسه واتخاذ قرارته الخاصة وإعادة التفكير والمحاكمة لكل شيء حوله. ونتيجةٌ لا بد منها.
إن قدرة الإنسان على تحقيق التوافق بين تفاعله مع الآخرين وبين أخذ حيزه الخاص وتحمل المسؤولية ومواجهة آلامه بمنطق وعقلانية هي مظهر أساسي من مظاهر الصحة النفسية.